إن مقولة (العلاقات العربية)، تظهر أكثر دلالة من حيث المعنى العام على هوية الوطن العربي القومية من محيطه الأطلسي إلى خليجه العربي، إلا أن مقولة العلاقات الخليجية- العربية تعطي خصوصية لجزء من الوطن العربي (منطقة الخليج العربي) صنعتها ظروفها الأيكولوجية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وتميزت بانسجام ثقافي وأيديولوجي أكثر من أي جزء آخر في الوطن العربي، ما أعطاها خصوصية (كتلوية) فريدة من حيث الخصائص والاهتمام الإقليمي والدولي نظراً لحساسية موقعها الجغرافي من جهة وامتلاكها نسبة عالية من مصادر الطاقة في العالم من جهة أخرى، وانعكاس ذلك على رؤيتها السياسية تجاه محيطها العربي والإقليمي والدولي مقابل نظم وأيديولوجيات عربية أخرى مختلفة عن بعضها بعضاً.
يمكن توصيف هذه العلاقات منهجياً في إطار محيط عربي متأزم حمل لأكثر من نصف قرن عوامل التناقض الأيديولوجي والتنافر الشخصي بين الحكام، في ظروف إقليمية ودولية متغيرة عصفت ولا تزال تعصف بالمنطقة العربية ليبقى مجلس التعاون الخليجي متفاعلاً تقويه الأزمات المتفاقمة في محيطه العاصف، لتتفاعل هذه الأيام دعوات اتحاد أو وحدة خليجية بعد ارتفاع حدة المخاوف الخليجية من تطورات إقليمية خطرة قد تعصف بالمنطقة في أي لحظة. إن هذا التطور في الموقف السياسي الخليجي يتطلب رؤية سياسية واقعية عربية خليجية تفضي إلى بناء علاقات خليجية- عربية فاعلة، بعيداً عن الحسابات الضيقة التي أدت بالأمة إلى الضعف والتشرذم.
أولاً: أصول العلاقات الخليجية – العربية
من يجري مراجعة بسيطة على مسيرة العلاقات الخليجية- العربية في تاريخها الحديث يجد الكثير من المواقف والوقائع الإيجابية والسلبية، وكلاهما لهما ظروفهما السياسية التي وضعت العرب لفترة طويلة بين شد وجذب، إذ كانت حياتهم قبل مجيء الاستعمار الغربي تتوزع بشكل كبير على حياة البداوة والزراعة وبعض مظاهر الحياة الحضرية المحلية، ويسيطر على الأخيرة في الأغلب طابع العهد العثماني. وبعد تنامي الثورة الصناعية في أوروبا بدأت أصوات مظاهر التحديث تصل إلى حدود الإمبراطورية العثمانية، وقد تأثر بذلك بعض أبنائها الذين أصابتهم في فترة لاحقة حالة من التململ ضد الحياة السياسية والثقافية التقليدية في مجتمعهم، لاسيما مع بداية القرن الثامن عشر بعد أن ضعف اندفاع الإمبراطورية العثمانية ذات الطابع الإسلامي في الفتح عما كان عليه في مطلع القرن السادس عشر، لتظهر فيها مظاهر الانحلال والتراخي ولاسيما في أمصارها المختلفة وظهور عدد من الداعين إلى الحداثة مستفيدين من اتصالهم بالحياة الأوروبية، حيث أنشأوا بعض الصحف في باريس والقاهرة، وهي تنادي بالتجديد والحداثة. إن الغرض من الإشارة إلى هذا التطور يعطينا فرصة مناسبة لفهم أصول العلاقات الخليجية- العربية فيما بعد، لاسيما أن الحياة العربية بدأت تتأثر هي الأخرى ببعض قنوات الحضارة الأوروبية، كما حصل مع حملة نابليون على مصر. ويمكن القول إن بداية القرن العشرين تمثل بداية انتقال واضحة في الحياة العربية نحو هويتها القومية مع تأثرها بمصطلحات جديدة بدأت تصل إلينا، مثل القومية والوطنية وغيرهما بعد أن كانت الثقافة السائدة (أرض المسلمين للمسلمين)، فظهرت بعض النظم الملكية بعد اجتياح الاستعمار الغربي مناطقها وقيام شعوبها بالثورة عليه، كما حصل في مصر والعراق وغيرهما، محققة نوعاً من الحكم الوطني، في حين بقيت بعض أجزاء الوطن العربي تحت السيطرة الفرنسية أو الإيطالية، كما في دول شمال إفريقيا، إلى أن تم تحررها بعد كفاح وطني مسلح. هذا إذا علمنا أن منطقة الخليج العربي تعرضت هي الأخرى إلى حملات عدة، أولاها الحملة الهولندية والبرتغالية بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح واقتصار الطريق بين الشرق والغرب، إذ عاشت الجزيرة ومنطقة