الحركات الإنسانية لا تنشأ فقط من الظروف الاقتصادية أو السياسية، بل تتغذى أيضًا على الهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات. وعليه، فإن الفصائل السياسية السودانية اليوم تواجه تحديات لا تتعلق فقط بالصراع على السلطة، بل أيضًا بالصراع على الهوية والشرعية. في غياب قدرة القوى السياسية على تحقيق نوع من التوافق حول قيم وأسس حكم مشتركة، تصبح الأزمة أكثر تعقيدًا، مما يهدد بتحويل البلاد إلى مناطق نفوذ متصارعة تضعف قدرة الدولة على الاستمرار.
فقد شهد السودان على مدار الأعوام الماضية، وتحديدًا منذ عام 2019م، تهاويًا وتشرذم لخط الدفاع الأول لأي دولة، والمتمثل في التوافق الوطني، الذي يُعد أمرًا حيويًا بين مختلف المكونات الاجتماعية والقبلية لبناء وحدة داخلية تشكل حاجزًا أمام الصراعات المستقبلية. وبغياب هذا الخط الدفاعي، نجد أن النزاعات حول السلطة والموارد تتصاعد، ما يزيد من هشاشة الدولة ويهدد وحدة النسيج الاجتماعي السوداني.
في ظل تهاوي خط الدفاع الأول لاستقرار الدولة في السودان، نجد أن البلاد تواجه تحديات جمة في معالجة أزمتها الحالية. فَقد السودان القدرة على تحقيق وحدة داخلية بين مختلف مكوناته الاجتماعية والقبلية، ما أدى إلى تصاعد الانقسامات السياسية التي تعيق بناء مؤسسات قوية وقادرة على إدارة الأزمة. التنازع بين الجيش وقوات الدعم السريع يمثل أبرز تجليات هذا التشرذم السياسي، حيث أدى غياب التوافق الوطني إلى تصعيد الصراع الداخلي وتفاقم الأوضاع الإنسانية. وبدون هذا التوافق، الذي يعد أساسًا لاستقرار النظام السياسي وبناء الثقة بين المواطنين، أصبح السودان عُرضة لانفجار أزمات متعددة تمتد آثارها إلى الاستقرار الإقليمي والدولي، ما يجعل من الصعب إيجاد حلول فعالة للأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة.
وفي خضم هذا وذاك، يتأرجح السودان بين ثنايا المخاطر، فالصراع المستمر قد أطلق سلسلة من الأزمات التي تتراوح من النزوح الجماعي إلى تدهور الأوضاع الإنسانية، ما يجعل المؤسسات العالمية والإقليمية وحتى الوطنية غير قادرة على التعامل مع تلك الأزمات بشكل فوري وفعّال. لا سيما في ظل غياب بعض القوى الدولية الفعالة والتي تعزز من فعالية تلك المؤسسات وظهور أخرى تسعي إلى تحقيق مصالح أحادية. فالأزمة أودت بحياة حوالي 150 ألف شخص حتى بداية عام 2025م، ونزوح ملايين آخرين، الأمر الذي يكشف عن تعقيد يفوق مجرد الصراع العسكري، بل يمتد إلى أزمة سياسية ذات أبعاد اجتماعية عميقة.
هذا الصراع يعكس اختلالات بنيوية في نسيج الوحدة السوداني، حيث يشكل التنوع القبلي عاملًا مركزيًا في تشكيل الولاءات والانقسامات السياسية. فالحركات الإنسانية، سواء كانت سلمية أو مسلحة، غالبًا ما تتولد من حالة من الفراغ السياسي والاجتماعي؛ حيث يعجز النظام الحاكم عن معالجة قضايا التنوع والهوية. وهو ما يمكن ملاحظته في النزاعات التي نشأت عن تهميش بعض الفئات السودانية على مر العصور، واندلاع حركات مقاومة ذات طابع اجتماعي-إنساني.
وبمراجعة الأطروحات ذات الصلة يقوم هذا المقال على تساؤل رئيسي حول مدى استغلال القبائل السودانية للتحول والانخراط ضمن جماعات وظيفية في ظل الصراع القائم، وما تأثيرات ذلك على المجتمع السوداني؟ تستلزم الإجابة هنا تحليل محددات الموقف السوداني وتعقيداته والتي ارتبطت بنمط روابط الغبن الاجتماعي، فالأزمة الحالية في السودان هي نتاج لتراكمات من الغبن الاجتماعي الذي تعود جذوره إلى التهميش التاريخي للمناطق والفصائل المختلفة داخل السودان، وزيادة التفاوت الطبقي والاقتصادي بين النخب والطبقات الشعبية، بالإضافة إلى الاستقطاب السياسي الذي زاد من تعميق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. الغبن الاجتماعي في السودان ليس مجرد حالة عابرة، بل هو أزمة هيكلية تتطلب إصلاحًا سياسيًا واقتصاديًا شاملًا يتجاوز الحلول السطحية أو المؤقتة.
