في هذا العالم الذي نعيش، ومع التقدم الحضاري والإنساني، لا زالت بعض الملفات تعامل من حيث المحصلة، معاملة القرون الماضية، على رأسها العدالة الدولية، فالعدالة الصحيحة في عالمنا اليوم هي عدالة الأقوى، وليس عدالة الأضعف، مهما اتخذت الشعارات من صياح.
محكمة العدل الدولية، وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وتتولى الفصل بين خلافات الدول في المنازعات التي تحدث بينها، وقد أنشئت بعد الحرب العالمية لتكون بديلًا عن محكمة العدل الدولية التي كانت قد أنشأتها عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، ولأنها تابعة للأمم المتحدة، فإن مجلس الأمن هو المهيمن عليها، وبالأحرى الدول الخمس صاحبة العضوية الدائمة، ولكن الوزن الأثقل هو (للرجل الأبيض) إن صح التعبير، وهي الدول الغربية، أما الأسمر والأصفر فليس لهما تأثير كبير في قرارات تلك المحكمة. والجهاز الثاني الدولي هو محكمة الجنايات الدولية، فقد تأسست في بداية هذا القرن 2002م، وعملها هو محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، التي تنشأ إبان الصراعات البينية أو الأهلية، وقد انشئت بعد تفاقم الصراع الأهلي في قارة إفريقيا، لذلك هناك الكثير من المعلقين ينعتونها بأنها أنشئت للدول السوداء.
ومع الصراع الذي نشب بعد 7 أكتوبر 2023م، بين حماس، وإسرائيل وتفاقم الحرب وشراستها وعدد القتلى الذي بلغ حوالي أربعين ألف قتيل نصفهم من الأطفال وعدد الجرحى قد بلغ من ستين إلى سبعين ألفا، والعمل على تصحير جزء كبير من مدن غزة، قامت جمهورية جنوب إفريقيا بشكوى إسرائيل لهذه المحكمة، على أمل قرع جرس صاخب يوقظ العالم على بشاعة تلك الجرائم الشنعاء إلا أن السؤال هل تلك المحاكم سوف تأتي بنتائج ملموسة، غير المعنوية، للشعب الفلسطيني، ذلك هو السؤال الذي لا يبدو أن هناك إجابة قطعية له.
حقيقة الأمر أن الكثير من القوانين الدولية هي في الغالب انتقائية مع الأسف، سواء المحاكم الدولية أو حتى الأعراف، وأخيرًا قررت الدول الكبرى أن تحول المبالغ الربحية من أموال روسيا الاتحادية المجمدة لتمويل أوكرانيا، والعالم الغربي يحتضن أكثر الاستثمارات من العالم الثالث وبل حتى من الصين !!
الجنايات: الحقائق غير التمنيات
أصدر المدعى العام في محكمة الجنايات الدولية لائحة اتهاماته مايو 2024م، والخاصة بالحرب في غزة، يشير إلى اتهام رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع، بعدد من التهم، منها الإبادة الجماعية وغيرها من تهم مجرمي الحرب، كما تنص بنود المحكمة، كما اتهم في نفس الوقت رئيس جماعة حماس وقائدها في غزة ونائبه بتهم متماثلة في الأفعال الجرمية. سارع البعض إلى فهم الاتهام أنه (إدانة) في فهم مغلوط للمصطلحات، وهو اتهام تقرر المحكمة بعد ذلك ما تراه.
محكمة الجنايات الدولية هي محكمة تأسست مطلع هذا القرن كأول محكمة دولية تعنى بمحاكمة مجرمي الحرب، وعدد الدول الموقعة على البيان الأساسي للمحكمة (بيان روما) الذي أنشأ المحكمة، يبلغ 145 دولة، ليس من بينها عدد من الدول الكبيرة، كالولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وليس من بينها (ما يعني هذا المقال) إسرائيل، وطبيعي حماس لأنها ليست دولة.