الخليج العربي صراعات عنيفة في عدد من مناطقها ضد الحملات الأوروبية الغازية والساعية للسيطرة على مناطقها الحيوية وطرقها الملاحية الاستراتيجية، كما شكّل النفوذ الفارسي في بعض أجزائها قلقاً خليجياً كبيراً، لا سيما في منطقة عمان، إذ كافح أهلها وزعماؤها في سبيل التخلص منه ومن كل أشكال السيطرة الأجنبية الأخرى بعد سلسلة من المواقف السياسية والحربية التي مكنتهم في نهاية الأمر من تحقيق الانتصار وطرد الغزاة. وفي هذا السياق كانت السيطرة العثمانية في تراجع ملحوظ مع ارتفاع موجات المد الغربي ولاسيما الإنكليزي في منطقة الجزيرة والخليج العربي، فظهرت تحالفات مع أسر عربية ضد تحالفات أسر أخرى كانت معقودة مع العثمانيين (مثل آل رشيد وغيرهم). وقد جاء هذا متزامناً مع إصرار (آل سعود وغيرهم) على بذل جهود محلية قوية لإنشاء كيانات سياسية تعبر عن طموح أهلها، كما كان الحال في قيام المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربية، ليكون اكتشاف النفط خلال القرن العشرين بداية عهد جديد في تطور هذه الدول وتحديثها، وقد تمكنت بذلك من صنع موازينها السياسية وفق واقع حالها آنذاك والمرافق لحال أجزاء الوطن العربي الأخرى، الذي أخذ بالتبلور إثر اتفاقية (سايكس- بيكو)، لتظهر مرحلة تنظيمية جديدة من العلاقات الخليجية- العربية قائمة وفق أصول القانون الدولي. وكذلك أدت التطورات العالمية إلى بروز طموحات تحررية في كثير من الدول العربية المشكلة حديثاً إثر تلك الاتفاقية، ولاسيما بعد ظهور القطبين الغربي والشرقي على الساحة الدولية، فظهرت في الوطن العربي الحركات الوطنية المدعومة من الشرق ضد الاستعمار الغربي، وقد تمكنت بعضها من التخلص من النظم الملكية وإقامة نظم جمهورية، كما حصل في مصر والعراق وغيرهما، كما كانت المنظومة الاشتراكية أيضاً تحرض النظم الجمهورية الوليدة ضد النظم العربية الخليجية التي وصفت آنذاك بالمحافظة أو أنها تمثل مناطق نفوذ للغرب. كما استطاعت شعوب أخرى من التخلص من الاستعمار الفرنسي والإيطالي كما حصل في الجزائر وليبيا وهكذا. وفي هذا الجانب يمكن التأشير على مرحلة مهمة في حياة العرب حينما انقسم واقعهم السياسي حول مصطلحين ترددا كثيراً على مسامع الجماهير العربية حتى أضراها أكثر ما نفعاها هما دول (تحررية ثورية اشتراكية) و(دول رجعية مرتبطة بالاستعمار الغربي). ويمكن القول إن ذلك يمثل أهم حلقة من أصول العلاقات الخليجية – العربية في تاريخها الحديث، كما كان العزف على وتر هذين المصطلحين لعقود عدة قد ترك آثاراً سلبية على العرب جميعاً، أبرزها ظهور الجفاء والعداوات بين الحكام آنذاك، ولاسيما بعد صعود بعض العساكر وبعض المتأثرين بالأيديولوجية الاشتراكية والمقلدين لها إلى دفة الحكم في بعض الدول التي وُصفت آنذاك بالتقدمية. ولذلك فإن الصراع السياسي داخل الوطن العربي أخذ هذا المنحى، ما أتاح للقوى الإقليمية والدولية الاستفادة من ذلك في تحقيق التباعد بين أجزاء الوطن العربي، كما أن بنية العقلية العربية نفسها كانت مهيأة لمثل هذا الصراع نتيجة لتأثر قطاع واسع من العرب بالأفكار الثورية إثر انهيار النظم التقليدية في دولهم، ما شكّل تهديداً مباشراً للوطن العربي بكامله في مرحلة مهمة من تاريخه الحديث، وهي مرحلة ظهور الدولة الحديثة، وانعكس ذلك سلباً على واقع المجتمع العربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وعلى العلاقات العربية – العربية ولاسيما العلاقات الخليجية –العربية لتظهر خطورة آثار ذلك جلية في المرحلة الحالية بسبب المخاطر والتهديدات الجدية التي يتعرض إليها العرب من كل الاتجاهات، فضلاً عن التهديدات الداخلية نتيجة للحراك الشعبي أو حراك (الربيع العربي)، إذا لم يتم استثماره استثماراً سريعاً لصالح الإنسان العربي وتنمية مجتمعه وحفظ أمنه القومي.
