في إطار التحولات الجيوستراتيجية التي شهدها العالم في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية التي اندثر معها حلف وارسو، كان من الضروري على صانعي القرار ومراكز التفكير الأطلسية أن تعيد تكييف استراتيجيتها الأمنية والدفاعية بما يتناسب وطبيعة التهديدات الأمنية التقليدية واللاتماثلية مع تصاعد حدة التهديدات الأمنية المجتمعية والبيئية، وشكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، الحدث المعولم الذي غير من طبيعة الإدراك الأمريكي-الأطلسي لطبيعة التهديدات الأمنية، فمنذ الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور في فترة الحرب العالمية الثانية لم تشهد أراضي أكبر إمبراطورية في العالم الحديث، هذا الشكل من التهديدات من حيث عمقه ونوعيته وطبيعة الفاعلين، وكانت الفرصة الجديدة لصانعي القرار في الغرب أن يعيدوا النظر في تحديد العدو الجديد بعدما اختفى مؤقتًا التهديد السوفياتي، فكانت الحرب العالمية على التهديدات الإرهابية العابرة للحدود وفي الوقت ذاته الاستمرار في الانتشار الجيوبوليتيكي في شرق ووسط أوروبا وفي مناطق الجوار للكتلة الأطلسية-الأوروبية ومن بينها ما تسميه الأدبيات الأطلسية بالجوار الجنوبي للحلف.
أولًا، الخلفية التاريخية لمبادرة إسطنبول للتعاون وأبعادها الاستراتيجية.
الشاهد الأبرز في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ذلك التوسع الجيوبوليتيكي الزاحف والانتشار المتسارع للحلف الأطلسي، حيث انتقل من 12 عضوًا عند تأسيسه سنة 1949م، إلى 32 عضوًا بعد انضمام السويد إليه في مارس 2024م. وعرفت سنة 2004م، العام الذي أطلقت فيه مبادرة إسطنبول للتعاون الأطلسي-الشرق أوسطي، أكبر مرحلة للتوسع والانتشار حيث انضمت ثماني دول للحلف، في الوقت الذي شهدت فيه الشراكة الروسية-الأطلسية منحاها التصاعدي ضمن الصيغ المتعددة للتعاون، من انضمامها سنة 1991م، إلى مجلس التعاون الأطلسي إلى صيغة العضوية في مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية سنة 1997م، وما بين الفترتين انضمت روسيا إلى الشراكة من أجل السلام حيث ساهمت بإرسال قوة لحفظ السلام تحت المظلة الأطلسية إلى غرب البلقان. وتم ترسيم العلاقات الاستراتيجية الروسية-الأطلسية بعد التوقيع على القانون التأسيسي بين الطرفين وإنشاء بعثة دبلوماسية روسية دائمة لدى الحلف ببروكسل مقابل بعثة للاتصال العسكري الأطلسي بموسكو، وكان مصدر بناء الثقة بين روسيا والحلف الأطلسي التزام الحلف بعدم نشر قوات عسكرية بالقرب من الحدود الروسية، وهو ما عزز من التفاؤل المفرط في بناء الثقة بين الطرفين خصوصًا بعد التوقيع على إعلان روما في سنة 2002م، الذي شكل صيغة متقدمة للشراكة الاستراتيجية بين موسكو والحلف الأطلسي بتشكيل مجلس روسيا الحلف الأطلسي مع طرح إمكانية انضمام روسيا للحلف، وتعززت العلاقات الاستراتيجية أكثر بسماح روسيا للقوات الأطلسية باستخدام أراضيها للعبور. وشكلت كل هذه المؤشرات قطيعة إيديولوجية مع كل مراحل الحرب الباردة في إطار الصراع بين حلف وارسو والحلف الأطلسي.