تقول ديباجة بيان روما (إذ ندرك أن ثمة روابط مشتركة توحد جميع الشعوب، وتشكل معًا تراثًا مشتركًا، وإذا يقلقها ان هذا النسيج الرقيق يمكن أن يتمزق في أي وقت) ّ، وهو نص ينبئ بأن الإنسان في حرب أزلية مع الإنسان، اكانت صغيرة أو كبيرة، إلا أن النصوص شيء والواقع شيء آخر.
الاتهام من النائب العام للطرفين، حماس وإسرائيل، لا يعني أن المحكمة سوف تأخذ بكل ما ورد فيه من تهم، وما يهم هنا إن الإدانة مرجئة إلى قرار المحكمة في وقت لاحق، ربما تأخذ بهذا الاتجاه، وقد يطول في الوقت، وقد يشير الحكم في الغالب إلى كل الأعمال من الجانب الإسرائيلي، والجانب الحماسي بأنهما قد قاما بأفعال تشكل (جرائم حرب)
من الطبيعي أن يستهجن الجانبان تلك الاتهامات، ما يعنيني هنا أن هناك حبر كثير قد سال من الجانب العربي، في خضم الإشادة بالخطوة التي اتخذتها دولة جنوب إفريقيا في تحريك القضية، معظمه تغشاه العاطفة ونقص في المعلومات، واللوم يصل إلى حد التقريع أن دول عربية من المفروض انها معنية بالقضية، لم تحرك ساكنا لعرض القضية على المحكمة.
وذهب الرأي العام العربي بمجمله ذلك المذهب، وكيلت كل أنواع الشتائم على تقاعس الحكومات العربية، وهي ظاهرة عاطفية تشوب معظم الرأي العام العربي، بسبب التثقيف السياسي العاطفي، وقلة الأصوات التي يمكن ان تتحلى بالشجاعة لطرح الأمور كما يجب أن تطرح بموضوعية، للقول إن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس مثاليًا، أو منتصرًا للحق المطلق، فالحق له درجات، تتخللها المصالح والتحالفات، وتفرضه الدول الأقوى، بدليل أن الاتهام بجرائم حرب طال الفلسطينيين بجانب الإسرائيليين.
منذ فتح القضية في محكمة الجنايات، والدول الكبرى على رأسها الولايات المتحدة أدانت تقديم إسرائيل إلى المحكمة، بل وهدد بعض مشرعيها بمعاقبة أشخاص يعملون في تلك المحكمة، كما امتعضت دول أخرى من هذا الإجراء، فقط البسطاء الغافلين، عن علاقة المصالح والتحالفات الدولية ودورها في توجيه أو الضغط على أي مؤسسة دولية، أو حتى إقليمية لاتخاذ هذا الطريق أو ذاك في تكييف موقفها من أية قضية تعرض، صدقوا أن مجرد رفع القضية، فإن الحكم سوف يكون لصالح حماس تلقائيًا.
اتضح الآن أن كل نتيجة متوقعه (لإدانة) إسرائيل وحدها (بجرائم الحرب) قد ذهبت إلى التلاشي، وأصبحت لدى العالم نظريًا على الأقل، إدانة شبه متساوية، مهما قيل عنها فهي، لا تسر الطرف الأكثر تضررًا وهم أهل غزة.
بل أن تقرير الأمين العام حول موضوع الحرب، والذي يمكن أن يصبح قرارًا دوليًا، أدان الطرفان الإسرائيلي وحماس (بقتل الأطفال) ووضع الجيش الإسرائيلي وحماس في قائمة (العار) أو القائمة السوداء.
هذا الأمر يجعلنا نفكر مليًا في توازن القوى الدولية، فقد نجحت المحكمة جزئيًا في محاكمة أحداث صراعية كلها إفريقية، أي (حروب الفقراء) الكونجو الديمقراطية، وجمهورية إفريقيا الوسطى، واوغندا، ودارفور، وأصدرت أحكاما في أغلبها معطلة. كما أن المحكمة نفسها (ليس لها أسنان) لتنفيذ أي حكم إذا ما صدر.
