تعتبر منطقة الخليج من المناطق الاستراتيجية في العالم بسبب وقوعها على تقاطع أهم طرق التجارة العالمية ولامتلاكها خزين هائل من الموارد الطبيعية في مقدمتها النفط والغاز. وقد تجلت هذه الأهمية في العديد من المبادرات والمشاريع ومنها مبادرة إسطنبول للتعاون بين حلف الناتو ودول الخليج قبل عقدين من الزمن. تمتاز هذه المبادرة بأنها تجمع بين مجموعة دول تمثل تحالفاً إقليمياً هو مجلس التعاون الخليجي، وبين منظمة تمثل تحالفاً أمنيًا إستراتيجياً هو حلف شمال الأطلسي (الناتو). هذه الاتفاقية، وقل إن شئت العلاقة بين دول الخليج والناتو، تعتمد وبشكل كبير على دور شريك ثالث هو الولايات المتحدة التي هي العضو الأهم في الناتو، بالإضافة الى كونها اللاعب الأساس في مجالات السياسة والأمن في منطقة الخليج. العلاقات الأمريكية-الأوروبية، مثلها مثل العلاقات الأمريكية-الخليجية، تمر بمرحلة حرجة، ربما الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية. نحاول في هذه المقالة إلقاء نظرة على العوامل التي تؤثر في هذه العلاقات ومستقبلها على المدى القريب، وأثر ذلك على علاقة الطرفين بالمنطقة.
موقع المنطقة وحلف الأطلسي في منظومة الأمن العالمي
النظام العالمي، الذي تأسس بعد الحربين العالميتين، قام على تصور أساسه أن نقاط الاحتكاك التي يمكن تولد الصراعات العالمية الكبيرة كانت ثلاثة، أولها المثلث المتشكل من روسيا والصين واليابان، الذي انطلقت منه شرارة الحرب العالمية الثانية عندما غزت اليابان الصين، وقارة أوروبا التي أشعلت منطقة البلقان شرارة الحرب الأولى وكانت الساحة التي شهدت الدمار الأكبر في الحربين، ومنطقة الشرق الأوسط التي تمثل صلة الوصل بين الإثنين وكانت شريكة في الجبهة التي خسرت الحرب الأولى ممثلة بالدولة العثمانية. لذلك جاءت الترتيبات الأمنية والسياسية لكي تضمن السيطرة على هذه المناطق وتحول بينها وبين أن تكون الفتيل الذي قد يشعل حرباً كونية جديدة، فتمت معالجة الأولى من خلال اختيار جمهورية الصين التي كانت موالية للغرب آنذاك، بالإضافة إلى الاتحاد السوفيتي، الذي كان يتزعم المعسكر الشيوعي، بأن يكونا من الشرطة الأربعة الذين أوكلت إليهم مهمة حفظ السلام العالمي، بالإضافة إلى وضع اليابان تحت الحكم العسكري الأمريكي، الذي تحول إلى وجود عسكري أمريكي دائم. أما بالنسبة لأوروبا فقد تم ترتيب الأوضاع فيها من خلال تقسيمها إلى قسمين شرقي وغربي، أما الشرقي فكان تحت زعامة الاتحاد السوفيتي، وأما الغربي فتم ترتيب الأوضاع فيه من خلال إنشاء حلف شمال الأطلسي، الذي شكل مظلة الوجود العسكري الأمريكي في الساحة الأوروبية. وتمت معالجة منطقة الشرق الأوسط على أساس التعامل معها بنفس الطريقة التي اتبعت مع الساحة الأوروبية، وذلك من خلال إنشاء تحالف عسكري-أمني، مشابه لحلف الأطلسي، سمي بالمعاهدة المركزية (أو حلف بغداد). لكن التجربة واجهت التحدي الأكبر عندما رفضت معظم الدول الأعضاء انضمام إسرائيل، ولذلك سرعان ما تخلت الولايات المتحدة عن الفكرة وقررت التعامل مع المنطقة من خلال الإدارة المباشرة عن طريق التواجد العسكري والعلاقات الثنائية، أو عن طريق الوكلاء مثل شاه إيران، بالإضافة إلى تحويل المنطقة إلى ساحة صراع بالوكالة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
الدوافع وراء إقامة حلف شمال الأطلسي
معاهدة حلف شمال الأطلسي التي تم إبراهما بعد الحرب العالمية الثانية تمثل جزءاً أساسياً من النظام العالمي لمرحلة ما بعد الحرب، كما ذكرنا أعلاه. فكرة الحلف قائمة على أساس التعامل مع خطورة الساحة الأوروبية والحاجة إلى تجنب المواجهات المباشرة فيها من خلال العمل على إحداث توازن قوى عالمي، ونقل الصراعات من قلب أوروبا إلى الأطراف. من هنا جاءت فكرة إنشاء الحلف لكي يوفر الغطاء للمسؤولية الأمريكية المباشرة عن الأمن، ويكون الحاجز الأمني بين الدول الأوروبية وبين المد الشيوعي القادم من شرق أوروبا الذي كان يسعى إلى استغلال الأوضاع الاقتصادية السيئة في أوروبا بعد الحرب في سبيل الدعوة إلى الفكر الشيوعي، بالإضافة إلى كونه منصة للجهد الأوروبي-الأمريكي المشترك في سبيل الحيلولة بين المجتمعات الأوروبية والوقوع في مهالك الأفكار الشوفينية والنازية التي كانت السبب وراء قيام الحرب العالمية الثانية، وأخيراً استخدامه كوسيلة لتنمية العمل الأوروبي المشترك بين أعداء الماضي وتحويلهم إلى حلفاء متعاونين في المصالح المشتركة التي تجمعهم, وفي مقدمتها الأمن والاقتصاد، بدلاً من التركيز على الأفكار التي مزقت أوروبا وأوردتها المهالك.
