تأسس حلف شمال الأطلسي (NATO) عام 1949م، مع بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي الذي سيطر على دول شرق أوروبا وبين الولايات المتحدة وحلفائها في غرب أوروبا، وقد وقع على اتفاقية الحلف آنذاك 12 دولة، الولايات المتحدة وكندا وعشرة دول أوروبية، واليوم مع عام 2024م، بلغ عدد دول الحلف 32 دولة آخرها السويد التي انضمت للحلف هذا العام، بعد أن عارضتها تركيا ثم تراجعت ووافقت على انضمامها لأن قرار الحلف دائمًا منذ بداية التأسيس تتم بإجماع الأعضاء، وشهد الحلف موجات من التوسع منذ إنشائه ففي عام 1952م، ضمت تركيا للحلف ثم تبعتها موجات التوسع، ويشمل اتفاق حلف أطلسي دول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية وهي كلها دول نصرانية والدولة الوحيدة التي تم ضمها تركيا وهي دولة آسيوية مسلمة وبحكم موقعها الجغرافي ولها حدود مع الاتحاد السوفيتي وذات أهمية استراتيجية ـ والمثير للدهشة أن تركيا دعيت للحلف ولكن طلبها للانضمام للاتحاد الأوروبي قد رفض منذ عقود ، فعندما يتعلق الأمر بالدفاع العسكري وأن يقاتل الأتراك لحماية أوروبا فيتم دعوتها للانضمام ولكن الاتحاد الأوروبي مشروع اقتصادي في جوهره فيتم رفض تركيا لأن انضمامها يستفيد منه المواطن التركي، فعندما يضحي الأتراك بأرواحهم عن أوروبا يرحب بها وعندما تطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي لفوائد اقتصادية يرفض طلبها فهو نادي للدول الأوروبية وبدون خجل يصرح بعض ساسة أوروبا بأن الاتحاد لدول نصرانية ويتم التغاضي عن ذلك عند الانضمام للناتو لأن الجيش التركي هو ثاني جيوش الناتو عددًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية، جيوبوليتيكيا تركيا حيوية لحلف الناتو.
وكرد فعل على تأسيس الناتو شكل الاتحاد السوفيتي حلف وارسو 1955م، بثمانية دول في شرق أوروبا ولكن مع التحولات السياسية التي شهدتها دول شرق أوروبا وخروجهم عن السيطرة السوفيتية فقد تم في اجتماع وزراء حلف وارسو في فبراير 1991م، الإعلان عن التخلي عن الدفاع المشترك وتم رسميًا نهاية حلف وارسو في يوليو 1991م، ومع نهاية العام انهار الاتحاد السوفيتي نفسه، وإذا كان حلف وارسو قد كتبت نهايته مع نهاية الحرب الباردة، فإن حلف الناتو استمر وتوسع بانضمام أعضاء جدد وبمهام عسكرية وسياسية جديدة.
حلف الناتو من الجبهة السوفيتية إلى الجبهة الجنوبية المتوسطية
كان الهدف الأول والرئيس عند تشكيل حلف الناتو هو الدفاع عن دول غرب أوروبا، ولذلك اعتبر مهمته الرئيسة الدفاع خوفًا من الخطر السوفيتي، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أعلن بعض زعماء أوروبا أن هناك خطرًا جديدًا يهدد أوروبا، هو الخطر القادم من الجنوب وأعلنت رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر (1979-1990م)، أن الخطر الرئيس الذي يهدد أوروبا هو التيارات الأصولية واعتبرت أن الإسلام هو البلشفية الجديدة التي تهدد أوروبا Islamism is the new bolshevism ) )، ويعلق المؤرخ البريطاني –الأمريكي نيل فيرغيسون بقوله إن المرأة الحديدية كانت صريحة باعتبار الإسلام السياسي هو شيوعية القرن الحادي والعشرين، كأيديولوجية معادية للغرب ولذلك تحتاج لاستراتيجية بعيدة المدى لمواجهتها، ولذلك لم يتدخل الناتو في مهامه الجدبدة خارج أوروبا إلا في أفغانستان وليبيا وقبلهما في يوغسلافيا، وهذا يعكس تمامًا التفكير الاستراتيجي لقيادة الناتو بأن عدوها الجديد الأصولية الإسلامية، وهي تبالغ في ذلك لأنها تحتاج لعدو جديد لتبرير وجود الناتو والميزانية التي تخصص له ولأن الناتو يحقق للولايات المتحدة الهيمنة على الدول الأوروبية، ولأنها من