من 15 إلى 17 فبراير الماضي جرت انتخابات رئاسية جديدة في روسيا الاتحادية، كان المرشح الرئاسي الأبرز بلا منازع ، هو السيد فلاديمير بوتين، أشارت الصحافة الغربية إلى تلك الانتخابات بأنها ( تتويج) ملك، لا معركة انتخابية، كناية عن خلوها من المنافسين الجادين، وطول المدة المتوقعة للحكم ( مدى الحياة) و بهذه الدورة لست سنوات قادمة يكون الرئيس بوتين قد نافس في مدة الحكم في روسيا بطرس الأكبر ، أو بيتر الأول الذي حكم روسيا 1682 حتى 1725م،( أي ما يقارب 43 عامًا) بوتين بفوزه بهذه الدورة يصبح في الحكم ثلاثون عامًا، ومن المتوقع أن يبقى حتى 2035 م!
بطرس الأكبر في تاريخ روسيا هو ( المصلح التقدمي ) حتى في إبان الفترة السوفيتية (الشيوعية) و المعادية للقيصرية ، اعترف لذلك القيصر بالتميز، لأنه أولا أدخل إصلاحات على النظام الروسي على الطريقة الأوروبية وقتها ،وثانيًا كان رجل قد سعى ما في وسعه إلى توسع الإمبراطورية ، ومد نفوذها في الأطراف، في الوقت الذي يقارن بوتين به من حيث الزمن و من حيث الرغبة في توسيع ( الامبراطورية)، إلا أنه الاثنان لا يقارنان في مشروع ( الإصلاح) من المنظور السياسي، لان بوتين لديه مشروع توسعي، و المحافظة على موقع الجمهورية الروسية في العالم، إلا أنه يحكم بشكل شمولي، و ليس في الأفق إصلاح سياسية يذكر، في وقت تتوق فيه الشعوب، إما إلى حكومات ديمقراطية ( وتبادل سلمي للسلطة) أو إلى حكومات تحمل الكثير من الكفاءة الاقتصادية ( كما في الصين) .
التوسع أم الدفاع عن الوطن؟
عندما اندلعت الحرب بين روسيا و بين أوكرانيا في فبراير 2022م، كان التوقع من كثيرين أنها لن تقع ، لأسباب كثيرة ، ولكن بوتين فاجأ العالم بدخول الحرب ، و كانت الخطة في الغالب في ذهن القيادة الروسية أن الحرب لن تأخذ أكثر من أسابيع قليلة ، حيث سميت ( عملية عسكرية ) وليست حربًا، وكان الافتراض أن الشعب الأوكراني لا زال يحتفظ بنوع إيجابي في علاقة من روسيا، و أن معظم الجيش الأوكراني، و بعض النخب الأوكرانية ، سوف ترحب بقدوم الروس ، حتى المخابرات الغربية توقعت ذلك، وسحبت الدول الغربية سفراءها بسرعة من كييف العاصمة الأوكرانية .