المصالح المشتركة بين الناتو ودول الخليج
حلف الناتو إذاً منظمة تسعى إلى تحقيق المصالح التي تمس الأمن بين الدول الأوروبية وشركائها حول العالم وفي مقدمتهم دول الخليج، ولذلك جاءت مبادرة إسطنبول قبل عقدين من الزمن، إقراراً لأهمية العلاقات بين الطرفين التي تقوم على أساس قوي من المصالح المشتركة، وفي مقدمتها:
- أمن الطاقة: الهاجس الأول بالنسبة لأوروبا هو تأمين مصادر الطاقة، هذه الحاجة زادت بعد غزو روسيا لأوكرانيا بسبب اعتماد أوروبا بالدرجة الأولى على روسيا في مصادرها للطاقة، لذلك سعت إلى زيادة الاعتماد على دول الخليج وشمال إفريقيا لتنويع مصادرها، واستخدام ذلك كوسيلة للضغط على روسيا.
- تأمين طرق التجارة التي تصل بين آسيا وإفريقيا وأوروبا: تقع المنطقة في نقطة التقاء طرق التجارة العالمية بأنواعها البرية والبحرية والجوية، وتشرف على أهم الممرات المائية في العالم مثل بحر العرب والخليج العربي وقناة السويس والبحر الأحمر والبحر المتوسط. لذلك فإن أمن المنطقة مطلوب لتأمين خطوط التجارة العالمية من وإلى أوروبا.
- التعاون في مجال الهجرة: تعاني أوروبا من مشكلة الهجرة غير الشرعية، وهي مشكلة وإن كانت أوروبا تتحمل الجزء الأكبر في نشأتها، إلا إنها ومع ذلك تسعى إلى الحد منها إلى المستويات المطلوبة التي توفر لاقتصادياتها اليد العاملة التي هي بأمس الحاجة إليها. لهذا السبب تنظر إلى دول المنطقة باعتبارها خط الدفاع الأخير بينها وبين عشرات الملايين من البشر الذي يريدون الوصول إلى أوروبا بغض النظر عن الوسيلة. لذلك تسعى أوروبا إلى ترتيب الأوضاع في المنطقة بالصورة التي تحد من الهجرة بالإضافة إلى تشجيع إقامة مشاريع تنموية في دول الشرق الأوسط تستقطب الراغبين بالهجرة وتوفر لهم البديل عن أوروبا.
- الرغبة الأوروبية في المحافظة على حالة الأوضاع القائمة في المنطقة، لأن حالة التمزق والتصارع تشكل جزءاً أساسياً من التصور الأمريكي-الأوروبي للمنطقة وذلك لضمان التفوق العسكري الإسرائيلي على دول المنطقة منفردة ومجتمعة. وهذه تفسر الجهود الكبيرة التي تبذلها الدول الأوروبية في سبيل عدم تطوير دول المنطقة لأسلحة الدمار الشامل، باستثناء إسرائيل طبعاً.