خلال الناتو، تعتبر تحت المظلة الاستراتيجية لحمايتها وبالتالي لنفوذها السياسي في القارة بعد نهاية الخطر السوفيتي، وكأن لسان حالها إذا لم تجد عدوًا فعليك أيجاد عدو جديد لاعتبارات سياسية داخلية وخارجية . وقد دعم هذا الاتجاه صموئيل هنتنجتون عالم السياسة الأمريكي في مقالته التي نشرها في صيف 1993م، عن صدام الحضارات وأكد أن الصدام المتوقع والخطر القادم من الحضارة الإسلامية ويليها الحضارة الكونفوشيوسية (يقصد الصين) وأشار إلى خطر التحالف بينهما ـ لأنه يشكل خطرًا على الغرب بقيادة الولايات المتحدة وقد تبنى نظرية صدام الحضارات المحافظون الجدد وطبقتها إدارة بوش الابن في احتلال العراق 2003م، وأفغانستان 2001م، وهي حروب اختارتها أمريكا ولم تفرض عليها لتحقيق أهداف المحافظين الجدد المتحالفين مع الصهيونية؟
الناتو والتحديات في حوض المتوسط
اهتمت بعض الدول الأوروبية في غرب المتوسط بمواجهة تحديات الهجرة غير الشرعية من الجنوب والإرهاب، فتشكلت عام 1990م، مجموعة 5+5 وهي تتكون من خمسة دول تشرف على حوض المتوسط من سواحله الشمالية فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال ومالطة ومن الجنوب دول شمال إفريقيا غرب المتوسط ، المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا وفي وثيقة التأسيس أكدت على تشجيع التنمية والاستثمارات للحد من الهجرة للشمال ولتوطين المهاجرين في بلدانهم الأصلية، وتشكلت أيضًا عام 1995م، قوة التدخل السريع الأوروبية "يوروفور " من قوات فرنسية وإيطالية وإسبانية وبرتغالية للتدخل في المنطقة المتوسطية على أساس مساهمة كل دولة بخمسة آلاف جندي تحت قيادة لهذه القوة بالتناوب، مهمتها التدخل خارج هذه الدول وخاصة في الدول الإفريقية ولكن لم تكن الولايات المتحدة ترتاح لهذه القوة بسبب التنافس الأمريكي الأوروبي على خيرات القارة الإفريقية، ولأنها تفضل الناتو لتحكمها في إدارته وأنشأت عام 2007م، قوات القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا ( USAFRICOM )، وحدث التحول في استراتيجية الناتو واهتمامه بالجنوب في قمة بروكسل 1994م، وطرح حوار المتوسط واهتم في المرحلة الأولى (1995-2001م)، بمناقشة الصراع العربي الإسرائيلي وقضية العراق، وفي قمة واشنطن 1999م، جرى الاتصال مع سفارات دول جنوب المتوسط على غرار تواصل الناتو مع دول شرق أوروبا للمشاركة في برنامج من أجل السلام (PFP )، وبقيت المشاركة على مستوى منخفض بسبب الخلافات بين دول الناتو حول حوار المتوسط بسبب اختلاف المصالح وتناقضها فبريطانيا وفرنسا مهتمة كلاهما بالمشاركة وألمانيا مترددة في الحوار المتوسطي، وجاء التحول المهم في اهتمام الناتو بالمتوسط بعد عام 2002م، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وقد حدد سكرتير عام الناتو آنذاك الجنرال اللورد ستة أهداف للناتو من الحوار المتوسطي وهي تتمثل في احتمال عدم الاستقرار وانعكاسها على أعضاء الناتو وخاصة جنوب أوروبا ومواجهة الإرهاب والتعاون بين الدول العربية ودول الناتو والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل وأمن الطاقة وتدفقها والتعاون في مواجهة الهجرة من خلال المساعدة في مشاريع التنمية، وحدث التدخل في المتوسط لحلف الناتو عسكريًا عام 1999م، في جمهورية يوغسلافيا، (كوسوفو) بسبب جرائم الصرب، وكان تدخلًا خارج نطاق الأمم المتحدة بسبب المعارضة الروسية والصينية، والهدف المهم للناتو من حوار المتوسط مشاركة إسرائيل في الحوار وهو تطبيع غير مباشر لأن بعض الدول العربية مشاركة في الحوار وليس لها علاقة مع إسرائيل، ولكن بقي التعاون من خلال الحوار منخفضًا وخاصة مع الدول العربية .
