تابعت المملكة العربية السعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي، كما تابع العالم أجمع جلسات محكمة العدل الدولية وما تمخض عنها من آراء هامة وغير مسبوقة إثر تقديم دولة جنوب إفريقيا دعوى قضائية ضد ممارسات إسرائيل العدوانية في قطاع غزة، وارتكابها جرائم حرب، وجرائم ضد حقوق الإنسان ، وضد مبادئ القانون الدولي العام، والمملكة أيدت هذه الدعوى بتقديم مرافعة مهمة ومؤثرة أمام المحكمة ألقاها سفير خادم الحرمين الشريفين لدى هولندا السفير زياد العطية في 20 فبراير الماضي، والذي أوضح من خلالها موقف المملكة الثابت تجاه أزمة غزة بصفة خاصة، ومساندتها للشعب الفلسطيني الشقيق بصفة عامة، ورفضها القاطع لما تفعله إسرائيل تجاه المدنيين الفلسطينيين، وهذا الموقف ثابت منذ اندلاع الهجوم الإسرائيلي على غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر الماضي، وهو ينطلق من ثوابت المملكة المعلنة والتي أكدت عليها كثيرًا منذ بداية هذه الحرب الظالمة التي تستهدف الشعب الفلسطيني ووجوده، سواء كانت جهودًا سياسية ودبلوماسية، أو دعم للأخوة الفلسطينيين في قطاع غزة، أو دعم الحكومة والشعب الفلسطيني بصفة عامة.
وجاء في مرافعة المملكة أمام المحكمة الدولية : "إن هناك العديد من الأدلة المتاحة للمحكمة حيال سياسات وممارسات إسرائيل غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويجب على المحكمة أن تحدد بوضوح الآثار القانونية المترتبة عن احتلال إسرائيل المطول وسياستها وممارستها غير القانونية للأراضي الفلسطينية، وكيفية تأثير هذه الممارسات والسياسات على الوضع القانوني للاحتلال. كما أن رأي المحكمة لن يضر بعملية التفاوض الهادفة إلى حل الصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني كما يزعمه البعض".
وأضافت المرافعة إن "الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني وهو مستمر على مدار خمسة عقود وكان له أقبح النتائج"، وأضاف السفير العطية "كل المواثيق المكتوبة والمفردات التي قدمت أمام المحكمة لا يوجد أي منها يدافع عن الأفعال الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإسرائيل نفسها لم تحاول الدفاع عن نفسها وعن سياساتها التي تقوم بها"، "وأن مسؤولين كبار في إسرائيل يهددون الفلسطينيين بالقتل والتهجير والإبادة".
وكون ما طرحته المملكة يمثل رؤية قانونية سليمة وموضوعية تنسجم مع الشرعية الدولية و مبادئ الأمم المتحدة وما صدر عن المنظمة الدولية من قرارات، لذلك جاءت المرافعة السعودية متسقة مع ما تبنته محكمة العدل الدولية، إضافة إلى كونها معبرة بدقة عن الواقع على الأرض في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، وذلك لكون المملكة متابعة عن قرب للمواقف الدولية، والأحداث الإقليمية، ولديها استشعار بعواقب اتساع رقعة الصراع والتصعيد في منطقة الشرق الأوسط وما يمكن أن يترتب على ذلك، لذا المملكة تحرص دائمًا على تثبيت الأمن والاستقرار الإقليميين، ويتجسد ذلك في الجهود التي بذلتها ومازالت للتهدئة الإقليمية على كافة المستويات وفي أكثر من اتجاه سواء داخل الدول العربية التي تشهد صراعات داخلية، أو تجاه دول الجوار الإقليمية، وعليه جاءت الرؤى الاستشارية لمحكمة العدل الدولية في التاسع عشر من شهر يوليو الماضي معبرة إن لم تكن متطابقة مع المرافعة السعودية، وانتصرت من خلالها المحكمة للشرعية الدولية، وجاءت أيضًا متوافقة مع المبادرة العربية للسلام التي قدمتها المملكة وأقرتها القمة العربية عام 2002م، التي مازالت هي المرجع الأساسي للسلام وحل الدولتين الذي تبنته المحكمة الدولية والتي أقرت لأول مرة في مبدأ قانوني لها باحتلال إسرائيل للأرض العربية في 5 يونيو 1967م، ورأت المحكمة أيضًا أن الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني وغير شرعي ودعت لتفكيكه وإلغاء القوانين المرتبطة به وما ترتب عليه مع جبر جميع الأضرار التي لحقت بالفلسطينيين جراء هذا الجدار ، بل دعت المنظمات الدولية ودول العالم بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن هذا الجدار ، وأقرت صراحة أن إسرائيل انتهكت القانون الدولي في قطاع غزة وارتكبت جرائم يعاقب عليها القانون الدولي، وطالبت بوقف هذه الحرب الظالمة فورًا، مؤكدة أن ما تفعله إسرائيل ضد الفلسطينيين ليس دفاعًا عن النفس بمقتضى القانون الدولي بل جرائم حرب، وطلبت من إسرائيل تقديم الرد في غضون شهر واحد على تنفيذ التدابير العاجلة التي أقرتها المحكمة لوقف الحرب وحماية سكان غزة وتقديم الغذاء والدواء والوقود والمأوى لهم، ومنحت جنوب إفريقيا حق الرد في حال استمرار إسرائيل المضي قدمًا في هذه الحرب.
والآن، المجتمع الدولي مطالب بما فيه الدول العظمى والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي للتدخل لفرض القانون الدولي على أطراف الصراع، وتنفيذ آراء محكمة العدل الدولية بإيقاف هذه الحرب الظالمة طبقًا لاعتراف أعلى سلطة قضائية في العالم، والبدء في تنفيذ كل ما تضمنته آراء المحكمة دون إبطاء لحماية الشعب الفلسطيني من الهلاك تحت وطأة هذه الحرب الضروس وحرمانه من مقومات الحياة الضرورية، ثم البدء فورًا بالحل السياسي والقانوني في إقامة الدولتين بما يضمن عودة المشردين من أبناء غزة واستكمال بقية ما يترتب على حل الدولتين، وهذا ما تنادي به المملكة العربية السعودية وجميع الدول العربية دون استثناء منذ طرح المبادرة العربية للسلام التي تبنتها قمة بيروت 28 مارس عام 2002م.
ويتبقى القول إنه بدون حل القضية الفلسطينية وفق هذا التصور العربي والدولي ستظل منطقة الشرق الأوسط في حالة صراع قد يمتد ويخرج عن السيطرة، ويظل الشعب الفلسطيني هو الضحية الأولى الذي يعاني القتل والتشريد والجوع والمرض والحصار والتهجير القصري من أرضه، كما أن تجاهل المجتمع الدولي لما يحدث في غزة، ولما أقرته محكمة العدل سوف يُفقد الدول العربية إن لم يكن دول العالم أجمع الثقة في القوى الكبرى ويكرس الانطباع السائد بأن الدول الكبرى تكيل بمكيالين وأنها أول من ينتهك العدالة الدولية وأنها تسخر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لخدمة مصالحها، وأن ما تردده من مزاعم حول حقوق الإنسان والحرية والعدالة ما هي إلا افتراءات وأكاذيب، وشعارات للتدخل في شؤون الدول الأخرى.