array(1) { [0]=> object(stdClass)#13901 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 200

البريكس والجنوب العالمي التزموا الصمت والصين وروسيا تخشيان مصير قضايا الإيجور أوكرانيا

الإثنين، 29 تموز/يوليو 2024

حظيت دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في ديسمبر 2023م، باهتمام عالمي كبير نتيجة اتهاماتها الخطيرة، وتورط كيانات دولية قانونية وسياسية رفيعة المستوى. حيث اتهم الفريق القانوني لجنوب إفريقيا، إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية من خلال العمليات العسكرية التي تشنها داخل قطاع غزة، متهماً إياها بوجود نية متعمدة للقضاء على شريحة كبيرة من الشعب الفلسطيني كمجموعة قومية، وعرقية، واثنية. كما استشهد المحامون بأدلة من وقائع الحرب الراهنة على قطاع غزة وممارسات إسرائيلية سابقة، بزعم أنها تعكس نمطًا سلوكيًا محددًا يستهدف تدمير الشعب الفلسطيني في غزة.

عقب استماعها لمرافعات الفريق القانوني لجنوب إفريقيا، قضت محكمة العدل الدولية في 26 من يناير 2024م، بأن بعض الأفعال التي ارتكبتها إسرائيل في حربها على قطاع غزة يمكن بالتأكيد أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية منع الإبادة الجماعية. بالتالي، أمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ إجراءات فورية من أجل منع أفعال الإبادة الجماعية، وضمان عدم انتهاك عملياتها العسكرية للقانون الدولي. شملت التدابير المحددة المطلوبة أيضا؛ منع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، إلى جانب السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، والحفاظ على أي أدلة تفيد بوقوع أعمال إبادة جماعية محتملة.

أثار حكم محكمة العدل الدولية ردود أفعال عالمية متباينة. حيث أعرب الجانب الإسرائيلي، كما كان متوقعًا، عن رفضه الشديد للنتائج التي خلصت إليها المحكمة. ونفى نفيًا قاطعًا مزاعم الإبادة الجماعية، معتبرًا إياها اتهامات" زائفة وخادعة". من جانبه، أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرارًا وتكرارًا أن بلاده تخوض حرب مشروعة للدفاع عن نفسها. وتماشيًا مع هذا الطرح، حظيت إسرائيل بدعم الولايات المتحدة التي رفضت أيضًا مزاعم الإبادة الجماعية باعتبارها لا أساس لها من الصحة، مؤكدة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإرهابية. وأوضحت واشنطن أن محكمة العدل الدولية لم تخلص بشكل قاطع إلى وقوع أعمال إبادة جماعية.

أما عن سائر ردود أفعال المجتمع الدولي، فقد جاءت أكثر دقة ووضوحًا. وفي حين أن بعض البلدان الأوروبية مثل ألمانيا والمملكة المتحدة عبرت أيضًا عن رفضها لحكم العدل الدولية، دعا الاتحاد الأوروبي ككتلة إلى الامتثال إلى الحكم. كما شدد على أهمية الالتزام بالقانون الدولي وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. وفي الوقت الذي أبدت فيه الصين دعمًا حذرًا للحكم الصادر، داعية إلى وقف شامل لإطلاق النار، عزفت بكين عن دعم مزاعم الإبادة الجماعية صراحة، وهو ما يُرجح بسبب مخاوفها من إرساء سابقة يتم استخدامها فيما بعد ضد سياساتها، لاسيما تجاه الإيغور في إقليم "تشينجيانغ". بالمثل، لم تُصدر روسيا بيانًا قويًا بخصوص هذا الشأن، ويمكن أن يُعزى ذلك إلى ما تواجهه موسكو من تحديات قانونية خاصة بها أمام محكمة العدل الدولية بسبب ممارساتها في أوكرانيا.