التذكير بهده البيئة الاستراتيجية والأمنية الدولية مهم جدًا لتقييم طبيعة الشراكة الأطلسية في إطار مبادرة إسطنبول للتعاون، لأنه بعد عشرين سنة من المبادرة أضحت روسيا في العقيدة والاستراتيجية الأطلسية العدو الوجودي رقم واحد للحلف، وهو ما سوف يؤثر حتمًا على طبيعة ومستقبل الشراكة الأطلسية-الشرق أوسطية والخليجية بشكل أكبر. ومن نافلة القول التذكير بما جاء في البند الثامن من وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الأطلسي لسنة 2022م، " تمثل روسيا أكبر وأهم تهديد مباشر لأمن الحلفاء وعلى السلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية من خلال سعيه إلى إقامة مناطق نفوذ وسيطرة مباشرة من خلال الإكراه، والعدوان والضم وباستخدامه للوسائل التقليدية والسيبرانية والهجينة ضدنا وضد شركائنا".
إلى جانب البيئة الدولية التي كانت أكثر تفاؤلا عند إعلان مبادرة إسطنبول للتعاون في سنة 2004م، فإن الرهان الأطلسي على بناء السلام في الشرق الأوسط كان أكثر وضوحًا في البند الثاني من وثيقة المبادرة، حيث اعتبرت إحراز التقدم في اتجاه الحل العادل والدائم والشامل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يبقى أولوية لدول المنطقة وكافة الأسرة الدولية من أجل نجاح أهداف مبادرة إسطنبول للتعاون في الأمن والاستقرار. وفي حينها راهنت الوثيقة على التطبيق الكامل لخارطة الطريق التي أعدتها اللجنة الرباعية الدولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا) على أساس خيار حل الدولتين مع تفعيل المسارين السوري-الإسرائيلي واللبناني-الإسرائيلي. وبعد عشرين سنة ضاعت كل وثائق خرائط بناء السلام في الشرق الأوسط ولم يعد هناك إلا طريق وخيار الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل بعدما وأدت مشروع السلام لمسار أوسلو لأكثر من ثلاثين سنة وتبخرت معها كل خرائط الطريق نحو بناء أوهام السلام. وهنا ستكون المعضلة الاستراتيجية الأساسية التي ستواجه الشراكة الأطلسية-الشرق أوسطية التي عجزت عن المساهمة بكل ثقلها الاستراتيجي في إيجاد الدولة الفلسطينية لاسيما بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
من خلال البيئتين الدولية والإقليمية التي نشأت فيها مبادرة إسطنبول للتعاون، كان الحلف الأطلسي يتمدد جيوبوليتيكيا من خلال مجموعة من المشاريع في منطقة الشرق الأوسط التي سبقتها الحوار الأطلسي-المتوسطي في سنة 1994م، وفق أهداف الأمن الشامل والتهديدات العالمية المشتركة، وقد لخص هذه الهواجس الأمنية الأمين العام الأسبق للحلف الأطلسي، ياب دي هوب سخيفر، في مداخلة حول الحلف ومنطقة الشرق الأوسط الموسع بالاستناد إلى المثل العربي القائل:" في صحراء الحياة، يسافر الرجل الحكيم مع القافلة، بينما يفضل الأحمق أن يسافر وحده"، وهو يشرح تحديات البيئة الأمنية الجديدة مثل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل والدول الفاشلة التي تستوجب تكاثف جهود الجميع لمواجهتها.