ربما كان موقف جمهورية جنوب إفريقيا، أو تمنياتها، أن تدان الشخوص الرئيسية الإسرائيلية المتورطة في الحرب لوحدهم، وكان سوف يحسب ذلك، لو تم، نصرًا معنويًا للقضية الفلسطينية، إلا أن المدعي العام ربما تجاهل النسبية، وحتى تجاهل روح المنصوص الموضوعة في ديباجة بيان روما (حيث عقدت العزم على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم (الإبادة الجماعية) من العقاب).
النتيجة النهائية تقريبًا صفرية، بل وسلبية للطرف الفلسطيني، مما يعيدنا إلى موضوع الأولويات الفلسطينية والتي يرغب البعض في تجاوزها، فدون إصلاح البيت الفلسطيني، فإن النتائج هي في الغالب سلبية.
هل اختل التوازن العالمي؟
مما يعيدنا إلى موضوع له علاقة بما تقدم، وهو اختلال النظام العالمي في العقود التي تلت الحرب الباردة فقد نعمت البشرية بعد الحرب العالمية الثانية بمرحلة سلام طويلة، وقدم المنتصرون في الحرب العظمى الثانية من اعتبروه ( مجرم حرب) من النازيين إلى محاكمة و صدرت بحقهم أحكام، وأما الحروب التي نشبت بعد تلك الحرب، كانت في الغالب حروب محلية، التوازن العالمي سمى ( توازن الرعب) بين الدولتين الكبيرتين، الولايات المتحدة الأمريكية، والدولة السوفيتية الكبرى وقتها، و كان التنافس أساسه أيديولوجي، إلا أنه كان مضبوطًا بضوابط يحترمها الطرفان .
لوقت قصير ظن العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، انه أصبح بقطب واحد، سرعان ما اكتشف الجميع أن هناك أقطاب متوسطة أصبحت مع الزمن تكبر وتتنافس،
ربما تكون نقطة التحول الأكبر في الخلل في العلاقات الدولية هي الحرب الروسية / الأوكرانية ،والتي لا زالت مشتعلة، هذه الحرب التي اشتعلت في فبراير 2022م، فجرت عددًا من المتناقضات في النظام العالمي، حتى أصبح ( النظام العالمي القديم) مهلهل، ولم يعد هناك وفاق على (ضبط اللعبة الدولية) فلم تصبح المنظومة، كما قدر لها أن تكون، لا مجلس الأمن فاعل، و لا محكمة العدل الدولية و لا محكمة الجنايات الدولية، كلها تملص منها الجميع، و أصبحت شعارات الحرية و العدالة و المساواة و حق تقرير المصير ، واحترام الحدود بين الدول ، لم يعد لها معنى، بل حتى آلية الديمقراطية الغربية، بشكل عام ، تم تجاوزها ،و أصبح الحديث للقوة وفقط، هي التي لها لسان وتقرر المصائر ، كما يحدث في محاكمة رئيس جمهورية سابق في الولايات المتحدة، والتي يضع كثير من الأمريكان علامة استفهام على حيادية المحاكم، أو يشكك في حيادتيها.
معركة أوكرانيا هي معركة قوة، ومع كل التعاطف الذي يبديه البعض مع الشعب الأوكراني إلا أن توازن القوة في النهاية هو الذي يحسم، والواقع يقول إن روسيا الاتحادية أقوى كثيرًا من أوكرانيا، كما أن الدعم الأوروبي يتحول تدريجيًا لأوكرانيا من مادي إلى معنوي، والمسألة مسألة وقت، حتى يصل الجميع للتضحية بجزء من أوكرانيا في الحد الأدنى للدب الروسي عندما تتغير الإدارة الحالية في الولايات المتحدة، كما هو متوقع.
روسيا تتدخل اليوم في عدد من الدول، وعلى رأسها الدول الإفريقية، تحت ما يسمى قوات فاغنر، وهي في صراع مع النفوذ الغربي، دون الحديث عن (استقلال الدول) الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية.
على صعيد الشرق الأوسط الصورة أكثر وضوحًا، فهناك تأييد للوحشية الصهيونية، والقتل الجماعي للمدنيين، ومع ذلك تهدد جماعة وازنة من المشرعين الأمريكان، بمعاقبة أشخاص محكمة الجنايات الدولية أشد العقاب، أن أدانت، ولو بشكل جزئي، الأفعال الإسرائيلية، ليس هناك ردة فعل معقولة لا من روسيا الاتحادية، ولا من الصين، تجاه المجازر الإسرائيلية، كل له حساباته المختلفة، غير الحقوق التي يتوجب أن يتمتع بها أي إنسان في أرضه.