- التعاون في محاربة الإرهاب والتطرف: كان الحديث يقتصر في هذه الناحية على أهمية مواجهة التطرف والجماعات الإرهابية في العالم الإسلامي، وهذا أمر مهم، لكن الحديث مع الأوروبيين يجب أن يتطور ليشمل مايلي:
- الموقف الغربي من الإرهاب كان ومايزال مرتبطاً بالمقاربة الأمريكية القائمة على احتواء الإرهاب وليس مكافحته. المطلوب إذا هو الانتقال إلى مرحلة التعامل بجدية مع الأسباب والدوافع التي تدفع بالبعض إلى مثل هذه المواقف التي تشكل البيئة الخصبة للجماعات المتطرفة، بالإضافة إلى التصدي للدول التي تشكل حواضن أو توفر الدعم المباشر وغير المباشر للإرهاب والتطرف.
- الحركات المتطرفة، على الرغم من مواقفها المتناقضة في ظاهر الأمر، إلا إنها تغذي بعضها البعض، لذلك لا يمكن تصور تحقيق أي نجاح في مواجهة التطرف في الدول العربية والإسلامية في الوقت الذي يصعد فيه المتطرفون مثل بن غفير وسموتريتش إلى أعلى مراكز القرار في إسرائيل وهم يدعون إلى حرب إبادة جماعية ويقودون الأعمال الاستفزازية والتظاهرات التي تهتف "الموت للعرب" وهي الدعوات التي تستخدمها الجماعات الإرهابية في نشر أفكارها.
- لابد لدول الخليج أن تتابع وبقلق التطورات الخطيرة التي تشهدها الساحة الأوروبية والتي تتمثل بصعود أحزاب اليمين المتطرف التي تحمل الأفكار النازية والشوفينية والإسلاموفوبيا، كذلك لابد من التذكير بالثمن الباهظ الذي دفعته أوروبا والعالم أجمع نتيجة وصول هذه الأحزاب إلى السلطة في بعض الدول الأوروبية في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، خصوصاً وإن المتغيرات العالمية وضعف أداء النظام العالمي في مجالات الأمن والاقتصاد توفر البيئة الخصبة لصعود مثل هذه الأفكار الهدامة إلى السلطة. ولن نذهب بعيدًا فقد جاءت نتائج إنتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت أوائل شهر يونيو الماضي بمثابة زلزال هز النظام السياسي في القارة العجوز، حيث أشارت النتائج إلى حصول أحزاب اليمين المتطرف على المركز الأول في كل من فرنسا وإيطاليا والنمسا، وحلت بالمركز الثاني في ألمانيا وهولندا. هذه النتائج، التي أدت إلى سقوط الحكومات في فرنسا وبلجيكا، يجب أن تكون بمثابة ناقوس الخطر بالنسبة لأوروبا والعالم، وتدفع بالجميع إلى مراجعة خطط الناتو للتصدي لمثل هذه الجماعات، والضمانات لكي لاتتحول التجربة الديمقراطية في أوروبا إلى سلم يستخدمه حملة الأفكار الشوفينية والنازية للارتقاء إلى مراكز القرار، كما كانت الحالة مع هتلر وموسوليني، ولكيلا يلدغ العالم من ذات الجحر مرتين.
- التأكد من عدم وقوع المنطقة ومواردها تحت سيطرة القوى المنافسة: تمثل المنطقة الجسر الذي يربط بين قارات العالم القديمة، آسيا، إفريقيا وأوروبا، ومن يسيطر على المنطقة ومقدراتها بإمكانه أن يتحكم بجزء كبير من التجارة العالمية وموارد الطاقة وخصوصاً من وإلى أوروبا. لذلك فالمنطقة هي جزء أساس من إستراتيجية الأمن الأوروبي، وأخشى ماتخشاه هو وقوع المنطقة تحت سيطرة القوى العالمية المنافسة التي يمكن أن تستخدم موقع المنطقة ومواردها في ابتزاز أوروبا أو فرض السياسات عليها.
أهم التطورات في العلاقات الأوروبية-الأمريكية
تعاني السياسة الخارجية الأمريكية من عجز كبير عن مواكبة التحديات التي أفرزتها المتغيرات العالمية خلال العقود الثلاث الأخيرة، ولذلك نراها تسعى إلى مواجهة التحديات الجديدة بوسائل قديمة. هذه المتغيرات الكبيرة أثرت سلباً على العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا، وأدت إلى تغيير النظرة الأمريكية إلى حلف الأطلسي ودوره، ونظرة الدول الأوروبية إلى حليفهم الأكبر، ولعل من أبرز تلك العوامل مايلي:
- ساد إعتقاد في دوائر القرار في واشنطن بأن مواطن الإهتمام القديمة مثل أوروبا والشرق الأوسط لم تعد بذات الأهمية التي كانت عليها سابقاً، وأن على الولايات المتحدة تحويل دائرة إهتمامها إلى حيث توجد الفرص والتحديات الكبيرة، وبالتحديد إلى جنوب شرق آسيا. ومن هنا جاءت مبادرة الرئيس الأسبق أوباما المسماة الانحياز نحو المحيط الهادي، وتساؤلات الرئيس السابق ترامب مراراً عن جدوى حلف الأطلسي.