الناتو وقمة اسطنبول وتوسع العلاقات في الشرق الأوسط
أرادت دول الناتو توسيع علاقاتها، وهذا ما تم الإعلان عنه في قمة إسطنبول عام 2004م، حيث طرحت في القمة ثلاث مبادرات تمثلت في زيادة مستوى التعاون بين دول الناتو والشرق الأوسط في مجال المهمات والتدريب والتمارين المشتركة والثانية مبادرة التعاون بين دول الخليج العربي والناتو في مجال البعثات والتدريبات والمناورات والمبادرة الثالثة إنشاء أول بعثة للناتو في المنطقة، بعثة تدريب الناتو في العراق (NTM-1 ) واستمرت 2004-2011م، وكان هدفها تدريب ومساعدة قوات الأمن العراقية . كان أول تدخل للناتو في كوسوفو ثم تدخل الناتو عسكريًا في أفغانستان 2001م، وتدخل الناتو عسكريًا في 2011م، في ليبيا تحت ذريعة حماية المدنيين ولكن كان الهدف إسقاط النظام الليبي وتم قتل العقيد القذافي، ومع أن النزاع في ليبيا كان نزاعًا داخليًا إلا أن مجلس الأمن الدولي كيف النزاع على إنه يشكل مساسًا بالأمن والسلم الدوليين مما يبرر استخدام القوة ضد النظام الليبي، وتطور علاقة الناتو بإنشاء القيادة الجنوبية للناتو ، المركز الجنوبي ومركزه في مدينة نابولي 2017م، وتشمل مهامها الشرق الأوسط والقارة الإفريقية تحت القيادة المشتركة لقوات الناتو (AJFC )، وتم إعلان أهداف هذه القيادة في قمة بروكسل 2018م، لربط تحالف الناتو مع الدول والمنظمات الدولية والإقليمية والمجتمع المدني ومتابعة مراقبة التهديدات الإقليمية، وأكدت قمة الناتو على أن عدم الاستقرار وأزمات الشرق الأوسط تهدد أوروبا، وحدث تحول أكثر في قمة الناتو لندن 2019م، فقد أكدت على ضرورة زيادة التعاون المشترك مع دول الشرق الأوسط بما فيها دول المغرب العربي والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي وحدد ثلاثة أهداف لهذ التعاون : دعم قوة الردع والدفاع ضد التهديدات القادمة من الجنوب، والمساهمة في إدارة الأزمات في الإقليم ومشاركة الشركاء الإقليميين في الصمود غي مواجهة التهديدات للأمن والإرهاب، وتعلن قيادة الناتو في تصريحاتها أن مشكلات الشرق الأوسط تتمثل في الإرهاب والهجرة وسباق التسلح وعدم الاستقرار في اليمن وسوريا وخاصة بسبب تدخل إيران وروسيا في سوريا ودعم النظام السوري باعتبارهما تنافسا الناتو في المنطقة لأن هناك مصالح لدول الناتو في الشرق الأوسط من حيث سوق مهم لبيع الأسلحة، فخلال الفترة ما بين 2014-2018م، استوردت دول الشرق الأوسط نصف صادرات الأسلحة الأمريكية للخارج، و60% من مبيعات الأسلحة البريطانية و44% من المبيعات الفرنسية، وفي ظل هذا التنافس بين الدول الكبرى في الشرق الأوسط يعزز الناتو علاقاته مع دول المنطقة من خلال حوار المتوسط ومبادرات قمة إسطنبول والملاحظ أن قيادة الناتو لم تذكر أن إسرائيل عامل عدم الاستقرار في المنطقة، ولكن قرارات الناتو تواجه التحدي لأن قرارات المجلس الأعلى لشمال الأطلسي (NAC )، يجب أن تؤخذ بالاجماع ويمكن لأي دولة كبيرة أو صغيرة أن تعارض القرارات وتوقفها بالاضافة لعامل مهم ورئيس اختلاف المصالح بين دول الناتو ، تنافسها فيما بينها في الشرق الأوسط كالتنافس التاريخي بين فرنسا وبريطانيا، والولايات المتحدة وكليهما سواء في إفريقيا أو الدول العربية ومنطقة الساحل الإفريقي.