من ناحية أخرى، لجأت الهند، وهي عضو رئيسي بمجموعة العشرين، وتكتل "بريكس"، وما يعرف ب “الجنوب العالمي، إلى التزام الصمت في أغلب الأحيان. وهو ما يتسق مع النهج الدبلوماسي الحذر الذي تعتمده نيودلهي بهدف الحفاظ على علاقاتها مع الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. في أثناء ذلك، كانت البرازيل أكثر صخبًا في الإعلان عن دعمها الواضح لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل. وتعكس ردود أفعال المجتمع الدولي في مجملها مزيجًا من الصمت الاستراتيجي، والدعم الحذر، ومناصرة القانون الدولي، ولكن جميعها خضعت لما تقتضيه المصالح الجيوسياسية واعتبارات السياسة الداخلية الخاصة بكل دولة. يُسلط هذا الأمر الضوء على واحد من التعقيدات التي تواجه تطبيق القانون الدولي في القضايا مثار الجدل الكبير مثل القضية الفلسطينية، بدون توافر آليات إنفاذ شاملة وملائمة من أجل ضمان الامتثال للقانون. فحتى نهاية يوليو 2024م، لم يتم تطبيق اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ولا يزال العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني مستمرا دون هوادة وبلا عقاب.

منظومة العدالة الدولية: مدى فعاليتها والقيود المفروضة عليها

تكتسب الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية أهمية، كونها تسلط الضوء على التعقيدات التي تعترض جهود معالجة جرائم الحرب المزعومة، وجرائم الإبادة الجماعية داخل مناطق الصراع. وفي ضوء هذا السياق، يؤكد تدخل محكمة العدل الدولية خطورة هذه المزاعم، ويبرز المخاوف التي عبر عنها قطاع عريض من المجتمع الدولي حيال الأفعال والممارسات التي تحدث في غزة. ورغم أن الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية ليس نهائيا من حيث الأسس الموضوعية لمزاعم الإبادة الجماعية، لكنه يُرسي سابقة للحراك القانوني الدولي في المستقبل ويفرض ضغوطا على كافة الأطراف المعنية، ولكن بالأخص على إسرائيل، من أجل الالتزام بالقوانين الإنسانية الدولية. كما أن حقيقة استمرار القضية، مع توقع صدور أحكام لاحقة في العام المقبل، يؤكد أن الاهتمام الذي تحظى به هذه القضية لم يتوقف، وأن نتيجتها النهائية يمكن أن تلعب دورا حاسما في محاسبة المتهمين. بشكل عام، هناك حجة تدعو للقول بأن الكيانات القانونية مثل محكمة العدل الدولية وكذلك المحكمة الجنائية الدولية تلعب أدوارا بالغة الأهمية في الحفاظ على النظام القانوني الدولي. ويؤدي كل منها وظائف محددة خاصة بها، لكنها مكملة لبعضها البعض في جهود إعلاء العدالة، والمساءلة، وسيادة القانون. تتمتع محكمة العدل الدولية، على سبيل المثال، بتفويض خاص بها من أجل تسوية المنازعات القانونية بين الدول من أجل منع الصراعات وإعلاء الحلول السلمية بين الدول. ومن خلال الأحكام والفتاوى التي تصدرها المحكمة، تساهم بذلك في تطوير وتوضيح ما ينص عليه القانون الدولي. كذلك تخدم اجتهاداتها القضائية السابقة كمرجع للدول والمنظمات الدولية. وباعتبارها الذراع القضائي الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة، تنعم محكمة العدل الدولية أيضا بسلطة أدبية وقانونية كبيرة. حيث يتم احترام قراراتها والامتثال لها في بعض الأحيان من قبل الدول، مما يضفي شرعية على النظام القانوني الدولي. جدير بالذكر، أن الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية في القضايا الخلافية تعد مُلزمة للأطراف المعنية، بما يجبر الدول على الالتزام بأحكامها، وبالتالي تعزيز المساءلة.

بخلاف محكمة العدل الدولية، تقوم المحكمة الجنائية الدولية بمقاضاة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وجرائم العدوان. وتهدف إلى محاسبة الجناة وتوفير العدالة للضحايا. ومن خلال النظر في القضايا البارزة، تهدف المحكمة الجنائية الدولية إلى وضع رادع للأعمال الوحشية والفظائع التي قد ترتكب في المستقبل عبر رسالة مفادها أن مثل هذه الجرائم لن تمر دون عقاب.