المفاجأة جاءت من مقاومة الأوكرانيين للتدخل الروسي، و كان ( الفخر الوطني بالاستقلال) أكبر وزنًا من عناصر الدمج القديمة مع الاتحاد السوفيتي، ولما ظهرت صلابة المقاومة، تدخل الغرب بالنصرة بالمال و السلاح و الخبراء ، فأصبحت الحرب التي كان متوقعًا لها أن تكون قصيرة وخاطفة، طويلة ومرهقة، وبين ( كر و فر )، و استنزفت ولا زالت تستنزف الأطراف الداخلة فيها، من جه روسيا الاتحادية، ومن جهة أوكرانيا ومناصريها الغربين، بما فيهم الولايات المتحدة، وبعد مذبحة موسكو في الجمعة السوداء 22 مارس، والتي قيل أنها من تنفيذ داعش، تم الاعلان أن معركة أوكرانيا هي حرب و ليست ( عملية عسكرية)
الحرب في أوكرانيا والصراع الدولي
لم تعد الحرب في أوكرانيا حرب ( محلية) في أوروبا، بل أصبح تأثيرها عالميًا، ولقد أصبحت المواجهة بين روسيا الاتحادية، و الغرب عمومًا، مواجهة شاملة، في مجال الاقتصاد و السياسة و التحالفات ، فقد شهد العالم ( تجميدًا) متبادلًا لكل الاستثمارات، الروسية في الغرب، و الاستثمارات الغربية في روسيا، كما شهد اضطرابا في الإمدادات العالمية، ولكن ربما الأخطر هو الصراع السياسي القائم و المستمر في ساحات مختلفة، خارج ساحة الحرب فأين تكون المصالح الغربية في أية بقعة في العالم ، تتدخل روسيا من أجل دحرها ، أو وضعها في موضع الدفاع عن النفس ، حدث ذلك في إفريقيا، فشهدت القارة عددًا من الانقلابات العسكرية العنيفة ( المضادة للغرب) و ( الموالية لموسكو)، و حاولت الأخيرة جمع عدد من الزعماء الأفارقة عندها للتنسيق و التعاون ، و أين كانت المصالح الغربية تقف موسكو ضدها بشكل مباشر أو غير مباشر، كما يقف الغرب ضد المصالح الروسية و حلفائها على الساحة الدولية أينما كانت.
مثلًا في الشرق الأوسط عظمت روسيا تحالفها الواقعي مع إيران، وفي ملفات كثيرة أخرى، كما في سوريا، استطاعت موسكو أن تزيد من نفوذها، نكاية بالغرب في المنطقة، وكذلك في الموضوع الفلسطيني، وليس مستغربًا أن تحتضن موسكو في مارس 2024 لقاء الفصائل الفلسطينية الثلاثة عشر، للتنسيق ضد المصالح الغربية!! بل إن قرارًا أمميًا في مجلس الأمن رعته الولايات المتحدة في 22 مارس 2024 م، من أجل (وقف إطلاق النار وإطلاق الرهائن) وقفت روسيا (وأيضًا الصين) ضده، واستخدمت الفيتو، نكاية بالسياسة الأمريكية، وفي الغالب ليس نصرة لفلسطين، مع أن الملف الفلسطيني (تاريخيًا) يحمل انحياز الروس إلى الدولة الإسرائيلية. وحتى هجمة الجمعة السوداء في موسكو في 22 مارس 2024 م، هي جزء من تفاعلات التدخل الروسي في سوريا!
أي أن الصراع بدأ يخرج من النطاق الجغرافي إلى ساحات أخرى، ومن المتوقع أن ينسحب ذلك الصراع إلى أماكن غير متوقعة، تعبيرًا عن تصفية الحسابات بين الأطراف.
روسيا والغرب لا طلاق بائن ولا زواج مستقر!
مع انفجار الحرب الروسية الأوكرانية في آخر فبراير 2022م، حبس العالم أنفاسه رُعبًا، خاصة وقد تزامنت معها الأحاديث العالية باستخدام الأسلحة غير التقليدية، والإشارة هنا إلى القوة النووية، التي ذكرت العالم بما عرف بتوقعات العصر الجليدي القادم. مع مرور الأسابيع وحتى الأشهر والسنوات تراجع ذلك الخوف، كي يبقى العالم يشاهد على محطات التلفزة تقدم أو تراجع أطراف تلك الحرب، مع ما يصاحبها من أهوال إنسانية فظيعة.