المحيط العربي لدول الخليج حمل عوامل التناقض الأيديولوجي والتنافر الشخصي بين الحكام
مجلس التعاون مازال متفاعلاً تقويه الأزمات المتفاقمة في محيطه العاصف
مسيرة العلاقات الخليجية- العربية في تاريخها الحديث شهدت الكثير من المواقف الإيجابية والسلبية
الأطماع التي تحيط بالوطن العربي تستهدف كل الأرض العربية وليس جزءاً دون آخر
ثانياً: العلاقات الخليجية – العربية في ظروفها الحالية
أدت الظروف الدولية التي تفاعلت بشكل خطير مع نهاية عقد ثمانينات القرن الماضي إلى تغيرات سريعة هزت العلاقات الدولية والإقليمية، وأدت إلى إرباكها حتى امتدت آثارها إلى مختلف أجزاء العالم بما فيها منطقة الشرق الأوسط، بعد أن اهتزت أركان التوازن الشرقي - الغربي لصالح الغرب، حيث انفجرت في أوروبا الشرقية ثورات شعبية عارمة إثر انهيار الاتحاد السوفييتي سقطت على أثرها عروش وأيديولوجية استمر سلطانها على شعوب أوروبا الشرقية عقوداً عدة ليجد الإنسان هناك فرصة للتعبير عن ذاته، وهو ينفض عنه غبار سنوات طويلة من الخضوع والتوجيه الأيديولوجي المركزي، وقد تأثرت المنطقة العربية بهذه التغيرات وخاصة العلاقات الخليجية- العربية، إذ حصل نوع من التقارب بين بعض النظم السياسية العربية، كما ضعفت من جانب آخر حدة اللغة الثورية والتطلعات التقدمية، إلا أنه في الوقت نفسه حصلت تطورات خطرة في العلاقات العربية – الخليجية، ولاسيما بعد حرب الخليج الأولى ونتائجها على المشهد السياسي الخليجي على وجه التحديد، فضلاً عن ظهور بعض التحالفات السياسية العربية بين بعض النظم العربية، وما رافقها من مخاوف إقليمية ودولية وظروف اقتصادية صعبة أراد بعضها بلورة تحالف أو جبهة ضد تحالفات عربية أخرى ولاسيما ما يتصل بأهداف بعض أطرافها، ما أدى إلى انفراد بعضها في تقييم الأمور بشكل ارتجالي أدى إلى احتلال الكويت، وهو ما جعل المنطقة العربية أيضاً تنقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم مؤيد لاحتلال الكويت، وقسم آخر رافض له، ما أخلّ ببنية العلاقات الخليجية مع بعض الدول العربية، وأدخلها في أزمة كبيرة أدت في أغلب الأحيان إلى إلحاق الأذى بالعرب جميعاً، كما أن انطلاقة الدعوات إلى العولمة وإقامة نظام عالمي جديد زادت من إرباك المشهد السياسي العربي بكامله. ويمكن القول إن العلاقات الخليجية- العربية آنذاك مرت بمد وجزر، ونتيجة للظروف المتلاحقة في المنطقة العربية دخلت هذه العلاقات مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها المرحلة القلقة وبروز رؤى جديدة في خريطة العلاقات الخليجية – العربية قائمة على أساس المصالح المشتركة بين بعض النظم العربية ودول الخليج العربية وتحت رؤى سياسية، بعضها يعود إلى اعتبارات أيديولوجية والعداوات الشخصية بين بعض الحكام، كما كان الحال بين العراق وسوريا على سبيل المثال، نتيجة لعدم الاتساق بين بنى حكامها العقلية، وليس بسبب مصالح الأمة كما كان يعلن كل طرف، لتزداد الأمور تعقيداً بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وجعل العراق ساحة واسعة للتدخل الخارجي، وما تركه ويتركه ذلك على مستقبل المنطقة العربية عامة ومنطقة الخليج العربي خاصة.