 مع ذلك، يجدر القول بأن المحكمة الجنائية الدولية تعمل على مبدأ التكامل، بما يعني أنها تنظر فقط في القضايا التي تكون السلطات القضائية الوطنية غير راغبة أو غير قادرة على القيام بذلك. وكجزء من ولايتها، نجحت المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة العديد من الأفراد بما في ذلك الرئيس السابق لكوت ديفوار، لوران غباغبو، المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أعقاب أعمال العنف التي أعقبت الانتخابات في 2010-2011م؛ وجان بيير بيمبا، نائب رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية السابق وزعيم حركة تحرير الكونغو، المحكوم عليه بالسجن 18 عامًا بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وأحمد الفقي المهدي، عضو أنصار الدين، المتهم والمُدان بارتكاب جرائم حرب لتدمير التراث الثقافي في تمبكتو، مالي.

ينبغي عدم الخلط بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الدولية التي هي محاكم مُخصصة تم إنشاؤها بموجب قرارات محددة صادرة عن مجلس الأمن الدولي. من بينها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا. وعلى الرغم من دورها البارز، فإن كيانات مثل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وغيرها تواجه بالفعل العديد من التحديات والقيود التي تؤثر على فعالية دورها وقدراتها التشغيلية. تعتمد كيفية عمل محكمة العدل الدولية على الامتثال الطوعي لقراراتها، نظرًا إلى عدم وجود جهاز إنفاذ خاص بها. وفي حال قررت دولة ما عدم الامتثال، لا يتبقى أمام المحكمة حينها سوى عدد محدود من الآليات التي تجعل قراراتها نافذة. وهو ما ينعكس جليًا في القضايا المتعلقة بإسرائيل.

بالمثل، لا تمتلك المحكمة الجنائية الدولية قوة شرطية خاصة بها، وبالتالي تعتمد على تعاون الدول الأعضاء على إلقاء القبض على المشتبه بهم وترحيلهم. من ثم، فإن لم يكن هناك تعاونًا كافيًا من قبل الدول، من شأن ذلك أن يعيق قدرة المحكمة على جلب الأشخاص للمثول أمام العدالة. كما أن تدخل المحكمة الجنائية الدولية يحدث في حالة عدم رغبة السلطات القضائية الوطنية على النظر في القضايا أو عدم قدرتها للقيام بذلك. هذا المبدأ يقود في بعض الأحيان إلى نزاعات حول ما إذا كانت القضايا مطابقة للشروط أم لا، وهو ما يتسبب بدوره في تعقيد سلطة المحكمة.

علاوة على ذلك، فإن الجرائم المرتكبة داخل أراضي أو من قبل مواطني الدول الأطراف في نظام روما الأساسي (المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية) هي وحدها التي يمكن مقاضاتها ما لم تحال من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهذا يحد من نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

في الوقت ذاته، لا يوجد شك في أن القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تخضع لاعتبارات سياسية. فإن قرار امتثال الدول من عدمه متوقف على المصالح القومية والضغوط الجيوسياسية، وهو ما يقوض سلطة المحكمة. هناك بعض الدول والكيانات السياسية التي تعارض تدخلات محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية، وتسعى بشكل دؤوب على تقويض عملياتها. هذه المقاومة تصبح أكثر شراسة من قبل البلدان غير الأعضاء ـــبمحكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية.

في هذا السياق، واجهت المحكمة الجنائية انتقادات، من قبل البلدان الإفريقية بالأخص، بزعم أنها تستهدف بصورة غير متكافئة الزعماء الأفارقة، بينما تتجاهل الجرائم التي ترتكب في بقاع أخرى من العالم. أدى هذا التصور إلى تقويض شرعية المحكمة الجنائية الدولية وقبولها. يقود ذلك بدوره للتساؤل عما إذا كان العدد المحدود من القضايا والأحكام الصادرة عن المحكمة فعالا بشكل كاف كي يصبح رادعًا للفظائع المستمرة ولعل خير مثال على ذلك، ما يجرى حاليًا في قطاع غزة.

بالتالي، فإن السؤال المطروح دومًا هو ما إذا كانت كيانات مثل محكمة العدل الدولية قادرة في الواقع على إرساء العدل والنزاهة عبر مختلف أقطار المجتمع الدولي. وذلك بالنظر إلى أن نطاق قرارتها محدود، فضلاً عن أن هذه المؤسسات مُسيسة بدرجة ما على الأقل، وعرضة لهيمنة القوى الكبرى.