اليوم يبدو أن الأمور ليست كما توقع لها في البداية، لا زال هناك (شيء من العقل) لدى الإنسان، وبدى أن الغرف الخلفية بدأت تعمل. خبر لم يتوسع حوله في الإعلام كان عن اجتماع رئيس الأركان الروسي بالأمريكي عن بعد، في بداية الحرب، وكل ما قيل علنًا أن الطرفان اتفقا (أن لا يقال أي تفصيل حول ذلك الاجتماع)! ثم توالت الإشارات، فصرح الفرنسيون أن أوكرانيا تحتاج من عشر إلى خمسة عشر سنة للدخول في التجمع الأوروبي (و ليس في حلف الأطلسي) في إشارة تطمين، كما أن الرئيس الأوكراني بدا بتصريحات تتحدث على أن الحل لا يمكن إلا أن يكون من خلال المفاوضات، وتجاوب معه الروسي، إذا أضفنا إلى ذلك تصريح المستشار الألماني ( لا مصادرة لأموال الروس، و عليهم طوعًا التبرع لإعمار ما هدم في أوكرانيا) تقريبًا تكتمل الصورة التي تتشكل في خلفية الصراع .
كان ذلك في الأشهر الأولى من الصراع، إلا أن طول فترة الحرب تراجعت الكثير من إشارات التفاؤل، وما بقي هو ضبط الصراع حتى لا ينفجر بسلاح فتاك!! والضبط ظهر في إدانة علنية من الولايات المتحدة لأحداث الجمعة السوداء (22 مارس 2024م) والتي وقعت في موسكو، كما الإشارات التي جاءت من مقابلة السيد فلاديمير بوتين مع محطة تلفاز أمريكية (فبراير 2014م) والتي ذكر فيها أن محاولات جرت للمفاوضات مع أوكرانيا أفشلها رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بورس جونسون.
معالم الحل في الصراع اليوم أصبحت حدودها واضحة، وقد تجري على مسارات متعددة من خلال مفاوضات تتعدى ربما الأوكرانيين، وتُطبخ في الحجرات الخلفية للقوى الكبرى، كما تعود العالم بعد الردع النووي المخيف.
الخطوط العريضة هي أن تحتفظ روسيا بجزء من أوكرانيا بجانب جزيرة القرم السابقة، وتبقى بقية أوكرانيا دولة ليبرالية، قد تنضم إلى المجموعة الأوروبية الاقتصادية في وقت ما، ولكن ليس إلى حلف الأطلسي. تكون روسيا قد حققت بعض المكاسب، ولكنها استمعت إلى درس مفاده (إلى هنا وفقط)! أي أن فكرة إعادة الإمبراطورية السوفيتية يتوجب أن تنسى، فخطوات سابقة مثل ضم أراضي بعض من دولة جورجيا، ومن ثم جزيرة القرم والتدخل في سوريا وإنشاء قواعد لها هناك، والتدخل في بعض دول إفريقيا وأخيرًا بعض أجزاء أوكرانيا هي ما يجب أن يقف عنده الطموح الروسي، وهو أيضًا ما يستطيع الغرب أن يتسامح معه، لقد ذهبت روسيا إلى المستقبل وهي تحمل عبء الماضي لم يعد ذلك ممكنًا تاريخيًا. أن يستمر.!
أما الغرب فإنه حقق انتصارًا نسبيًا أيضًا بأن منع (بلع) أوكرانيا وأوقف الزحف الروسي والتمدد الذي كان محتمل أن يستمر في الجوار، لأن العملية العسكرية ظهرت إنها أكبر من ثمنها بالنسبة للروس وأيضًا للغرب.
يبقى التعامل مع الملفات الأخرى التي نشأت من فعل الغزو نفسه، خاصة في القطاع الاقتصادي، وهي ملفات ليست هينة، ربما سوف يستمر الضغط الاقتصادي ومصادرة الأموال الروسية أو حتى أرباحها، من أجل استمرار تذكير موسكو بأن اللعبة لم تعد تحمل تكاليفها. فاستمرار دول الغرب عدم الاعتماد على الطاقة الروسية سوف يقلل إلى درجة عدم التأثير على الاقتصاديات الغربية في المستقبل وعلى الاقتصاد العالمي، كما أن تمويل الاتحاد الروسي بالتقنية الحديثة سوف يًمنع، أو يصبح في أدني مستوياته، تذكيرًا بأن حدود السماح لروسيا للدخول في السوق الرأسمالي قد انخفضت.