الناتو والتوسع شرق أوروبا والتدخل حول المتوسط
إن المشكلة الرئيسة وراء تأزم العلاقات الروسية مع الغرب هي توسع حلف الناتو وضم الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى الحلف ، وأعتبرت روسيا التوسع تهديدًا خطيرًا ، واستغلت الولايات المتحدة وحلفاؤها ضعف روسيا وأزمتها الاقتصادية في عهد يلستن (1991-1999م) ، وكان وزير خارجية روسيا أندريه كوزيرف (1991-1996م) يميل إلى توجه روسيا إلى المعسكر الغربي والتعاون معه، ولكن الدبلوماسي الروسي المخضرم يوجيني بريماكوف الذي تولى وزارة الخارجية خلفًا له (1996-1998م ) ثم تولى رئاسة الوزارة (1998-1999م) كان معارضًا للتوجه غربًا والتوجه شرقًا ومعارضًا قويًا لتوسع الناتو وكان يتبنى مبدأ المثلث الاستراتيجي لمواجهة الغرب بالتعاون بين روسيا والصين والهند، وتعزيز علاقات روسيا الخارجية مع مختلف دول العالم واعتبر أورآسيا المجال الحيوي لروسيا، وعندما كان على متن الطائرة متوجهًا إلى الولايات المتحدة لبحث الأزمة اليوغسلافية وصله خبر بدء حلف الناتو بقصف بلغراد فأمر قائد الطائرة بالعودة مما أكسبه شعبية في روسيا ويعتبر الأب الروحي للسياسة الخارجية الروسية الحالية وفي ديسمبر 2022م، قال الرئيس بوتين مثنيًا عليه "إن أفكار رجل الدولة البارز والمفكر يوجيني بريماكوف حول مستقبل النظام العالمي، استنادًا إلى تحليله العميق للعمليات الموضوعية والتوقعات العلمية، هي أشد ما يحتاج إليه العالم اليوم".
إن النخبة الروسية تعتبر أوكرانيا بالذات حيوية للأمن القومي الروسي ولن تسمح للناتو أن يكون على بوابة روسيا، فالرئيس الأمريكي جون كنيدي ، فرض حصارًا على كوبا عندما علم بوجود الصواريخ السوفيتية فيها ـ بما عرف بأزمة كوبا لأنها على البوابة الأمريكية، وبالتالي حدثت الصفقة بين خروتشوف وكنيدي بسحب الصواريخ الأمريكية جبتير Juppiter من تركيا سرًا مقابل سحب السوفييت لصواريخهم من كوبا، وقد نبه الخبراء والمسؤولون الأمريكيون من خطورة توسع الناتو شرقًا، فقد قدم خمسون من السياسيين والخبراء مذكرة للرئيس كلنتون حذروه من سياسة التوسع شرقًا ، بل قال مستشار الأمن القومي الأمريكي الراحل في عهد كارتر بريجنسكي إن روسيا لن تسمح للناتو بضم أوكرانيا لعضويته لأهميتها الاستراتيجية " بدون أوكرانيا وملايينها الـ 52 من السلافيين ، فإن أي محاولة من جانب موسكو لإعادة بناء الإمبراطورية الأورآسية يمكن أن تقود إلى تورط روسيا منفردة في نزاعات طويلة " ونشطت الاستخبارات الغربية رغم التحذير في أوكرانيا وكان الهدف إضعاف روسيا وكشفت قواعد سرية للتجسس و ساعدت الاستخبارات الأمريكية بفوز فلاديمير زيلينسكي في الانتخابات الرئاسية وهو يهودي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وكانت روسيا قد سيطرت على القرم 2014م، وضمتها اليها لـتأمين الوصول للبحر المتوسط لأهميتها الاستراتيجية الملاحية، ومع تطور الأحداث شنت روسيا الحرب على أوكرانيا فبراير 2002م، وشجعت الأوكرانيين من أصول روسية للانفصال في مقاطعاتهم وأخذت بعض دول الناتو وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا بإمداد أوكرانيا بالأسلحة، وتحذر روسيا حلف الناتو وتهدد باستعمال الأسلحة النووية التكتيكية في حالة التدخل المباشر علمًا بأن بعض دول الناتو لا ترغب في المشاركة في الأزمة الأوكرانية بسبب مصالحها فأوروبا لسنوات كانت تعتمد على الغاز الروسي، وتسعى واشنطن لحرب استنزاف لروسيا ولكن يؤكد معظم الخبراء أن روسيا ستكون الفائز في أي تسوية للأزمة الأوكرانية ؟
