يتمثل الفارق الرئيسي بين الدولة والنظام الدولي، في أن الأولى تتمتع بسلطة آمره فتصدر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد وتملك السلطات اللازمة لتنفيذها، بينما تغيب مثل هذه السلطة الآمرة في النظام الدولي والعلاقات بين الدول. ولذلك، سعى المفكرون والسياسيون من دعاة السلام إلى الدعوة لإقامة هيئة قضائية دولية يكون لها اختصاص الفصل في النزاعات الدولية وفقًا لمبادئ القانون الدولي العام.
كانت المحاولة الأولى في القرن العشرين هي التوقيع على عهد عصبة الأمم الذي أدمج في صدر معاهدات الصلح بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبدأ تنفيذه والعمل به سنة 1920م. ونصت المادة 13 من عهد العصبة، على إنه في حالة وجود نزاع بين الدول أعضاء العصبة ولم تتمكن من تسويته، يجوز لها عرض النزاع على التحكيم أو القضاء. ثم أنشأت العصبة "محكمة العدل الدولي الدائمة"، ثم هيئة للتحكيم الإلزامي وذلك وفقًا لبروتوكول جنيف الموقع في عام 1924م، ولكنه لم يتم تنفيذه بسبب إحجام كثير من الدول عن التصديق عليه. وفي 1928م، أقرت العصبة إنشاء ميثاق جنيف العام للتحكيم، الذي انضم إليه 25 دولة. في الأعوام التالية، وقفت العصبة عاجزة أمام التهديدات التي مثلها سلوك بعض الدول للأمن والسلم مثل غزو إيطاليا في عهد موسوليني للحبشة والاعتداءات العدوانية التي مارستها ألمانيا في عهد هتلر إزاء بُلدان أوروبا. مما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية وانهيار عصبة الأمم.
وفي أعقاب تلك الحرب، اجتمعت الدول المنتصرة بمدينة سان فرانسسكو الأمريكية في أبريل 1945م، واتفقوا على إنشاء منظمة دولية جديدة باسم هيئة الأمم المتحدة، وتم التوقيع على ميثاقها الذي تكون من 120 مادة، ونص الميثاق على إقامة جهاز قضائي دائم كأحد فروع المنظمة باسم "محكمة العدل الدولية".
وفي الفترة التالية، نشأت محاكم دولية متخصصة كمحكمة قانون البحار، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية. وسوف يركز هذا المقال على كل من: محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بحكم اختصاصهما بالنظر في النزاعات السياسية وقضايا الحرب والسلام.
أولًا: محكمة العدل الدولية
المحكمة هي أحد الفروع الخمسة لهيئة الأمم المتحدة، وتمثل الأداة القضائية الرئيسية لها. وتم وضع نظام أساسي لها أُلحِق بميثاقها مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ منه. تتكون المحكمة من 15 قاضيًا ينتخبون من بينهم رئيسًا للمحكمة لمُدة ثلاث سنوات. يتم انتخاب قضاة المحكمة من قبل الجمعية العامة ومجلس الأمن من قائمة يعدها الأمين العام للأمم المتحدة، بناء على ترشيحات من الهيئات والمجامع القانونية من الدول الأعضاء. وتتم الانتخابات بشكل مستقل في كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن، على أن يحصل الفائز على أغلبية عدد الأصوات في الهيئتين
ويراعى في المرشحين أن يكونوا مؤهلين لشغل أعلى المناصب القضائية في بلادهم، ومن أشهر القضاة وفقهاء القانون الدولي، كما يراعى عند اختيارهم تمثيل المناطق والثقافات والنظم القانونية المُختلفة في العالم، وبشرط ألا يكون هناك أكثر من قاض واحد من نفس الدولة، ويكون الانتخاب لمدة 9 سنوات قابلة للتجديد.
ووضع نظام المحكمة قواعد لضمان استقلال القضاة عن أي أهواء سياسية أو ارتباطات مصلحية، تضمنت أنه لا يجوز للقاضي أن يتولى آية وظيفة سياسية أو إدارية أو الاشتغال بإحدى المهن، ولا يجوز له أن يعمل كوكيل أو محام أو مستشار في أي قضية، أو أن يفصل في قضية سبق له أن كان وكيلًا عن أحد أطرافها أو مستشارًا له أو محاميًا أو سبق عرضها عليه بصفته عضوًا في محكمة وطنية أو دولية أو لجنة تحقيق أو أي صفة أخرى. ويتمتع أعضاء المحكمة في مباشرة وظائفهم بالمزايا والإعفاءات الدبلوماسية.