في الوقت الذي تكافح محكمة العدل الدولية والكيانات المماثلة للتحلي بالنزاهة والشفافية في إرساء العدالة داخل المجتمع الدولي، فإن النظام الدولي الذي تعمل تحت مظلته هذه الكيانات يعد مُسيسا بصورة متزايدة. حيث يتسنى للقوى الكبرى ممارسة نفوذها بشكل مباشر عبر فرض ضغوط سياسية، واقتصادية، ودبلوماسية. على سبيل المثال، عادة ما يصبح الامتثال لأحكام محكمة العدل الدولية متوقفًا على الإرادة السياسية للدول المعنية، والتي يمكن أن تتأثر بعلاقات هذه الدول مع القوى الكبرى. وتبرهن قضايا مثل قضية نيكاراغوا والولايات المتحدة (1986م)، التي رفضت واشنطن خلالها الامتثال بشكل كامل لقرار محكمة العدل الدولية، على التحديات التي تواجه المحكمة عند التعامل مع القوى الكبرى.

في هذا السياق، يُمثل اعتماد محكمة العدل الدولية على مجلس الأمن الدولي من أجل إنفاذ أحكامها إشكالية في حد ذاته. وذلك نظرًا إلى أن الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن يمتلكون حق الاعتراض “الفيتو"، مما يخولهم إمكانية عرقلة القرارات التي قد تتعارض مع مصالحهم. وهكذا، في حين أن محكمة العدل الدولية والمؤسسات المماثلة مصممة للعمل بنزاهة واستقلالية، استنادًا إلى القانون الدولي، فإن حقائق السياسة الدولية وتأثير القوى الكبرى تعني أن فعاليتها مقيدة بالسياق الجيوسياسي الأوسع الذي تعمل فيه، بما يقتضي ضرورة إجراء إصلاحات من أجل تدعيم استقلالية المحكمة وفعالية دورها في إنفاذ القانون الدولي. وعلى هذا النحو، ينبغي بذل الجهود من أجل تحسين الشفافية، ومضاعفة التمويل، وتعزيز آليات الإنفاذ الخاصة بالأجهزة القضائية الدولية في سبيل معالجة أفضل للمخاوف بشأن العدل والنزاهة.

أوروبا والولايات المتحدة والآفاق المستقبلية

تتكشف المعضلة القائمة بشكل واضح من خلال القضية الأخيرة المرفوعة ضد إسرائيل ومن خلال الدعم المقدم إلى الجانب الإسرائيلي، بالأخص من قبل الولايات المتحدة في أعقاب الإعلان عن حكم محكمة العدل الدولية. فسرعان ما تبنت واشنطن موقفا رافضا لقرار المحكمة، واصفة مزاعم الإبادة الجماعية بأنها لا أساس لها من الصحة، معتبرة أن الدعوى عديمة الجدوى. فيما اكتفت وزارة الخارجية الأمريكية بإعادة التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب، ممتنعة عن مطالبة إسرائيل باتخاذ خطوات من أجل تقليص حجم الضرر الواقع على المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. يعكس رد فعل الولايات المتحدة تحالفها الاستراتيجي الأوسع مع إسرائيل، مع التأكيد على المخاوف الأمنية وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مقابل رفض مزاعم جنوب إفريقيا والأطراف الأخرى بشأن ارتكاب إسرائيل أعمال إبادة جماعية. وهذا بدوره أدى إلى تقويض فعالية البيئة القانونية الدولية برمتها.

في الوقت ذاته، تقف الولايات المتحدة معزولة إلى حد ما في موقفها. على سبيل المثال، اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفا أكثر وضوحا. وأشار إلى أنه يتوقع امتثال إسرائيل التام لأحكام محكمة العدل الدولية، والتي تشمل اتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية، وضمان في الوقت ذاته وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وبقدر ما يتعلق الأمر بالاتحاد الأوروبي، فقد عادت أهمية القانون الدولي إلى الواجهة، لتعكس التزاما أوسع نطاقا بالنظام الدولي القائم على قواعد وإنفاذ القانون الإنساني الدولي. ومن هذا المنطلق، جدد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيف بوريل وغيره من المسؤولين الأوروبيين التأكيد على ضرورة احترام إسرائيل لقرارات المحكمة.