هذا السيناريو ماذا يعني؟ في الغالب هو سيناريو نقيض لسناريو صمويل هنتنغتون، والذي ضجت النخب في فضائنا الشرقي بترديده في السنوات الأخيرة، حتى اعتقدت إنه صحيح. هنا انقلبت فكرة (صراع الثقافات) التي قال بها هنتنغتون إلى (صراع الإمبراطوريات) الذي لم يعد له مكانًا في التاريخ، فالجرح الغائر لدى النخب الروسية بخسارة الإمبراطورية السوفيتية، والتي هي امتداد للإمبراطورية الروسية التاريخية القديمة، و خروج خمسة عشر كيانًا سياسيًا مستقلًا أو شبه مستقل عنها، هو جرح لا يندمل في مخيلة النخب الحاكمة في الاتحاد الروسي اليوم، تحتاج إلى أجيال حتى تتخلص منها، و أيضًا إلى أوضاع اقتصادية \ سياسية مناسبة، لم تتهيأ بعد، حرب أوكرانيا هي بداية التعافي من ذلك الجرح.
لدى روسيا اليوم تحالف فضفاض مع بعض جيرانها والذين كانوا جزءًا من الإمبراطورية السابقة، وهو تحالف تتشابه فيه أنظمة الحكم، بصورة عامة هي أنظمة شمولية تجرى فيها (انتخابات) يعاد انتخاب الرئيس فيها مرة بعد أخرى. إلا أن بعضها شهدت في الآونة الأخيرة (انتفاضات) شعبية وقد قمعت كما في (روسيا البيضاء)، وأيضًا كازاخستان وقرغيزستان، وكلها انتفاضات تدل على شوق تلك الشعوب إلى التحرر، وقد يعود ذلك الشوق إلى الظهور إن لم تحقق روسيا كل أهدافها في أوكرانيا.
بالطبع تجمع روسيا مع بعض دول الجوار ما يعرف بمعاهدة الأمن الجماعي، ونصوصها تسمح لأن تتدخل روسيا في أي (اضطرابات داخلية) والتي هي في الغالب قادمة من تطلع شعوب تلك المناطق إلى ان تعيش في أنظمة سياسية مرنة، لديها قدرة على تحقيق التنمية وحدود دنيا من حقوق الإنسان معًا. إلا أن حدود التدخل في المستقبل تضيق.
دفع الغرب في السنوات الأخيرة مبالغ مالية ضخمة تقدر في مجملها تقريبًا بمئة بليون دولار لمساعدة أوكرانيا، أو لضبط التوسع الروسي. كما سوف يدفع مبالغ طائلة أخرى من أجل إعمار الدولة المنكوبة، في نفس الوقت تصاعد التضخم في الاقتصاديات الغربية إلى حد دفع المواطنين في عواصم غربية كثيرة إلى الشوارع محتجين على الأوضاع، وأصبحت كُلف المعيشة في عدد واسع من الدول تصل حدًا دفع بقطاع واسع من السكان إلى حافة الفقر، كما بدأت مصادر الغذاء تنذر بحدوث مجاعات غير مسبوقة، مما يهدد بهجرات إنسانية ضخمة من دول العوز .
إذن هي حرب رغم محدوديتها المكانية إلا إنها عالمية بمعنى من المعاني، لا يستطيع العالم أن يستمر في مثل تلك المغامرات، لأنها إن تكررت قد تدفع الشعوب حكوماتها إلى الذاهب إلى معادلات صفرية، توصل الإنسانية إلى ما ترتعب منه وهو (الشتاء النووي)!