حتى آليات (الديمقراطية الغربية) تتغير جذريًا، في معظم دول الغرب، كثيرًا من الدول الأوروبية تنتعش فيها صيحات العنصرية ونبذ الآخر المختلف، وفي الولايات المتحدة تلعب الشركات والأموال الدور الرئيسي في تفضيل أي من المشرعين يجب، أو لا يجب أن ينتخبوا، وقد أثبتت الانتخابات الاوروبية الأخيرة (يونيو 2014م) التحول نحو اليمين العنصري الكاره للآخر وخاصة للمهاجرين السمر.
من جهة أخرى تتسابق الدول المتوسطة للحصول على السلاح النووي المدمر ، وكما يحدث في إيران، هناك سباق للحصول على هذا السلاح المدمر، وهي التي تستخدم أزرعتها للعبث بالأمن الإقليمي في أكثر من مكان، من البحر الأحمر من خلال تسليح و تجييش الحوثي، للإخلال بالأمن الاقتصادي الدولي، إلى البحر الأبيض، من خلال سيطرة على الأرض السورية وجزء مسلح من الشعب اللبناني، بصرف النظر عما يعانيه المواطن السوري أو اللبناني من شظف العيش، واضمحلال الأمن والتشرد في أنحاء الدنيا لابسين ثوب المهانة في غير بلادهم في الغالب، وهي في طريقها إلى السلاح المدمر، كيف ستغدو شهيتها إن حصلت عليه ؟؟ دون أن تقف القوانين الدولية رادعة لها.
إنها معادلات جديدة ترسم في العالم، مفادها إن لم تكن قويًا، عليك بالاستعداد أن تكون ضحية، ومن يتجاهل تلك الحقيقة البسيطة، فهو بالتأكيد مغيب عما يجري في العالم، ومعجب بموقفه الساذج إلى حد التيه.
وفي منطقتنا نجد حرائق الحروب البينية، والحروب الأهلية تشتعل تقريبًا في كل مكان، كما أن فقد رباط الوحدة الوطنية يشكل ظاهرة عامة في معظم أوطاننا، مما يسهل اختراقها. إلا أن المعضلة التي تواجهنا، أن كثيرين لا يقدرون، على فهم التحولات.
آخر الكلام: معظم الصراعات التي نشهد، نابعة من أن السياسي ومتخذ القرار، لا يعرف أو لا يعترف، بأن العالم من حوله يتغير.
أي إسرائيل سوف تخرج من الحرب
الكتابة في هذا الموضوع تحوطه المخاطر، فمن جهة يمكن الانزلاق إلى الأهواء والعواطف، ومن جهة أخرى ترك الحقائق الشاخصة دون تفسير. الفكرة الرئيسية التي بدأت تتداول إما بتوسع في الدراسات، أو باختصار في المقالات المنشورة، إن إسرائيل ما بعد الحرب الطويلة التي تعدت حتى صدور قرار مجلس الأمن القاضي بوقف إطلاق النار في أوائل يونيو، الثمانية أشهر، لن تكون إسرائيل ما قبل 7 أكتوبر 2023م، في نفس الوقت إن غزة بعد الحرب، لن تكون غزة ما قبل 7 أكتوبر، مواقف الأطراف في الصراع سوف تتغير في الشكل والمضمون.
السؤال إلى أي مدى سوف تتغير وإلى أي اتجاه ؟، ذلك ما يصعب الجزم به اليوم، ولكن يمكن أن نتصور أكثر من سيناريو، الإشارات ربما واضحة.