تجتمع المحكمة بمقرها الدائم بقصر السلام بمدينة لاهاي الهولندية، ويكون الاجتماع صحيحًا بحضور 9 قضاة على الأقل، وجلسات المحكمة علنية مالم تقرر المحكمة خلاف ذلك أو بناء على طلب أطراف الدعوى محل النقاش. ويتم نظر الدعوى من خلال تبادل المذكرات والمرافعات الشفوية والاستماع إلى الشهود. وإلى حين أن تفصل المحكمة في النزاع، يحق لها وفقًا للمادة 41 من النظام الأساسي أن تصدر أمرًا بتدابير مؤقته لحماية الحقوق منعًا أو تجنبًا لوقوع ضرر لا يمكن جبره لأحد أطراف النزاع.
تعقد المحكمة العديد من الجلسات للنظر في الدعوى ودراسة الحجج الخاصة بكل طرف، ومدى توافقها مع نصوص المعاهدات الدولية وقواعد القانون الدولي العام وغيرها. يكون اتخاذ قرار المحكمة بأكثرية عدد الأصوات، فإذا تساوت يرجح الرأي الذي يؤيده رئيس المحكمة، ويتم صياغة الرأي في شكل قرار يوقعه رئيس المحكمة، على أن يشمل أسماء القضاة الذين تبنوا هذا الرأي، ويحق للقضاة أصحاب الرأي أو الآراء الأخرى تسجيل مواقفهم، تعقد جلسة علنية للنطق به، وحكم المحكمة نهائي وغير قابل للاستئناف، وتقوم المحكمة بإبلاغه لأطراف النزاع ومجلس الأمن.
وفقًا للنظام الأساسي للمحكمة، فإن اختصاص المحكمة اختياري، ولا تمتد ولايتها إلا على ما اتفق أطراف نزاع ما على إحالته إليها. وفي هذه الحالة، يجوز لأي دولة تري أن الحكم في النزاع يؤثر على مصالحها أن تطلب من المحكمة انضمامها إلى الدعوى، ويحق للمحكمة قبول هذا الطلب أو رفضه. ويشير النظام الأساسي للمحكمة إلى الحالات التي يكون فيها الاختصاص إلزاميًا، وتشمل هذه الحالات: انضمام الدولة إلى اتفاقية ثنائية أو جماعية يرد فيها نص صريح بقبول اختصاص المحكمة، مثل حالة اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وحالة قبول الدولة من تلقاء ذاتها الاختصاص الإلزامي للمحكمة في النزاعات، وذلك وفقًا للمادة 36 من النظام الأساسي. ومن أمثلة ذلك، إعلان الحكومة المصرية بعد تأميم شركة قناة السويس عام 1956م، قبولها الاختصاص الإلزامي للمحكمة، بشأن المنازعات التي تنشأ بخصوص تفسير اتفاقية القسطنطينية التي تنظم الملاحة في القناة والموقعة في عام 1888م.
وجدير بالذكر، أن عدد القضايا التي فصلت فيها المحكمة منذ إنشائها هو دون العشرين قضية. ومع أن أحكام المحكمة نهائية ولا يجوز الطعن عليها او استئنافها، فإن المحكمة لا تملك سلطة تنفيذها، وإنما ترك هذا الأمر لمجلس الأمن.
إلى جانب الوظيفة القضائية للمحكمة، أشارت المادة 65 من نظامها الأساسي والمادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، إلى اختصاصها في مجال "الإفتاء" وتقديم الآراء الاستشارية في المسائل القانونية. فيحق للجمعية العامة ومجلس الأمن أن تطلب الرأي القانوني في أحد الموضوعات، كما يجوز لفروع الأمم المتحدة الأخرى ووكالاتها المتخصصة طلب الرأي القانوني بناء على موافقة الجمعية العامة، والتي عادة ما توافق على هذا الطلب. والرأي الاستشاري الذي تبديه المحكمة ليس ملزما للجهة التي طلبته، وإن كان يمثل قيمة معنوية باعتباره الرأي الذي يُعبر عن التفسير الصحيح للقانون من وجهة نظر المحكمة. وحسب النظام الأساسي أيضًا، فإن المحكمة تُصدر رأيها الاستشاري في جلسة علنية.
ثانيًا: المحكمة الجنائية الدولية
أنشئت هذه المحكمة وفقا لمعاهدة دولية يطلق عليها "النظام الأساسي لروما" أو "نظام روما"، الذي تم إقراره في عام 1998م، وأعطى مهلة للدول للتوقيع عليه حتى 31 ديسمبر 2000م، ودخلت حيز التنفيذ في يوليو 2002م. ويبلغ عدد الدول التي وقعت وصادقت على الاتفاقية في 2023م، عدد 120 دولة، تقوم هذه الدول بالمشاركة في تمويل المحكمة، وتجتمع سنويًا لمتابعة شؤونها، وانتخاب قضاتها إذا خلى مكان أحدهم.