وعليه تم تحديد مجموعة من المبادئ والأهداف في إطار مبادرة إسطنبول للتعاون وبناء علاقات ضمن الإطارين الثنائي والمتعدد الأطراف تقوم على ستة ركائز أساسية، أولها، الأخذ بمبدأ عدم التمييز، بحيث تمكن كل الشركاء بنفس مميزات الشراكة مع الحلف الأطلسي. ثانيًا، العمل وفق مبدأ تنوع الحاجات، ضمن خصوصيات ومطالب كل طرف. ثالثًا، التمسك بمبدأ المعاملة المتبادلة، بما يسمح للدول الشريكة أن تساهم في إنجاح أهداف مبادرة إسطنبول بكل أبعادها من خلال مسار المشاورات الدورية بين الطرفين، على أن تقدم الدول الشريكة للحلف حاجياتها وأهدافها. رابعًا، الأخذ بمبدأ عدم الإكراه، الذي يعني حرية كل شريك في اختيار نوعية التعاون مع الحلف من حيث الوتيرة والمدى. خامسًا، التعاون في إطار مبدأ التكاملية، بحيث تكمل مبادرة إسطنبول للتعاون نشاطات المبادرات الأخرى بما فيها، مجموعة العشرين والمنظمات الدولية كالاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، كما تكمل عند الضرورة مبادرة الحوار الأطلسي المتوسطي بما يسمح لها باستخدام الأدوات المعدة لهذا الإطار، ويمكنها الاستفادة من تجارب مبادرات الحلف الأطلسي القائمة على غرار مبادرة الشراكة من أجل السلام. سادسًا وأخيرًا، احترام مبدأ التنوع، بحيث تأخذ المبادرة بعين الاعتبار السياق الإقليمي، الثقافي والسياسي للشركاء.
من الضروري في هذا الإطار، أن نحدد الطبيعة القانونية والتنظيمية لهذا التعاون الأطلسي الشرق أوسطي، من خلال وثيقة مبادرة إسطنبول للتعاون، التي رفعت كل الغموض فيما يتعلق بمدى هذه المبادرة، بحيث تؤكد بأنها لا تعد تمهيدًا للانضمام إلى الحلف أو مجلس الشراكة الأوروبية-الأطلسية أو الشراكة من أجل السلام، كما أنها لا يمكن أن تعتبر وسيلة للحصول على ضمانات أمنية. وهنا وبكل وضوح، تعني أن التعاون في إطار مبادرة إسطنبول لا يرتقي لدرجة العضوية وتفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي، التي تنص على أنه في حالة أي هجوم أو عدوان مسلح ضد عضو في الحلف يعتبر عدوانًا عليهم جميعًا، وبناء عليه، فإنهم متفقون على حق الدفاع الذاتي عن أنفسهم بشكل فردي أو جماعي، وتقديم المساعدة والعون للطرف أو الأطراف التي تتعرض للهجوم، ويكون هذا الدعم باتخاذ الإجراءات الضرورية بما فيها استخدام القوة العسكرية.
بعد عشرين سنة من مبادرة إسطنبول (2004-2024م) انضمت رسميًا أربعة دول من مجلس التعاون الخليجي للمبادرة، وهي كل من البحرين، قطر، الإمارات العربية المتحدة والكويت، مع مشاركة كل من المملكة العربية السعودية وعمان في بعض نشاطات المبادرة بالرغم من أنهما ليسا شريكين رسميين للحلف. وقد استفادت الكويت في سنة 2017م، من إنشاء المركز الإقليمي للحلف الأطلسي ومبادرة إسطنبول في إطار التعاون المتعدد الأطراف، الذي يهدف من خلال النشاطات واللقاءات إلى ترقية التعاون والشراكة بخصوص كل القضايا الأمنية المشتركة عن طرق آليات الحوار السياسي، التعليم والتدريب والدبلوماسية العامة، لاسيما في مجالات إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب والتخطيط للطوارئ المدنية، والأمن السيبراني.
جاء في تقرير الحلف الأطلسي لسنة 2022م، " يعد المركز منتدى يلتقي فيه الحلفاء ودول الخليج لمناقشة الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، حيث استضاف في سنة 2021م، مجموعة من النشاطات من بينها 20 فعالية و7 دورات تدريبية في قضايا المرأة وبناء السلام والأمن وندوة بالتنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول العمليات السيبرانية والمفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الأطلسي". ومن حيث حصيلة المركز الإقليمي، فإنه ما بين سنة 2017م، إلى بداية 2023م، شارك ما يزيد عن 2500م، شخص في البرامج التدريبية وفي فعاليات المركز، بعقد 48 برنامجًا تدريبيًا، فضلًا عن 40 فعالية تتنوع بين ورش العمل والمؤتمرات واجتماعات على مستوى السفراء والمناصب العليا العسكرية والمدنية.