أولاً: قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في شهر ديسمبر رفض عدم إشرافها على القوانين الصادرة من الجسم التشريعي والتنفيذي الإسرائيلي، وإلزام الجهتين بقرارات المحكمة في حال الاختلاف، يعني أولًا أن المحكمة لم تكن تحت ضغط الحرب المشتعلة، وثانيًا تغليب كفة الرافضين لذلك التشريع، والذين استمروا متظاهرين لأشهر في الشوارع في تل أبيب قبل الحرب، منددين بذلك التشريع، وهو الذي يحمي السياسيين من المساءلة ويجعل قرارات المحكمة هي العليا.
القرار بحد ذاته يذكر الجميع كم هو الشرخ عميق في داخل المجتمع الإسرائيلي قبل 7 أكتوبر، وأيضًا له ما بعده، فالطرف المتضرر سوف يسعى جاهدًا بعد الحرب لإعادة الكرة، ومحاولة تقليص سلطة المحكمة، كما أن الطرف المستفيد سوف يحرص على مرجعية المحكمة، وهذا الطرف هو الذي سوف يشكل أغلبية نسبية، كما تقول الاستطلاعات، في أي انتخابات قادمة، وأيضًا سوف تترك حرب غزة تأثيرها العميق على المجتمع الإسرائيلي، وعلى موقف الدول منها، كدولة لا تحترم قوانين الحرب.
ثانيًا: في المقابل مجرد رفع الدعوى من جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، وإن كان تأثير أي قرار لها على الأرض محدود، إلا أنها اصابت سمعة إسرائيل (الديمقراطية) في مقتل، ضعف الردود القانونية التي قدمتها في المحكمة، تنم عن (فقد الصبر). العوامل الثلاثة قرارات المحكمة العليا، وعرض الفظائع الإنسانية المرتكبة في غزة في جلسات محكمة العدل، والحرب ذاتها، هذه العناصر الثلاثة مرتبطة بشكل ما بمستقبل إسرائيل، فالسؤال الأساس المرتبط بالعناصر الثلاثة، هل إسرائيل سوف تبقى (ديمقراطية) بالمعنى العام للمفهوم، كما كانت تعلن دائما والذي كسبت بسببه تعاطف وتعاضد جسم كبير من العالم، ام سوف تتحول إلى دولة (فاشية) من خلال طرد الفلسطينيين، ليس في غزة والضفة، بل وحتى عرب 48 الذين كانوا ولا زالوا يعانون من كونهم مواطنين من الدرجة الثانية.
مبرر قرار المحكمة العليا بأنها يتوجب أن تقوم بتمحيص قرارات (الأغلبية البسيطة) في الحكومات الإسرائيلية المختلفة، وفحص إن كانت قراراتها هي للصالح العام، أم لصاح أحزاب بعينها ؟، يكشف أن العوار الأساسي في العمل السياسي الإسرائيلي لسنوات، هو الخلافات الهيكلية العميقة في ذاك المجتمع متعدد الهويات الثقافية، و المرتبط ببعضه بعامل ( الخوف ) من الآخر ، ولكن ذلك لم يمنع الانشقاقات حيث لم يتحقق لأي حكومة إسرائيلية على زمن طويل أغلبية وازنة في الانتخابات، تعبر عن توافق جماهيري واسع، هي كما تقول بعض الدراسات ديمقراطية معطلة، و تتغذى أطرافها المختلفة على التشدد و المبالغة في رفض الآخر .
هذه الحرب الثقافية بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، ما يربطها هو ( الخوف من الآخر )، إلا أن الحرب الداخلية السياسية سوف تتصاعد في أعقاب حرب غزة ، و يزيدها اشتعالًا أي حكم سلبي( ولو كان شكلي) تجاه إسرائيل في محكمة العدل الدولية، خاصة أنه من اكثر الاحتمالات ترجيحًا أن يكون هناك تحقيق إسرائيلي داخلي عميق في كل عناصر الحرب، و الذي تمتد من الإهمال في توقع ما حدث في 7 أكتوبر ،إلى الطبيعة الفاشية في تنفيذ الحرب نفسها ، إلى الفشل في تحقيق المعلن من أهداف الحرب، تلك التحقيقات قادمة، و قد تنتهي ليس باستقالات على نطاق واسع، ولكن ربما بأحكام قضائية و جنائية .