وحالة الغبن هذه قد تنم عن وجود جماعات وظيفية، وهو المصطلح الذي يٌفهم في علم الاجتماع السياسي، على أنه تجمعات اجتماعية تتشكل من أفراد أو مجموعات تربطهم مصالح وأهداف مشتركة، تعمل كأداة لتحقيق مصالح متبادلة في سياقات اجتماعية أو سياسية معينة. وتحدد وظائف تلك الجماعات وفقًا لخصائص معينة، وعلاقاتهم بالمجتمع علاقة نفعية تعاقدية، وعليه كيف تظهر هذه الجماعات في حالة السودان؟
يمكن القول إن القبائل السودانية قد تطورت في فترة ما بعد 2019م، حيث أصبح هناك تحول في الدور الذي تلعبه القبائل في الصراع السياسي والاقتصادي. وبالتالي قد تتشكل الجماعات الوظيفية وتنمو بناءً على التحولات الاجتماعية والسياسية التي تحدث في السياقات التاريخية المختلفة.
فبعد اندلاع الأزمة في أبريل 2023م، شهدنا تعزيزًا لهذه التحولات، حيث أن بعض القبائل أصبحت تُعتبر أكثر أهمية في سياق دعم القوات العسكرية المختلفة، سواء من خلال المشاركة المباشرة في العمليات العسكرية أو عبر تزويد هذه القوات بالمقاتلين من داخل المجتمعات القبلية.
في هذا السياق، تلعب القبائل السودانية دورًا وظيفيًا متعدد الأبعاد: فهي ليست مجرد كيانات اجتماعية وثقافية بل أصبحت بمثابة محركات رئيسية في صنع القرار السياسي والعسكري. ويظهر هذا بوضوح في دور قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو "حميدتي"، والتي تشكلت أساسًا من قبائل معينة، ما يعزز من التأثير القبلي في الصراع الدائر.
إن هذه الجماعات تُستغل المجتمع لتحقيق أهداف معينة وفقًا لوظيفتها المحددة، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو عسكرية. في حالة قوات الدعم السريع، يمكن القول إنها تشكلت في الأصل كقوة عسكرية تعمل لصالح النظام، لكنها مع تصاعد النزاع في السودان وتحول الأوضاع بعد عام 2019م، أخذت في التبلور كجماعة وظيفية تهدف إلى تحقيق مصالح سياسية وعسكرية خاصة، وتعتمد على القبائل السودانية لتحقيق أهدافها.
منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، أخذت قوات الدعم السريع في استغلال الجماعات القبلية السودانية لعدة أهداف:
- استغلال القبائل كمورد بشري:
بعد أن قامت قوات الدعم السريع بتوسيع سيطرتها على العديد من الولايات السودانية، بما في ذلك دارفور، استغلت الجماعات القبلية كمصدر بشري رئيسي. ففي مناطق مثل غرب دارفور وجنوب دارفور، قامت قوات الدعم السريع بتجنيد مقاتلين من القبائل المحلية لتزويدهم بالجنود الذين يحتاجونهم للقتال ضد القوات المسلحة السودانية.
قدمت قوات الدعم السريع حوافز مالية وعسكرية للقبائل السودانية، مثل تقديم الأموال والمناصب العسكرية والموارد، وهو ما أسهم في جذب الشباب إلى صفوفها.
- التوظيف الاستراتيجي للقبائل والولاء المشروط:
لم تقتصر قوات الدعم السريع على تجنيد القبائل وحشدهم فحسب، بل استغلت هوياتهم الثقافية والعرقية لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية. على سبيل المثال، جماعات معينة من القبائل العربية في جنوب دارفور كانت أكثر تأثرًا بالدعوات التي أطلقها حميدتي لقواته، ما جعلها تتماهى مع قوات الدعم السريع وتدعمها في النزاع.
وقد كانت التحالفات القبلية التي تم تشكيلها مع قوات الدعم السريع مبنية على المصالح المشتركة، حيث حصلت القبائل على تعويضات مادية مقابل دعمها، الأمر الذي يجعل هذه الجماعات القبلية تعمل على خدمة مصالح قوات الدعم السريع، وبالتالي أصبحت أداة لتحقيق غايات قوات الدعم السريع.