من الناحية العملياتية، فإن الدول الخليجية الأربعة انضمت بالمشاركة في العمليات العسكرية تحت قيادة الحلف الأطلسي، كما هو الحال مع تجربة قطر والإمارات في عملية "الحماية الموحدة" في ليبيا سنة 2012م، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة الحرب على نظام القذافي من خلال ما سماه الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بالقيادة من الخلف، والمحصلة الاستراتيجية لهذه التجربة كان موثقا في التقرير الذي قدمه مركز التحليلات المشتركة والدروس المستفادة، التابع للحلف الأطلسي في البرتغال ( 28 فبراير 2012م)، مما جاء فيه، أن الدور الكبير لتلك العملية كان للولايات المتحدة الأمريكية من خلال مساهمتها في مجال الأسلحة الذكية وتبادل المعلومات والقيادة والسيطرة والمراقبة والاستطلاع، بينما كان الضعف واضحًا لدى الدول الرئيسية للحلف مثل بريطانيا وفرنسا في كل المجالات المذكورة لاسيما إعادة تزويد الطائرات بالوقود وعجزها عن الاستمرارية في الحملة الجوية المكثفة. وهذه التجربة تثبت واقع الهيمنة الأمريكية عسكريًا وماليًا على الحلف الأطلسي واستمراريته، ويكفي أن نعرف بمؤشر بسيط أنه لغاية سنة 2023 م، لا تزال مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في الإنفاق العسكري المشترك للحلف تصل نسبة 67 % من إجمالي الانفاق الذي بلغ 1.1 ترليون دولار، وهو ما أدى بالرئيس السابق دونالد ترومب أن يعيد النظر في المساهمة الأمريكية ضاغطًا على الدول الأوروبية، وقد أثار مرة أخرى قلقًا أمنيًا لدى الأوروبيين عندما صرح في حالة انتخابه لإدارة البيت الأبيض في نوفمبر 2024 م، سيشجع روسيا على مهاجمة أي دولة في الحلف الأطلسي لا تفي بالتزاماتها المالية، وهوما يثير الشكوك حول مستقبل الحلف وتماسكه في حالة فوز دونالد ترومب بالرئاسة الأمريكية.
أما الدرس الأكبر في التجربة الليبية، وباعتراف التقارير الرسمية الأطلسية، مفاده أن الحلف الأطلسي يمتلك القدرة على التدخلات العسكرية لكن بدون مشاريع لإعادة بناء الدولة والوضع الليبي لا يزال شاهدًا على تعثر المسار السياسي لأكثر من اثنى عشرة سنة من إسقاط نظام القذافي أو حالات اللاستقرار الدائمين في كل من العراق وأفغانستان.
كما يبرز تطور العلاقات الخليجية في إطار مبادرة إسطنبول للتعاون على المستوى الثنائي في مجموع الاتفاقيات الأمنية، ونشير هنا لأهم تلك الاتفاقيات، حيث وقعت قطر في 16 يناير 2018م، على اتفاقية أمنية مع الحلف الأطلسي تبعها اتفاق تمركز قوات وموظفي الحلف الأطلسي في قاعدة العديد الجوية. أما البحرين فيتم تصنيفها في الاستراتيجية الأمريكية الحليف الرئيس خارج الحلف الأطلسي، حيث تستضيف المنامة الأسطول الخامس الذي يغطي منطقة الشرق الأوسط كما تستضيف القيادة المركزية للقوات البحرية. وضمن مبدأ التكاملية الذي تبنته مبادرة إسطنبول، فإن البحرين استطاعت أن توقع في 13 سبتمبر 2023م، على اتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، تعد متقدمة جدًا في الدفاع المشترك، حيث تنص المادة الثانية من الاتفاقية الموسومة بـ " التعاون الدفاعي والأمني":" يعتبر أي اعتداء خارجي أو تهديد باعتداء خارجي ضد سيادة أي من الأطراف واستقلاله وسلامة أراضيه مدعاة قلق بالغ بالنسبة للأطراف الأخرى. وفي حالة وقوع اعتداء خارجي أو تهديد بالاعتداء الخارجي ضد أحد الأطراف، يتعين على الأطراف الأخرى وفقًا لدساتيرها وقوانينها الاجتماع فورًا وعلى أعلى مستوى بغرض تحديد الاحتياجات الدفاعية الإضافية والاستجابة الدفاعية الرادعة المناسبة".