ثالثًا: الجهود التي تبذلها الحكومة الإسرائيلية القائمة هي جهود منع تلك التحقيقات أو حتى التقليل من تأثيريها من خلال الوصول إلى نصر ما، مثل تحرير الرهائن إن أمكن، أو اغتيال أو القبض على قيادات كبيرة في حماس من أجل تقديم شيء من النصر للجمهور الإسرائيلي القلق.
ينمو الانقسام في المجتمع السياسي الإسرائيلي بين جناحين، أولئك الذين يرغبون في إيجاد حل ديبلوماسي للقضية الفلسطينية، ويدللون على وجهة نظرهم، أنه رغم الحرب الصعبة في غزة، إلا أن الضفة الغربية هادئة نسبيًا، وهو دليل على أن هناك جناح فلسطيني يرغب بالحلول السلمية، وجناح آخر يرغب ويعمل على شيطنة الفلسطيني، وأن ليس أحدًا من الفلسطينيين هو ملاك، كلهم شياطين.
إلا أن الجناح الأول بدأ يظهر رايه القائل، أن ثمن قيام دولة فلسطينية (كما جاء في اتفاقية أوسلو) أرخص بكثير لإسرائيل من الحروب المتعاقبة، وأيضًا تفويت فرصة على الدول الإقليمية المتشددة من (المتاجرة بالقضية) وتريح أيضا قبول في الجوار، ذلك رأي جهر بمثله وزير الدفاع مؤخرًا، وعدد من رؤساء الوزرات السابقين مثل أولمرت وباراك.
رابعًا: هناك علاقة مباشرة بين شكل نهاية الحرب القائمة، و مستقبل إسرائيل السياسي، ومن الواضح أنها تفتقد الأوراق السياسية الكاسبة، كما حدث في مطالعة محامي إسرائيل في محكمة العدل، و الذي ادعى أن (معبر رفح مصري، وأن من يفتحه أو يغلقه هم المصريون) ذلك إفلاس كامل، لأن المعروف أن دخول المساعدات يخضع لشروط إسرائيلية، و هي شروط قاسية، يقف على رأسها إمكانية قصف أية شاحنة تدخل دون تفتيش إسرائيلي، مع الأسف أن عددًا من المعلقين العرب اخذ، لأسباب سياسية، مقولة المحامي على أنها حقيقة لا تناقش، القصد هنا في توزيع الاتهامات هو تنفير، وحتى إظهار عداء لبلد كبير مثل مصر لعبت في العقود الأخيرة دور المهدئ في الصراع ! ذلك عمل يائس.
فكرة (الوحدة في زمن الحرب) والتي كانت تعتمد عليها إسرائيل في صراعاتها السابقة قصيرة الأجل، بدأت تتفكك، واخذ البعض يهدد علنًا في القفز من سفينة اليمين الإسرائيلي، وكلما طال زمن الحرب، رغم ما تتركه من خراب وإبادة بشرية، كلما ضاق الخناق السياسي على المتطرفين، وربما مال الجمهور الإسرائيلي إلى التسوية، إلا أن كل ذلك يحتاج إلى خطة فلسطينية سياسية تقرأ الواقع، وتتخلى عن الأوهام
الموقف الفلسطيني
لا جدال حول التضحيات الكبرى الني يقدمها شعب غزة الفلسطيني، كما لا جدال حول التعاطف العالمي، والمختلف عليه هو تفسير تلك الأحداث.
أمامنا خارطة طريق واضحة، فعلى الرغم من الشجب الذي لاقته قرارات المحكمة الجنائية الدولية من أكثر من طرف، الإسرائيلي وحلفاء إسرائيل، وأيضًا الجانب الحمساوي، فإن الإدانة تمت من تلك المحكمة على الطرفين الإسرائيلي والحمساوي، وقبل أي أيام جاءت إدانه أخرى في شكل تقرير من الأمين العام للأمم المتحدة يدين فيه كل من جيش إسرائيل وحماس والجهاد بقتل أطفال، وبالتالي سوف توضع الجهات الثلاث في القائمة السوداء.