ويظهر ازدواجية المعايير الغربية في الموقف من أوكرانيا، بفرض الحصار على روسيا ومقاطعتها لدخولها الأراضي الأوكرانية وحشدت المنظمات الدولية والأمم المتحدة، ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل والاحتلال للأراضي العربية تتجاهل الولايات المتحدة ذلك وتستعمل كل نفوذها لعدم إدانة إسرائيل وتستخدم حق الفيتو ضد أي قرار في مجلس الأمن يتعلق بإدانة إسرائيل، والملاحظ أن تدخل الناتو يتركز بعد نهاية الحرب الباردة على جنوب المتوسط، خاصة الدول العربية والإسلامية من أفغانستان إلى ليبيا والعراق والتهديد بالتدخل في منطقة الساحل والصحراء، ولذلك هناك انفصام في تصرفات الناتو وسياسته العنصرية وعدم إدانته للإبادة الجماعية في فلسطين وأن يصرح الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرج "أن إسرائيل لا تقف بمفردها" وتقوم الدول الأعضاء وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا بتزويد إسرائيل بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية وهذا يعكس ازدواجية الناتو في النظام الدولي بين الشمال والجنوب، بتبني السياسية البرجماتية العنصرية ويتجاهل قضايا الشعوب في إفريقيا وآسيا ويؤكد أن شعارات حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية شعارات للاستهلاك اذا تعلق الأمر بشعوب آسيا وإفريقيا .
الناتو ومنطقة الخليج العربي من خلال استراتيجية شاملة
ينظر حلف الناتو للتعاون مع دول مجلس التعاون من منظار استراتيجي عالمي، ففي حقبة الحرب الباردة كانت استراتيجية الحلف إقليمية في منطقة شمال الأطلسي لردع السوفيتي، ولكن بعدها أصبحت الاستراتيجية من إقليم المحيط الهادي –الهندي إلى غرب البحر المتوسط، شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء وأصبح التنافس الدولي قويًا، روسيًا في منطقة الساحل بوجود قوات فاغنر وأيضًا وجود روسيا في سوريا والتنافس مع الصين، فالخليج العربي بموقعه وسط العقد في الأهمية الاستراتيجية، وكانت مبادرة قمة إسطنبول 2004م، لزيادة التعاون مع دول المنطقة العربية وخاصة مجلس التعاون الخليجي وهي استراتيجية استمرارًا لاستراتيجية الحوار المتوسطي 1994م، وانضمت أربع دول خليجية لمبادرة قمة إسطنبول (ICI) وهي الكويت والبحرين وقطر والإمارات، وكان للكويت علاقات متميزة مع حلف الناتو وتوجت العلاقة مع الناتو بإقامة المركز الإقليمي للناتو وفقًا لمبادرة إسطنبول (NATO-ICI Regional Centre ) ومركزه الكويت عام 2017م، ـ وكان الهدف التعاون الإقليمي والتدريب وإدارة الأزمات الإقليمية، ومنذ تأسيس المركز تم تدريب أكثر من 2500 شخص في البرامج التدريبية وفعاليات المركز وتم عقد 48 برنامجًا تدريبيًا إضافة إلى 40 فعالية تندرج ضمنها ورش العمل والمؤتمرات واجتماعات على مستوى السفراء والمناصب العليا العسكرية والمدنية بل ويشارك فيها من خارج دول الخليج للتدريب والبرامج .