لم تقتصر قوات الدعم السريع على تقديم الحوافز المادية فقط، بل استخدمت القبائل في سياق علاقة نفعية تعاقدية، حيث كان الولاء لهذه القوات مشروطًا بتحقيق المنافع المتبادلة. هذا ينسجم مع مفهوم الدكتور عبد الوهاب المسيري حول الجماعات الوظيفية التي تقتصر علاقتها بالمجتمع على تحقيق مصالح محددة، مثل خدمة الأهداف العسكرية.
وبالتالي، القبائل التي انضمت إلى قوات الدعم السريع أصبحت جزءًا من هذا النظام الوظيفي العسكري الذي يخدم أهدافه السياسية والعسكرية، وباتت تمثل أداة لتمكين قوات الدعم السريع من تحقيق السيطرة على المناطق الاستراتيجية.
- التأثير على الصراع والشرعية:
مع تصاعد النزاع، تعززت قوات الدعم السريع كجماعة وظيفية تروج لشرعية خاصة بها، تعتمد على دعم القبائل التي استفادت من العلاقة النفعية معها. ومن خلال هذه التحالفات، استطاعت قوات الدعم السريع تأمين مناطق استراتيجية ومهمة في السودان، مثل المدن الكبرى وطرق الإمداد في دارفور.
وأصبحت القبائل التي دعمت قوات الدعم السريع تجني مصالح مادية مقابل ولاءها، وهذا يعكس التحول الوظيفي الذي حصل في كيفية استخدام قوات الدعم السريع للقبائل كأداة لتحقيق أهدافها.
في ضوء هذه الديناميكيات، تلعب الهوية الجماعية دورًا مركزيًا في تشكيل علاقة الأفراد بالجماعات التي ينتمون إليها. في السودان، أصبحت الهوية القبلية أداة تستخدمها الجماعات السياسية المختلفة في سياق الصراع من أجل تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية.
وعليه فإن هناك حالة من العلاقة التعاقدية النفعية، والتي هي نوع من العلاقات التي تنشأ بين طرفين أو أكثر بناءً على عقد يهدف إلى تحقيق فائدة أو مصلحة مشتركة. في هذه العلاقة، يكون الطرفان معنيين بتحقيق منفعة متبادلة من خلال التعاون المتبادل، سواء كانت هذه المنفعة مادية أو معنوية. على عكس العلاقات التقليدية التي قد تتسم بالروابط الاجتماعية أو العاطفية، فإن العلاقة التعاقدية النفعية تعتمد بشكل أساسي على تحقيق مصلحة مشتركة وعادة ما تكون محددة بالزمن أو بالإطار المعين الذي يتم فيه العقد.
في سياق السودان، يمكن فهم هذه العلاقة التعاقدية النفعية من خلال مفهوم "الجماعات الوظيفية"؛ حيث تتشكل هذه الجماعات وفقًا للمصالح والوظائف التي تؤديها لأعضائها في إطار اجتماعي معين. في السودان، غالبًا ما تندرج القبائل والمجموعات ضمن هذه الجماعات الوظيفية، حيث تكون العلاقات بينها مبنية على التعاون لتحقيق مصالح مشتركة تتعلق بالأمن، التجارة، أو السلطة. هذه الجماعات لا تقتصر على الروابط التقليدية مثل النسب أو الهوية الثقافية فقط، بل تتمحور حول المنفعة المتبادلة التي قد تتخذ شكل تحالفات سياسية أو اقتصادية، خاصة في ظل الأزمات أو التوترات السياسية. لذا، يبرز دور هذه الجماعات في ضمان استمرارية مصالحها الذاتية في سياق معقد من التحولات السياسية مثلما هو في السودان؛ مما يزيد من تعقيد الصراع ويؤثر بشكل كبير على هيكل السلطة والنفوذ في البلاد.
تأثيرات تحول القبائل إلى جماعات وظيفية على المجتمع السوداني
- زيادة الانقسامات الاجتماعية:
مع تحول القبائل إلى جماعات وظيفية، قد تتسع الهوة بين الجماعات القبلية المختلفة في السودان، مما يؤدي إلى تعزيز الانقسامات الاجتماعية والعرقية. تحوّل القبائل إلى كيانات وظيفية قد يسهم في تزايد التوترات بين القبائل التي تدعم أطرافًا متعارضة في النزاع. هذا الصراع يمكن أن يوسع من دائرة العنف والقتل المستهدف على أسس قبلية وعرقية.