وتعود فكرة هذه المحكمة إلى الرغبة في إقامة محاكمة جنائية دولية دائمة تختص بالنظر في الجرائم والتجاوزات ضد الإنسانية في الصراعات المسلحة، وذلك في الحالات التي لا تستطيع النظم الجنائية في الدول النظر في هذه الجرائم أو تكون غير راغبة في ذلك. وذلك، على غرار المحاكمات التي تمت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب، كانت إحداهما في مدينة نورمبرج في ألمانيا، والثانية في طوكيو باليابان، والمحكمتين التين نظرتا في جرائم الحرب في يوغوسلافيا عام 1993، ورواندا 1994م.
تتكون المحكمة من عدد 18 قاضيًا، ينتخبون لمدة تسع سنوات، من جانب الدول الأعضاء في الاتفاقية، على أن تتوفر فيهم سمات الكفاءة والخبرة، وتمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم، والتمثيل العادل للرجال والنساء، والتمثيل الجغرافي.
ويتمثل اختصاص المحكمة في تحقيق العدالة الجنائية الدولية، وتعقب المتهمين بارتكاب جرائم الحرب أو الشروع فيها، وجرائم التعذيب والاغتصاب والعنف الجنسي، والقتل والإبادة والعدوان. ويشمل ذلك معظم الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني الواردة في اتفاقيات جنيف لعام 1949م، والبروتوكولان الإضافيان لعام 1977م، والتي ارتكبت خلال نزاع مسلح دولي أو نزاع مسلح داخلي.
وأكدت المادة 25 من نظام المحكمة الأساسي، المسؤولية الجنائية الفردية لشاغلي المناصب العليا بما فيهم رؤساء الدول، وأن للمحكمة اختصاص محاكمة الأشخاص الطبيعيين، والمتهمين بارتكاب جرائم تدخل اختصاص المحكمة. وفي حالة إدانتهم توقيع العقوبات عليهم وفقا للمادة 77، والتي تشمل السجن والغرامات المالية. وكان اعتماد هذا المبدأ استمرارًا لسوابق في محاكمة رؤساء سابقين أمام محاكم جنائية مؤقتة، مثل الرئيس الألماني دونتز عام 1945م، والرئيس اليوغوسلافي ميلوسوفيتش عام 2003م، والرئيس التشيلي بونشية ولكن ظروف مرضه حالت دون بدء المحاكمة.
تعتمد المحكمة في أداء عملها على تعاون الدول معها، فهي لا تملك صلاحيات وأدوات مباشرة التنفيذ. وتعتمد في تنفيذ أوامرها كالقبض على بعض الأشخاص أو تفتيش الأماكن أو مثول المتهمين والشهود أمامها على تعاون الدول. ويكون على الدول الموقعة على اتفاقية روما القيام بذلك وفقا للمادة 86 من النظام الأساسي، الذي تعهدت بمقتضاه كل دولة بالتعاون الكامل مع المحكمة في "التحقيق والملاحقة القضائية للجرائم في نطاق ولايتها ".
برزت الاعتبارات السياسية في هذه المحكمة منذ بدايتها، وتمثل أساسًا في موقف الولايات المتحدة. فمع أن الحكومة الأمريكية أرسلت وفدًا شارك في مباحثات روما وعمل على التوفيق بين مواد النظام الأساسي للمحكمة والقانون والمصالح الأمريكية. ومع أن الرئيس بيل كلينتون وقع على الاتفاقية في آخر يوم من أيام المهلة الممنوحة للدول للتوقيع وهو 31 ديسمبر 2000م، إلا أنها لم تصدق عليها. وبعد خمسة شهور، أعلن الرئيس جورج بوش الابن خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية وسحب توقيعها.