بقاء روسيا والغرب بين منزلتين لا طلاق بائن، ولا زواج ناجح يؤذن بعد الأزمة الأوكرانية بعقد زواج جديد وبشروط جديدة. وهي ما يسمى الآن (فجر نظام عالمي جديد)
الخليج وتداعيات حرب أوكرانيا!
هي حرب بين دولة كبرى ودولة أصغر منها، لا تشبه الحروب السابقة في دول العالم، و التي نشبت بعد الحرب العالمية الثانية، معظم ما حدث من حروب في فترة السبعين عامًا الماضية كانت حروبًا بالوكالة، حرب أوكرانيا بالأصالة، بين أوكرانيا، و روسيا الاتحادية، ولكن أيضًا تشارك فيها بدرجات الدول الغربية (بالمعنى السياسي و التسليحي ) أي الولايات المتحدة و دول أوروبا، و أستراليا و اليابان وكوريا الجنوبية، وعدد آخر مما يعرف سياسيًا بشكل واسع ( بالمعسكر الغربي) . هي حرب لن تضع أوزارها في الغد القريب، فلها ما بعدها، لقد كشف كل معسكر أوراقه علنًا، (وأخرج ما في الصدور)!. كان من السهل الحديث أيام السوفييت، أن هناك خلاف أيديولوجي يباعد بين اجتهادين سياسيين، لم يعد الأمر كذلك، فما هو تكيف الصراع اليوم؟ ربما الأقرب، إنه صراع مصالح وأيضًا صراع على التاريخ السابق واللاحق! ومنظومة العلاقات الدولية. مهما كانت الأسباب فإن التداعيات كما تبدو مؤشراتها الحالية ضخمة، واحتمال توسع الحرب لا يتوجب ان يُتجاهل، كما أن احتمال التغيير في عدد من العلاقات الجيوسياسية قد يكون الأقرب. فما هي تداعيات الحرب على منطقة الخليج بشكل مباشر والفضاء العربي ؟، يمكن ملاحظة خمس من المؤشرات الرئيسية:
أولا: الحاجة إلى الطاقة، فمن المعروف ان روسيا كانت تمد الدول الأوروبية بالطاقة (النفط والغاز) فلديها اليد العليا وربما حتى الآن، ولكن معاداتها الغرب قد لا يضمن أن تستمر في إرسال شريان الحياة إلى الصناعة الغربية، ومن هنا يتجه المعسكر الغربي إلى منطقة الخليج مرة أخرى كونه مخزن للطاقة. حتى أشهر قليلة قبل نشوب الحرب، كان يكاد الغرب أن يعطي ظهره للمنطقة (تعبير مجازي)، ولا يأخذ هواجسها مأخذ الجد، سواء الحرب في اليمن أو التهديد الإيراني، أو حتى التدخل التركي، كان التركيز كما تقول مؤسساتهم على الصين وما جاورها، كونها تشكل التحدي الاقتصادي والتقني الأهم للغرب. حرب اوكرانيا قلبت المعادلة فحضر أو اتصل العديد من المسؤولين الغربيين إلى منطقة الخليج سريعًا من أجل تأكيد إمدادات الطاقة، بل وتأمين الكثير منها في المستقبل، إلا أن أسواق الطاقة كانت قد استقرت في شراكة ما يعرف بـ أوبك بلس، وفيها المكون الروسي أساسي، هنا العقبة التي لا بد من مواجهتها، ولن تكون المواجهة آنية، بل سوف تعتمد كثيرًا على تطور مسار الصراع العسكري في أوكرانيا.