وشاركت قوات الناتو في مقاومة القرصنة البحرية في سواحل القرن الإفريقي وخليج عدن والمحيط الهندي بناء على طلب الأمم المتحدة أغسطس 2009م، وقام الناتو بعملية درع المحيط لحماية السفن ورفع مستوى الأمن في المحيط الهندي، واستمرت عملية الدرع حتى 2014م، ومع تراجع عمليات القرصنة في المحيط الهادي أنهى الناتو عملية درع المحيط في ديسمبر 2016م، ولكنه استمر في مساعدة الدول المطلة على المحيط ببناء قواتها من أجل مقاومة القرصنة، وعقد الناتو اتفاقية تعاون مع دولة جيبوتي، ولذلك يجب النظر لتعاون الناتو مع دول الخليج بمنظار أوسع، فالمركز الإقليمي للناتو في نابولي يتولى الحوار والتعاون المتوسطي والمركز الإقليمي في الكويت يسعى لتحقيق أهداف قمة إسطنبول ، ولكن ينظر للتعاون مع الناتو من خلال مبدأ هيرميل Hermel Doctrine وزير خارجية بلجيكا السابق عندما قدم تقريرًا عام 1967م، حول مستقبل ومهمات الناتو، أنها تقوم على استراتيجية الحوار والردع ، ويتجه الناتو للتعاون أيضًا شرقًا وهذا لا يعني ضم دول جديدة للناتو وإنما في التعاون السياسي والتعاون الأمني فقد أجرى الناتو مناورة بحرية مع اليابان لمقاومة القرصنة في سبتمبر 2014م، في خليج عدن، وهي أول عملية تتم بينهما وبمشاركة مدمرة يابانية لمرافقة الناتو للسفن في سواحل القرن الإفريقي، وكان سكرتير عام الناتو قد وقع في مايو من نفس العام مع رئيس وزراء اليابان، اتفاقية الحوار السياسي والتعاون للمشاركة في العمليات الإنسانية والإنمائية ومقاومة القرصنة ، ويسعى الناتو بالإضافة إلى اليابان لتوسيع علاقته مع أستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا بسبب اهتمام الناتو المتزايد بإقليم المحيط الهادي- الهندي Indo-Pacific Region ، والملاحظ أن سياسة الناتو تتفق مع الاستراتيجية الأمريكية على المستوى العالمي في مواجهة التنافس مع الصين وروسيا، ولكن الشلل الذي يصيب سياسة الناتو وقراراته أنها يجب حسب الميثاق أن تؤخذ بالإجماع ولا يمكن التوفيق بين 32 دولة تتناقض مصالحها في أغلب الأحيان كما يظهر في أوكرانيا وحتى في الحرب على غزة ، وهذا ما عبر عنه جوزيب بوريل ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بقوله " يجب على أوروبا تلافي ازدواجية المعايير بشأن أوكرانيا وغزة في تطبيق القانون الدولي ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية"" فالولايات المتحدة تؤيد أوكرانيا ومعها بريطانيا وألمانيا وفرنسا وترحب بقرار المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم روسيا ولكنها تنتقد محكمة العدول الدولية والمحكمة الجنائية الدولية عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وهذه سياسية عنصرية تكشف زيف الديمقراطية الغربية، حتى وصل الأمر أن أعضاء في الكونغرس يهددون أعضاء المحكة الجنائية الدولية للقيام بواجباتهم ويتجسس عليهم الموساد الإسرائيلي ويهددهم. كما أن الانقسام بين دول الناتو ، يظهر بتحرك بعض الدول للاعتراف بالدولة الفلسطينية كما فعلت أيرلندا وإسبانيا والنرويج وتبعتهم سلوفينيا، ولا يتردد سكرتير الناتو بدعم إسرائيل لأنه يردد ما تمليه عليه واشنطن، وبشكل عام يفضل الناتو العلاقات الثنائية مع دول الشرق الأوسط وحتى لدول مجلس التعاون، ولكن مع اختلاف مصالح دول الناتو في المنطقة يصعب أن يحقق الناتو سياسة فعالة لعدم وجود الإجماع بين دوله ، وإن سياسة التكتلات الأجنبية المتعلقة بأمن الشرق الأوسط ثبت فشلها ، فبريطانيا هندست الحلف المركزي (حلف بغداد) الذي ضم بالإضافة لها كل من تركيا والعراق وباكستان والعراق (1955-1979م) ، ولكنه كان نقمة على العراق بسبب انقلاب 1958م، ونهاية النظام فيه وأخرج العراق من التحالف وتكررت بنهايته فعليًا مع سقوط الشاه 1979م، فأمن المنطقة يأتي من داخلها واليوم تظهر دعوة الناتو العربي ولكنها أيضًا تبقى شبه مستحيلة لتناقض المصالح، وأن التحديات لبعض الدول تأتي من داخلها كما أن نظرة التهديد الخارجي تختلف النظرة إليه بين دول المنطقة عدا عن انخفاض مستوى الثقة بين النخب السياسية باختلاف توجهاتها وقد يتحدد مستقبل الناتو وتحديد أهدافه مع نهاية الحرب الأوكرانية في ظل الانقسام الدولي والتعددية القطبية، وسيكون الشرق الأوسط في علاقاته وتركيبته مرتبط لما بعد الحرب على غزة، فالدول الكبرى والناتو بسبب تناقضاتها لم تستطع تحقيق الأمن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن وحتى المحيط الهندي.