كما تبرز هذه الاعتبارات في صلة المحكمة بمجلس الأمن باعتباره الجهاز الرئيسي المسؤول عن حفظ الأمن الدولي، فقد منح النظام الأساسي للمحكمة للمجلس سلطتين رئيسيتين. أولهما، سلطة إحالة أي قضية إلى المدعي العام للمحكمة، يرى المجلس أنها جريمة تدخل في اختصاص المحكمة وفقًا للمادة 13 من نظام روما. وثانيهما، سلطة توقيف وإرجاء المحاكمات حتى لو كانت المحكمة قد بدأت في إجراءات التحقيق وفقًا للمادة 16. أضف إلى ذلك، عدم مصادقة بعض الدول الفاعلة في النظام الدولي على نظام روما، كأمريكا وروسيا. وبالنسبة للدول العربية، فمن أصل 13 دولة وقعت على اتفاقية روما، لم تصدق عليها سوى ثلاثة. ولما كانت المحكمة قد نشئت باتفاقية دولية، فإن أحكامها لا تسري إلا على رعايا الدول التي انضمت إليها وصادقت على نظامها الأساسي.
وكما هو الحال في محكمة العدل الدولية، تواجه المحكمة الجنائية الدولية مشكلة تنفيذ أحكامها، ولم يرد في نظامها الأساسي أي نص في هذا الشأن سوى الإشارة إلى تعاون الدول في تنفيذ الأحكام بالسجن.
ثالثًا: المحاكم الدولية والعُدوان على غزة
في29 ديسمبر 2023م، رفعت دولة جنوب إفريقيا دعوى في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل اتهمتها فيها بمخالفة اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري – والتي بدأ سريان العمل بها في عام 1950م-بحُكم الاختصاص الإلزامي للمحكمة في هذا الأمر على الدول المُنضمة إلى الاتفاقية. نظرت المحكمة في الدعوى من خلال المُذكرات المكتوبة والمرافعات الشفهية لكل من جنوب إفريقيا وإسرائيل وشهادات عدد كبير من الدول. وفي 11-12 يناير 2024م، اجتمع قضاة محكمة العدل الدولية، للنظر في الدعوة المُقدمَة من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، والتي اتهمتها فيها بممارسة جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
وفي 26 يناير 2024م، أصدرت المحكمة قرارًا دعت فيه إسرائيل إلى ضرورة اتخاذ كل ما بوسعها لمنع جميع الأعمال المُنافية لالتزاماتها وفقًا لاتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري. وطلبت منها رفع تقرير للمحكمة عن الإجراءات التي اتخذتها لتنفيذ هذا القرار. وترأس الجلسة التي أصدرت هذا القرار القاضية الأمريكية جوان دونوغو.
وبناء على طلب جديد من جنوب إفريقيا، أصدرت المحكمة قرارًا في 28 مارس، أفادت فيه أنه منذ صدور قرارها السابق تدهورت الظروف المعيشية الكارثية للسُكان الفلسطينيين، وطالبت إسرائيل ب "توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، بما في ذلك الماء والكهرباء والطعام والمأوى والخدمات الصحية، وذلك من عن طريق "زيادة قدرة وعدد نقاط العبور البرية وإبقائها مفتوحة لأطول فترة ممكنة". وفي مايو أصدرت قرارًا ثالثًا طالبت فيه إسرائيل بالوقف الفوري لهجومها العسكري على مدينة رفح. وترأس جلستي المحكمة في مارس ومايو القاضي اللُبناني نواف سلام.
لم تكُن هذه هي المرة الأولى التي تنظرُ فيها المحكمة موضوعًا يتعلقُ بالصراع الفلسطيني / الإسرائيلي. ففي عام 2006م، طلبت الجمعية العامة-بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 ديسمبر 2003م-منها إصدار رأي استشاري بشأن الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي 7 يوليو 2004م، أصدرت المحكمة رأيها الذي خلصت فيه إلى أن قيام الجيش الإسرائيلي ببناء الجدار العازل في الضفة الغربية والقدس يمثل انتهاكًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. ودعت الحكومة الإسرائيلية إلى ضرورة أن "تضع نهاية لهذا الانتهاك" بوقف البناء، وأن عليها دفع تعويضات للفلسطينيين عن الخسائر التي ترتبت على البناء. وجدير بالذكر، أن القاضي الأمريكي عضو المحكمة امتنع عن التصويت بخصوص هذا الرأي.
وإذا كانت قرارات محكمة العدل الدولية جاءت ملتزمة بقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، فإن دور المحكمة الجنائية الدولية جاء مُثيرًا للجدل. ففي بداية الحرب في أكتوبر2023م، قام المُدعي العام للمحكمة كريم خان بزيارة لمصر ومنها لمعبر رفح وطلب العبور إلى الجانب الفلسطيني لمُعاينة ما يحدُث، ورفضت السُلطات الإسرائيلية طلبه. قام بزيارة للضفة الغربية للتعرف على أوضاعها والتقى بأُسر الإسرائيليين المُحتجزين من جانب حماس.