واليوم تمر المنطقة العربية بتغيرات دراماتيكية أسقطت نظماً سياسية عاتية بسرعة مذهلة، ولا تزال هذه التغيرات تهدد نظماً أخرى، ومن يتأمل الموقف الحالي يقف أمام مشهد أخذت تتشكل فيه خريطة المنطقة السياسية وفق تصورات لا أحد يعرف اتجاهاتها المستقبلية في أجواء قلقة تنتاب المشهد السياسي الداخلي لكل دولة، وقد ظهرت فيها ثقافات وأيديولوجيات مختلفة متصارعة تحت رؤى الحرية وشعارات الديمقراطية، ولا أحد يمكنه فهم ما سيحصل غداً وسط توقعات بصراع ثقافي بين بنى عقليات مختلفة غير قادرة على تحقيق درجة مقبولة من الاتساق الذهني فيما بينها، وهو ما يمكن أن تستفيد منه أطراف إقليمية ودولية إذا لم تتمكن الجماهير الشبابية قائدة الثورات العربية من بلورة رؤى تنظيمية تتعدى البنى العقلية للأحزاب التقليدية المتصارعة. وسط هذه التطورات والتغيرات السريعة تمر العلاقات الخليجية – العربية بمرحلة تبلور جديدة، لا أحد يعرف مداها في أجواء دولية وإقليمية معقدة، ولذلك ينبغي على القيادات الثورية الشابة الانتباه إلى خطورة التغيرات التي تنتاب العلاقات العربية- العربية بشكل عام، والعلاقات الخليجية – العربية بشكل خاص من خلال ما يلي:
1- ضرورة قيام الجماهير الشبابية قائدة الثورات في المنطقة العربية بوضع تصورات علمية عن شكل تطور العلاقات العربية، وتعمل باستمرار على وضع مصالح الوطن العربي في الاعتبار، وهي تقود التغيرات الداخلية. أي ينبغي عليها ألا تنشغل بالداخل فقط، إنما عليها أن تضع في برنامجها تقوية العلاقات العربية وفق المصالح الجوهرية للمنطقة العربية بكاملها ضد الأطماع الإقليمية والدولية، ومنع أي إرباك في الساحة الداخلية يمكن أن تستفيد منه أطراف خارجية.
2- ضرورة الانتباه الشديد إلى استثمار جهود الثوار من قبل بعض الأحزاب التقليدية والوصول إلى السلطة تحت لعبة الديمقراطية، إذ ينبغي تشكيل هيئة تنظيمية تستفيد من آراء الخبراء والمخلصين لقضايا الناس الحيوية في التحرر من الجهل والفقر وجعل الإنسان قيمة عليا، وأن ترسم ملامح ثوراتها بشكل ينسجم مع ما يجري من تطور حضاري في العالم، وهذا يأتي من خلال تبني برنامج اقتصادي وحضاري ودبلوماسي متفاعل مع الحضارة الإنسانية يعتمد على الإنجاز، ويبتعد عن التصورات الفلسفية المجردة الحالمة، ويضع في الاعتبار أهمية العلاقات العربية بما فيها العلاقات الخليجية- العربية لرسم خريطة سياسية عربية صعبة الاختراق.
3- ينبغي على القوى الشبابية صاحبة (الربيع العربي) الإدراك بأن الأطماع التي تحيط بالوطن العربي لا تستهدف جزءاً دون آخر، إنما تستهدف كل الأرض العربية سواء في الخليج العربي أو المغرب العربي، وأن بلورة علاقات عربية – خليجية تأتي من خلال فهم أعمق للترابط بين جناحي الوطن العربي، وهذا التطور ينبغي أن يقوم على أساس الشعور بالمصير المشترك.
4- لا يمكن الخروج من الأزمات التي تمر بها المنطقة العربية اليوم من دون وضع استراتيجية عربية مشتركة قائمة على أساس فهم البرامج الجديدة للعلاقات العربية -العربية بشكل عام، لأن المشروع الحضاري الذي ينبغي أن تتبناه القوى الجديدة، بعد تخلصها من القوالب التقليدية، يجب أن يقوم على أساس فهم المشاريع الأجنبية تجاه الوطن العربي، وأيضاً فهم أكثر ذكاء لبعض التداعيات الداخلية التي قد تحصل هنا وهناك، والتي قد تقود المنطقة العربية إلى صراعات مختلفة. لذا فإن تقييم العلاقات الخليجية- العربية في ظل هذه الظروف يحتاج إلى رؤية خليجية عربية قادرة على تجاوز الصعاب التي قد تنتاب هذه العلاقات مستقبلاً.