وفيما يخص الكويت التي فضلا عن استضافتها للمركز الإقليمي لدول مبادرة إسطنبول، فإنها وقعت اتفاقية أمنية موسعة مع الحلف الأطلسي في سنة 2006م، تشمل المجالات التعاونية الأمنية المتعددة، السياحية، البيئية والمائية. كما صادق البرلمان الكويتي في مايو 2017 م، على اتفاقية تسمح بعبور قوات وأفراد الحلف الأطلسي من الأراضي الكويتية في إطار العمليات التي يقوم بها التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة في العراق. وتستند التقارير الرسمية الكويتية بعد عشرين سنة من التجربة على النظرة الإيجابية لتقييم التعاون في إطار المبادرة، انطلاقًا من مبدأ التشاركية، قامت الكويت بتحديد في بداية انضمامها، وباعتبارها أول دولة في مجلس التعاون الخليجي التي تصادق على المبادرة، على خمس أولويات للتعاون، تتمثل في أمن الحدود، إدارة الأزمات، مكافحة الإرهاب، التمارين العسكرية والتدريس والتدريب العسكري.
تبقى الإمارات العربية المتحدة من أكثر دول الخليج رغبة في بناء التحالف الأطلسي بسبب مأزق الأمن الدائم الذي يحيط بها، حيث تنظر لإيران باعتبارها التهديد الوجودي لها من خلال النزاع حول الجزر الثلاث، أبو موسى، طنب الصغرى وطنب الكبرى، مع القلق المستدام من تطوير القدرات الإيرانية النووية ومحاولات هيمنتها على مضيق هرمز الذي يهدد ناقلات النفط والإمدادات التجارية، وهو ما دفعها للانضمام إلى التحالف البحري الذي تقوده واشنطن منذ سبتمبر 2019 م، من أجل حماية السفن التجارية في المضيق.
ثانيًا: الأولويات الأمنية المستقبلية في إطار الشراكة الخليجية-الأطلسية.
تفرض البيئة الجيوسياسية الشرق أوسطية أولويات أمنية في الأجندة الخليجية-الأطلسية على المديين القريب والمتوسط، أولها، إعادة تكييف الإدراك الأطلسي لطبيعة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي لا يزال حبيس الرؤية الأمريكية التقليدية، ولم يتغير هذا الإدراك منذ المصادقة على وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الأطلسي في طبعتها الثالثة لسنة 2010م، والتي أعدتها لجنة الخبراء تحت رئاسة وزيرة الخارجية، مادلين أولبرايت، ومفاده أن دور الحلف الأطلسي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يكون في مرحلة ما بعد النزاع، ويستند إلى ثلاثة شروط، أن يكون هناك اتفاق فلسطيني / إسرائيلي، أو في حالة طلب الأطراف المعنية بتدخل الحلف وثالثًا، في حالة وجود قرار من مجلس الأمن. وعليه، فإن استمرار هذه الرؤية سيزيد من تعقيد القضية الفلسطينية ولا يعكس واقع الدبلوماسية العامة التي يحاول الحلف تسويقها في العالم العربي والإسلامي بأنه يهتم بانشغالات وتهديدات الأمن في المنطقة مقارنة بازدواجية المعايير في الحالات المتعددة، من أفغانستان، العراق وليبيا.