كما تابع قُضاة المحكمة تطور الأحداث من خلال مصادر المعلومات المُختلفة. وفي شهر مايو وجه المُدعي العام كريم خان الاتهام لكل من إسرائيل وحماس بارتكاب جرائم دولية وأصدر مذكرة توقيف ضد رئيس الوزراء ووزير الدفاع في إسرائيل، وثلاثة من قادة حماس هُم يحيي السنوار، ومحمد ضيف، وإسماعيل هنية، مما أدى إلى توجيه انتقادات شديدة للمحكمة من جانب إسرائيل وحماس
وفي مجال تقييم دور المحاكم الدولية، يمكن القول أن إنشاءها جاء تعبيرًا عن رغبة المجتمع الدولي في إنشاء نظام قضائي دولي، تكون مهمته تطبيق قواعد القانون الدولي العام، بهدف تسوية النزاعات السياسية، والصراعات العسكرية وحفظ الأمن والسلم الدوليين، وإقرار العدالة الجنائية الدولية.
وفي هذا السياق، قامت محكمتا العدل الدولية والجنائية الدولية بالفصل في القضايا التي عرضت عليها وإقامة العدل بين أطرافها. قامت الأولى من خلال أحكامها وآرائها الاستشارية في تطوير مبادئ القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ومن الأحكام الدالة على ذلك، حكم المحكمة في 3 أكتوبر 2018م، بشأن الدعوى التي أقامتها إيران ضد الولايات المتحدة بخصوص العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وأنها تتعارض مع معاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين عام 1955م، فقررت المحكمة -بإجماع قضاتها-أنه إلى حين الفصل في القضية، فإنها تطلب من الولايات المتحدة رفع العقوبات التي تستهدف السلع ذات الغايات الإنسانية، والتي حددها بيان رئيس المحكمة في الأدوية والمواد الطبية والسلع الغذائية والمنتجات الزراعية. وأضافت المحكمة أن العقوبات المفروضة علي تصدير قطع غيار الطائرات إلى إيران، يمكن أن تعرض سلامة الطيران المدني وأرواح المسافرين للخطر . أما المحكمة الجنائية الدولية، فقد قامت بالتحقيق مع عدد من قادة الدول وكبار مسؤوليها الذين اتهموا بجرائم جنائية وإصدار الأحكام عليهم.
ولكن عمل المحكمتين اعترضهما عدد من المعوقات السياسية والقانونية. لعل أبرزها، عدم الاختصاص الإلزامي لهما، وذلك بحجة سيادة الدولة، فالدول تقبل ولاية المحكمة باختيارها. مما دعا الأمين العام للأمم المتحدة في عام 2013م، إلى عمل حملة بهدف تشجيع الدول على قبول الاختصاص الإلزامي أو الولاية الجبرية للمحكمة.
وهناك مشكلة عدم قدرة المحكمتين على تنفيذ الأحكام التي تصدرها، فهما لا يمتلكان أي أدوات تنفيذية لذلك. أضف إلى ذلك، العائق الذي يمثله دور مجلس الأمن في أعمال المحكمتين، وخضوعه للاعتبارات السياسية والعلاقات بين أعضائه، وخصوصًا الدول الخمس التي تمتلك حق النقض (الفيتو).
ومن ثم، فمع أن قضاة محكمة العدل الدولية يتمتعون بقدر كبير من الاستقلال والحيادية والموضوعية فيما يعرض عليهم من أمور، فإن هناك قضايا كثيرة أخرى لا تجد طريقها إلى المحكمة، ويزداد تأثير الاعتبارات السياسية على المحكمة الجنائية الدولية. وإذا كان الأصل في عمل الهيئات القضائية أن يكون موضوعيًا ومستقلًا عن التدخلات السياسية، فإنه بقدر ما توجد هذه التدخلات فإنها تعوق تحقيق العدالة.
ومع الاعتراف بالمعوقات التي تعترض عمل المحاكم الدولية حاليًا، فإن مصلحة دول العالم الثالث هي في دعمها والدعوة إلى إصلاحها وإبعاد الاعتبارات السياسية عن أعمالها، ذلك أن القانون هو سلاح الضعفاء ونصيرهم تجاه الأقوياء، الذين يعبثون بالقانون عندما يكون مانعًا دون تحقيق مصالحهم. ففي النظام الدولي الراهن الذي تقوم فيه الدول الكبرى باستخدام أساليب الضغط والإكراه وفرض العقوبات الاقتصادية واستخدام القوة المسلحة، فإن ملاذ الدول النامية هو التضامن والعمل المشترك فيما بينها في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، لتأكيد مبادئ الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.