- الانقسام السياسي في واشنطن: كانت الحالة السائدة في واشنطن، ولعقود طويلة، تقوم على مبدأ إبقاء السياسة الخارجية خارج اللعبة السياسية، فكانت الحكومات المتعاقبة، بغض النظر عن انتمائها الحزبي، تعبر في مواقفها عن الإجماع الأمريكي. المتغيرات السياسية التي أوصلت دونالد ترامب إلى الرئاسة في واشنطن، أقحمت اللعبة السياسية الداخلية في السياسة الخارجية، ودفعت بالعديد من حكومات العالم إلى التساؤل عن آثار التغيير الذي قد تحدثه الانتخابات في الموقف الأمريكي تجاهها، والأهم من ذلك أن هذه النتيجة أدت إلى ما هو أكبر من ذلك، وهو محاولة بعض الحكومات التدخل في العملية الانتخابية الأمريكية لصالح طرف دون طرف آخر.
- الموقف الأمريكي المساند لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واتفاقية أوكوس للتعاون الأمني والعسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، التي وضعت بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في مكانة أعلى في التنسيق الأمني من بقية الحلفاء الأوروبيين.
- أداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة في الحروب في العراق وأفغانستان وسوريا، التي كان حلف الأطلسي شريك فيها، واتخاذها للعديد من القرارات الاستراتيجية، وآخرها الانسحاب من أفغانستان، من دون أي تشاور مع الحلفاء، الأمر الذي وضع قوات حلف الأطلسي في وضع مكشوف وخطير.
- الغزو الروسي لأوكرانيا: تعتبر عملية غزو أوكرانيا من قبل الجيش الروسي، بدعم سياسي واضح من الصين، أكبر تحد واجه الحلف وقيادة أمريكا له منذ تأسيسه. استطاعت الولايات المتحدة أن تحقق العديد من المكاسب في بداية الحرب، وإن كانت أغلبها لا تتعلق بالعمليات العسكرية على ساحة المعركة، ومن أهمها إعادة الروح إلى الحلف الذي كاد أن يفقد مبررات وجوده، وليس ذلك فحسب بل جرى توسيعه من خلال إنضمام السويد وفنلندا. لكن هذه الانتصارات سرعان ما فقدت بريقها وبدأت الأوضاع المأساوية في ساحة المعركة تبدي وضعاً مخالفاً لتلك الصورة. فقد أبرزت الأحداث الهوة الكبيرة بين الوعود وما يتحقق منها على الواقع، بالإضافة إلى تباين الرؤى نحو الحرب بين الولايات المتحدة من جهة وحلفائها الأوربيين وأوكرانيا من جهة أخرى. ففي الوقت الذي كانت تنظر فيه الولايات المتحدة إلى الحرب بأنها فرصة لاستنزاف روسيا وإعادة الروح في حلف شمال الأطلسي، كانت الدول الأوروبية تساند أوكرانيا لإفشال الغزو الروسي واستعادة أوكرانيا لأراضيها، لأن هذه النتيجة فقط هي التي تضمن عودة عملية توازن القوى في الساحة الأوروبية، ولأن أي مكاسب يمكن أن تحققها روسيا من خلال الحرب سوف تشكل عامل إغراء على استخدام الحروب كوسيلة لتحقيق المصالح، وهو ما ينذر بعودة الصراعات الدموية إلى الساحة الأوروبية كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية.
حصل بعد ذلك ما لم يكن في الحسبان، وهو اشتعال الحرب في الأراضي الفلسطينية التي أدت إلى إنشغال الحليف الأمريكي بتلك الحرب وتوجيه جميع الإمكانيات العسكرية والسياسية متجاهلاً ما يجري على الساحة الأوكرانية، التي كانت تشهد تصعيداً روسياً مع بداية الربيع. هذه الحقيقة وضعت أوكرانيا، ومن ورائها الدول الأوروبية، في وضع لاتحسد عليه أمام روسيا التي أصبح بإمكانها فرض شروطها على أوكرانيا وأوروبا، وهي الشروط التي أعلنها الرئيس الروسي وتتضمن التخلي عن أربع مناطق في شرق أوكرانيا (دونستك ولوغانسك، وخيرسون وزاباروجيا)، والتخلي كلياًعن فكرة الإنضمام إلى حلف الأطلسي. لذلك عادت أوروبا تبحث عن البدائل، ومنها محاولة إنهاء الصراع بأقل الخسائر، ربما عن طريق توسيط الصين، وهذا يفسر الدوافع وراء دعوة الرئيس الصيني شي لزيارة باريس وإعلانه الرغبة في إعادة بناء علاقات بلده مع المجموعة الأوروبية وتشكيكه في جدوى الحرب في أوكرانيا.