لا مجال للعواطف هنا، فكثير منا يرى أن ذلك (التساوي) غير منصف، ذاك شعور المتعاطف، إلا أن القانون الدولي، والمؤسسات الدولية ترى غير ذلك، هي تزن الأمور كما هي واقعة على الأرض، ومن جديد كثير منا لا يريد ان يرى الواقع.
التحليل يقودنا إلى القول انه لولا ما فعلته حماس في 6 أكتوبر لما تعاطف العالم مع القضية ، وهذا افتراض غير دقيق على الأقل فتعاطف العالم جاء أساسًا نتيجة فعل الحكومة الإسرائيلية، التي قررت ان تستخدم كل المتوفر لديها من قوة ناريه ضد كل من يتحرك على أرض غزة ، وبالتالي انتهكت كل القوانين الدولية و الإنسانية ، لهذا تعاطف بعض العالم ، ليس مع حماس، لان نسبة وازنة من أهل غزة لم يستشاروا، و ربما لا يستطيعوا أن يبدوا رأيهم فيما يحصل، ففي الغالب الغزاوي امرأة أو طفل أو شاب، إن لم يقتل بقنابل إسرائيلية ، إن ابدى رأيه المعارض فيما يجري، قتل برصاص حماس ! وهي المعضلة الكبرى التي يواجهها كل صاحب ضمير حي، إلا أن دعاية حماس تتحدث عن (تأييد شامل لأهل غزة لما تقوم به) وهو ادعاء في الغالب غير صحيح.
أي قارئ لتاريخ إسرائيل وما واجهه اليهود، خاصة في القرن التاسع عشر و بداية العشرين من اضطهاد في أوروبا، وأيضًا روسيا القيصرية، يعرف أن وجود هذه المجموعة البشرية المختلفة الثقافات في فلسطين، هو أمر لم يكن ليتحقق حتى لمن كان صاحب خيال واسع من يهود أوروبا و روسيا القيصرية، إلا بمعجزة، تجمعت مجموعة من الظروف الموضوعية كي يبدأ الحالمون منهم بوضع قدمهم في فلسطين وتحقيق المعجزة ، مؤرخ شهير هو برنارد لويس، يهودي و متخصص بعمق في تاريخ الشرق الأوسط يقول في مذكراته إنه كان محظوظًا عندما ولد في بريطانيا، و في أول إجازة صيف لعائلته قال ( و لحق بنا يهودي فلسطيني ) معنى ذلك أن هناك عدد من اليهود في فلسطين العثمانية، كما أن معناه المعاصر أنه غير صحيح أن نسبة وازنة من يهود إسرائيل اليوم هم من رافضي الحرب على غزة ، أو حتى رافضي كل تلك القوة التدميرية، العكس هو الصحيح، هناك اغلبية في إسرائيل مناصرة للحرب و أيضا لناتنياهو ، يدفعها ذلك الخوف التاريخي المتأصل من الإبادة، وأيضًا تبخر المعجزة .
فرار من خبرتها السلبة في كل من روسيا القيصرية وأوروبا القرن التاسع عشر، لذلك نجد عددًا وازنًا من قيادات الثورة البلشفية هي من اليهود، كما أن تلك الأفكار الاشتراكية هي التي نقلت في بداية الأمر لإنشاء المستوطنات الزراعية من المهاجرين الأوائل (الكيبوتس) وهي تشابه أو على نظام (الكلخوز) المزارع الجماعية التي ابتدعها النظام السوفيتي، بل أن حملة هتلر على اليهود، هي من جملة عوامل أخرى، نشاطهم في اليسار الألماني، الذي اعتقدت القومية الألمانية وقتها، أنه يقوض الدولة الألمانية المرادة!
الواقع الذي تتكاثر حوله الشواهد، أن الحل الأقرب هو (حل الدولتين) والذي من الواضح تصل إليه قناعات عدد من الحكومات الغربية، وهذا يتطلب عمل سياسي من قوى فلسطينية معترف بها دوليًا، وكلما قربت حماس إلى هذه القناعة، وقامت بخطوتين الأول هي فك ارتباطها بأجندات خارجية طوباوية، والتحول إلى تنظيم سياسي، كلما قرب الحل، فهل تفعل؟ لدي شكوك حول ذلك.