في الوقت ذاته، ينبغي الاعتراف بأن مستقبل العدالة داخل المجتمع الدولي على وشك أن يتطور بصورة كبيرة في ظل التغيرات التي تعصف بالنظام العالمي، ليتحول من نظام أحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب أو حتى الى تكوين غير قطبي. وفي ظل التحولات في ميزان القوى العالمي التي تدفع به صوب عالم متعدد الأقطاب، مدعومة بصعود دول مثل الصين، والهند، والتكتلات الإقليمية، والاتحاد الأوروبي، من المرجح أن يخلف ذلك أثرًا على ديناميات العدالة الدولية. هذا التحول من شأنه أن يقود إلى نطاق أكثر تنوعًا من الأصوات والآراء داخل المؤسسات القانونية الدولية، مما قد يزيد من شرعيتها ودرجة قبولها عالميًا.

ومع صعود القوى الإقليمية، ربما يواكب ذلك زيادة موازية في نفوذ آليات العدالة الإقليمية ومعدل استخدامها. حيث قد تشهد مؤسسات مثل: المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ومحكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان تدعيمًا لأدوارها.  ومن الممكن أن يساعد تدعيم عمل هذه المؤسسات في بناء القدرات القضائية والثقة في الأنظمة القانونية على المستوى الإقليمي، وهو ما قد يكون مكملا لدور المؤسسات العالمية مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.

لا يمكن التغافل عن دور التكنولوجيا في هذا الصدد، حيث تضطلع التقنيات الحديثة بدور كبير في رسم مستقبل العدالة الدولية. ومن الممكن أن تساعد الابتكارات في مجال جمع الأدلة الرقمية، والذكاء الاصطناعي للتحليل القانوني، وتحسين تكنولوجيات الاتصال على تعزيز قدرة المحاكم الدولية. كذلك يمكن للمنصات الرقمية أن تسهل إدارة القضايا بشكل أكثر كفاءة وتعزيز فرص توافر العدالة للأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم.

كل ما سبق ذكره لا ينتقص من ضرورة قيام المؤسسات القائمة بخطوات نحو الإصلاح. إذ تحتاج محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية إلى التكيُف للحفاظ على أهميتها وفعاليتها في المشهد العالمي المتغير، بما في ذلك إجراء الإصلاحات لمعالجة الانتقادات المثارة حول تحيزها، وتحسين آليات التنفيذ، وضمان قدر أكبر من الشمولية.

رغم التحديات، يظل وجود محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ضروريًا من أجل تعزيز النظام الدولي القائم على القواعد، وضمان تحقيق العدالة على نطاق عالمي. وتمثل قضية محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل أهمية كبيرة كسابقة، لكونها تعزز قابلية تطبيق اتفاقية منع الإبادة الجماعية على النزاعات المعاصرة، وتؤكد إمكانية خضوع الدول للمساءلة بموجب سلطة القانون الدولي. كما إنها تسلط الضوء على دور الهيئات القضائية الدولية في معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فضلا عن، إبرازها للتحديات التي تعترض سبيل تطبيق العدالة الدولية، بما يجعلها نقطة مرجعية حاسمة للقضايا المستقبلية التي تنطوي على مزاعم الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم الخطيرة. وعلى نفس القدر من الأهمية، هناك حقيقة مفادها أن حكم العدل الدولية في حد ذاته يضمن استمرار الضغط الدولي على الحملة العسكرية الإسرائيلية داخل قطاع غزة على الرغم من وحشيتها المتواصلة. وقد انتبهت القيادة الإسرائيلية بالفعل إلى القضايا المرفوعة ضدها، وهي تدرك تمامًا أن الآثار القانونية لن تزول حتى وإن توقف الصراع في غزة غدًا. كل هذا يستدعي سعيًا مستمرًا لاستخدام كافة الوسائل القانونية الممكنة لتحقيق المساءلة والعدالة، على الرغم من أن النتائج الفورية الملموسة قد لا تكون وشيكة الحدوث.

مقالات لنفس الكاتب