أثر الإنتخابات الأمريكية القادمة على العلاقات مع أوروبا
المواقف المتذبذة للإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ بداية القرن الحالي جعلت الحلفاء قبل الأعداء يشككون في إلتزام الولايات المتحدة بتعهداتها الدولية، ومن أبرز تلك المواقف قرار الرئيس أوباما التخلي عن خطوطه الحمراء في سوريا، ورغبة إدارته في إعادة الحسابات بالنسبة لأهمية أوروبا مقابل الصين، كذلك إلغاء ترامب للاتفاق النووي مع إيران، الذي بذلت المجموعة الأوروبية دوراً كبيرًا في المفاوضات التي سبقت الاتفاق، ومن دون أي تنسيق مع الحلفاء. ومما زاد الطين بلة، المواقف المتشددة من أوروبا التي يحملها المرشح الجمهوري المحتمل دونالد ترامب الذي من المتوقع أن يخوض جولة الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر القادم ضد الرئيس بايدن. ترامب الذي أعلن مراراً أنه أقرب إلى روسيا والصين من أوروبا، وأنه يتفهم الموقف الروسي من أوكرانيا، وهو الذي وقف بقوة مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وله علاقات مع قادة حركات اليمين في أوروبا. هذه المواقف لم تأت من ترامب فقط، بل أن الجناح اليميني في الحزب الجمهوري يحمل هذه الأفكار ويدفع بها، فقد تقدمت النائبة عن ولاية جورجيا مارغري تايلور غرين المعروفة بقربها من ترامب بمشروع قرار في مجلس النواب لقطع التمويل عن أنشطة حلف الأطلسي، وكانت المفاجأة أن 46 عضواً من أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري صوتوا لصالح المقترح. هذه الخلفية، مع القناعة بارتفاع حظوظ ترامب بالفوز بالرئاسة، دفعت بالعديد من الدول الأوروبية إلى اتخاذ تدابير وخطط للتعامل مع الأوضاع في حالة فوزه بالرئاسة.
صورة المشهد السياسي الأمريكي، لمرحلة ما بعد الانتخابات وبغض النظر عن النتيجة التي سوف تسفر عنها، تبدو ضبابية على أحسن أحوالها ومتشابكة ومشلولة على الأرجح. ويعود السبب في هذه النظرة إلى حالة الانقسام المجتمعي الذي تعيشه البلاد والذي يدفع يوماً بعد يوم بالحالة السياسية إلى الشلل بسبب غياب الرغبة عند الأطراف المتصارعة إلى العمل مع الطرف الآخر حول المشتركات، وارتفاع وتيرة الخطابات الشعبوية في المؤسسات السياسية، وخصوصاً الكونغرس.
خاتمة القول فإن نفوذ الولايات المتحدة وقدرتها على التأثير في القضايا الاستراتيجية التي تهم الأمن والسلم العالميين في انحسار، فالتقارب الصيني-الروسي أحدث تغييراً في ميزان القوى العالمي، وكذلك المواقف الأمريكية المنحازة لإسرائيل وعدم اهتمامها الجدي بمشكلات المنقطة، أفقدها الكثير من المصداقية والقبول في المنطقة العربية والإسلامية، وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات الأوروبية-الأمريكية التي يبدو أنها مهددة بالدخول في نفق مظلم لا تعرف له نهاية بسبب التجاذبات السياسية التي جاءت نتيجة صعود القيادات الشعبوية على طرفي الأطلسي والتصورات الخاطئة التي سادت في كل من واشنطن ولندن. والسؤال الأهم هو عن إمكانية حصول تغيير جذري في المقاربة الأمريكية تجاه أوروبا والمنطقة؟ والإجابة الآن هي بعدم وجود ما يشير إلى إمكانية حصول انفراج أو بوادر أمل، على المدى المنظور على الأقل، في عودة الحياة إلى هذه العلاقة التي حققت الأمن في أوروبا لفترة قياسية. وإن غداً لناظره قريب.