في عام 2024م، شهدنا حالة من التباين بين القوى السياسية التي تمثل مجتمعات مختلفة، حيث أن بعض الفصائل اعترضت على فكرة الحكومة الموازية التي تحاول قوات الدعم السريع فرضها، إن هذا الطرح يعكس ديناميكية وعمق التعقيدات التي يفرزها الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ اندلاع الأزمة في أبريل 2023م، ويكشف عن الوضع المتأزم الذي يعيشه السودان. حيث أن إعلان "تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية"، باعتبارها أكبر تحالف معارض، عن انقسامها إلى مجموعتين نتيجة الخلاف حول فكرة الحكومة الموازية، هو بمثابة مؤشر على عمق الأزمة السياسية، ويشكل تهديدًا حقيقيًا لوحدة البلاد، ويؤدي إلى تقسمها إلى مناطق نفوذ متنافسة. إن الخلافات الداخلية في صفوف المعارضة قد تؤدي إلى انقسامات حادة، خاصة مع رفض فصائل رئيسية، مثل حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي وحزب المؤتمر السوداني، لفكرة الحكومة الموازية، وهي خطوة قد تهدد بتفتيت القوى المدنية السودانية وخلق صراع على الشرعية.
في الجهة المقابلة، نجد أن بعض الشخصيات البارزة مثل الهادي إدريس والطاهر حجر، وبعض الحركات المسلحة المنشقة، قد تبنت فكرة الحكومة الموازية؛ مما يعكس حجم الانقسام والتباين في الرؤى السياسية بين الأطراف المختلفة. هذا التناحر الداخلي يضاعف من تعقيد جهود السلام، ويضعف من فرص بناء جبهة موحدة قادرة على مواجهة الحكم العسكري.
وفي حالة عدم التوصل إلى حل لهذه الانقسامات، فإن هذا قد يفضي إلى ترسيخ سلطة قوات الدعم السريع بشكل فعلي في أجزاء من السودان، وهو ما يشكل سابقة خطيرة قد تلهم الجماعات المسلحة في مختلف أنحاء القارة للاستفادة من هذا النموذج، مما يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها.
- تسييس الهوية القبلية
تسييس الهوية القبلية وتصبح أداة لتحقيق أهداف سياسية. تتحول القبائل إلى أداة لتعبئة الموارد البشرية لخدمة مصالح سياسية وعسكرية ضيقة، مما يعزز الولاءات القبلية على حساب الولاءات الوطنية أو القيم الاجتماعية المشتركة.
- تفكيك النسيج الاجتماعي:
في حال تحولت القبائل إلى جماعات وظيفية بشكلها الكامل، ستؤدي هذه التحولات إلى تفكيك النسيج الاجتماعي السوداني. فقد أدى استخدام الجماعات القبلية كأدوات سياسية وعسكرية إلى إضعاف الروابط الوطنية، مما يهدد استقرار الدولة والوحدة الوطنية.
- تأثيرات اقتصادية:
زيادة تشظي المجتمع السوداني يمكن أن ينعكس سلبًا على الاستقرار الاقتصادي. بسبب تصاعد الصراع والاحتجاجات المسلحة، قد يتسبب هذا في تعطيل الأنشطة الاقتصادية وزيادة تدهور الوضع الإنساني، خاصة مع النزوح الجماعي الذي أصبح ظاهرة ملحوظة في معظم أنحاء السودان.
استنتاج.. تحول القبائل إلى أداة وظيفية
مع تصاعد العنف والنزاع، يمكن القول إن قوات الدعم السريع لم تقتصر على استغلال القبائل كـ "مقاتلين" فحسب، بل عملت على تحويلها إلى جماعات وظيفية تؤدي دورًا محددًا في إطار الصراع السوداني. حيث أصبحت هذه القبائل أداة لتعبئة الجنود والمقاتلين وتوفير الموارد البشرية اللازمة لإنجاح العمليات العسكرية. كما أن ولاء هذه الجماعات أصبح مشروطًا بمصالحها المادية والعسكرية، مما يعزز من مفهوم العلاقة التعاقدية النفعية التي تشكلت بين هذه القبائل وقوات الدعم السريع.
من خلال هذه الديناميكيات، أصبح من الواضح أن القبائل السودانية، التي كانت تعتبر في الماضي كيانات اجتماعية وثقافية، قد تحولت في سياق النزاع الراهن إلى جماعات وظيفية تخدم أهداف قوات الدعم السريع، مما يغير بشكل كبير من طبيعة العلاقة بين القبائل والدولة في السودان.