التحدي الأمني الثاني، مرتبط بالدور الإيراني في منطقة الخليج، فإذا كانت وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديد لسنة 2022م، تنظر إلى إيران بأنها تتحدى المصالح الأطلسية وشركائها في منطقة الخليج بسبب المشروع النووي والصواريخ الباليستية أو من خلال السعي الدائم للنفوذ في المنطقة الحيوية في الخليج ومضيق هرمز، فإن الأوضاع العدوانية الإسرائيلية على غزة حرك الصدام الإيراني-الإسرائيلي المباشر والغير المباشر عبر أدواتها حزب الله والحوثيين والانعكاسات المتصاعدة في منطقة البحر الأحمر وتداعياتها المستقبلية على القدرة على تأمين الممرات البحرية والأمن الطاقوي لدول الخليج.
المعضلة الاستراتيجية الخليجية الأكبر تبقى قائمة من حيث التوازن الاستراتيجي بين المصالح الأطلسية وأولوياتها والمصالح وأولويات الدول الخليجية التي تبحث عن نظام دولي تعددي وبناء العلاقات مع القوى الكبرى انطلاقًا من توازن المصالح لا سيما مع الصين وروسيا، بينما الإدراك الأطلسي الذي تم تأكيده مرة أخرى في إعلان " تحضير الحلف الأطلسي للأجيال القادمة لقمة واشنطن"، الذي تبناه البرلمان الأطلسي المنعقد بصوفيا ببلغاريا، بتاريخ 27 ماي 2024م، يحدد فيه تمسك أعضائه بمبادئ الحلف وأهميته المستقبلية انطلاقًا من الأهداف الأمنية للحلف الأطلسي الأوروبي التي تم إنجازها طيلة 75 سنة من وجوده في إطار الأمن الجماعي المكرس بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي التي سمحت بردع استراتيجي ضد أي عدوان ضد أعضاء الحلف، ولم يتم تفعيل هذه المادة إلا مرة واحدة بعد الهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001م.
وقد رسمت الوثيقة البرلمانية الأطلسية البيئة الاستراتيجية التنافسية والعدائية التي يواجهها الحلف في هذه اللحظة الاستراتيجية والمستقبلية، بإبقاء روسيا كأكبر تهديد مباشر لأمن الحلفاء ولأمن واستقرار منطقة الأور-أطلسية، كما يبقى الإرهاب المتعدد الأشكال التهديد اللاتماثلي المباشر للحلف الأطلسي، وحسب البيان فإنه يلقى الدعم التدريجي من النظامين الروسي والإيراني. بينما وصفت الوثيقة التهديد الصيني بالدولة المتحدية من خلال طموحاتها المعلنة مما تطرح تحديات نسقية متعددة للمصالح والأمن والقيم الأور-أطلسية.
تشير الوثيقة البرلمانية الأطلسية لأهمية تفعيل مبدأ الأمن التعاوني في إطار الشراكات خارج المنطقة الأور-أطلسية لا سيما في إطار الذكرى الثلاثين لتأسيس الحوار الأطلسي المتوسطي و الذكرى العشرين لمبادرة التعاون لإسطنبول بتوسيع الأهداف الأطلسية نحو منطقة الخليج والشرق الأوسط، وبالتركيز على نتائج التقرير الذي أعده فريق الخبراء المستقلين لدعم مراجعة نهج الحلف للتقارب مع منطقة الجوار الجنوبي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل الإفريقي، الذي تم تعيينه من قبل الأمين العام للحلف الأطلسي، طبقًا لمخرجات قمة الحلف في فيلنيوس بلتوانيا، فإن مجالات التعاون في إطار الأمن الشامل تبقى مغرية للجميع، خصوصًا في المجالات الأمن البحري، الأمن الطاقوي، الأمن الغذائي، الأمن السيبراني، الأمن النووي، الأمن الصحي، لأن في النهاية، الإدراك الواقعي والعملي لمبادرة إسطنبول للتعاون تحتاج فعلًا إلى تطبيق المثال العربي الذي ذكره الأمين العام الأسبق للحلف الأطلسي " في صحراء الحياة، يسافر الرجل الحكيم مع القافلة، بينما يفضل الأحمق أن يسافر وحده".