المعسكر الغربي ينتظر الطاقة أيضًا من أماكن أخرى أقرب إلينا وهي إيران، التي يتوقع الغرب أنه بمجرد أن يوقع معها اتفاق نووي جديد، يمكن أن تتدفق سيولة جريان النفط الإيراني، وربما الغاز أيضًا إلى الدول الأوروبية؟ وهذا سيناريو ليس بعيد عن ذهن المخطط الإيراني، إلا أن السؤال أي ثمن سياسي يمكن ان يًسدد؟ هل هو إطلاق يد إيران في المنطقة، وتشجيع ميليشياتها على التغول على الحكومات و المجتمعات المجاورة؟، وإن تم ذلك فإن أقل تأثير له هو اضطراب إمدادات الطاقة، و التي تحتاجها الدول الغربية! وكذلك اضطراب ضخم في الأمن الإقليمي، هي معادلة على متخذ القرار الغربي أن يفكر فيها بجدية، إلا أن الظاهر حتى الآن أن الغرب في هذا الملف يقدم رجل ويؤخر أخرى!
ثانيًا تسليح الدول الغربية، وأهم ما يلاحظ هنا هو ما صار يعرف بإيقاظ المارد الألماني و الذي ظل راقدًا السبعين عامًا الماضية تقريبًا، ألمانيا هي قلب الصناعة في أوروبا الغربية وتملك من الإمكانيات الفنية و التقنية حجمًا أكبر من أية دولة أوروبية أخرى ، وبالتحرك نحو التسلح في هذه الدولة، و ربما الذهاب إلى التجنيد الإجباري يمكن في فترة قصيرة نسبيًا أن تصبح قوة ضاربة قد تتغير أولوياتها، فلها الكثير من الأماني التاريخية في الجوار ، عدى أن أوروبا بشكل عام استيقظت بسبب طبول الحرب في أوكرانيا على أهمية أن يكون لها قوة عسكرية مستقلة أو شبه مستقلة، كانت الفكرة متداولة في أروقة الاتحاد الأوروبي، ولكن الحاجة الفعلية ظهرت بقوة بعد اندلاع حرب أوكرانيا، وقد بدأت الدول الأوروبية، حتى الصغيرة، منها تجدد سلاحها، و تستعد للأسوأ دون الحاجة المباشرة للغطاء من الولايات المتحدة إن اضطرت إلى ذلك، ويجري الحديث اليوم في بريطانيا على إعادة ( التجنيد الإجباري) بل وأشارت للتدخل العسكري في أوكرانيا بعد أن طالت الحرب و ارتفعت تكاليفها، كما أشار من بعيد الرئيس الفرنسي !
ثالثًا تغير مواقف الدول: الأقرب إلى اليقين إن مواقف دول عديدة سوف تتغير من خلال ضغط المعسكرين على الدول الجالسة الآن على (الحياد) كما تسميه، فالحياد هنا (من وجهة نظر المعسكرين) هو نزع أوراق مهمة في الاصطفاف السياسي! قريبًا سوف ترتفع نغمة (من ليس معنا فهو ضدنا)، مما قد يشعل صراعات بينية، يؤججها كل معسكر بما لديه من قدرة، مستفيدًا من المتناقضات المحلية أو الإقليمية، بعضها داخلي وبعضها في الجوار، ويستخدمها لصالحه.
رابعًا الخطر الإقليمي: حتى الآن إسرائيل تظهر الحياد، وربما أيضًا يتمنى بعض ساستها القيام بالتوسط بين المتحاربين، ولكنها تركز اهتمامها على منع الاتفاق النووي الإيراني لصالح إيران، فإن ذهبت الولايات المتحدة في استرضاء طهران إلى درجة تشعر بها تل أبيب أن مصالحها الحيوية مهددة، قد يحدث اشتباك ساخن تجبر فيه الولايات المتحدة أن تناصر إسرائيل (بسبب قوة اللوبي الإسرائيلي في داخلها)، وقد تجبر روسيا الوقوف مع إيران، بل إطلاق يد الأخيرة بشكل أكبر في كل من سوريا و العراق و لبنان و اليمن! ودول أخرى ترى إيران أن لها حاضنة فيها! هنا تقرب الخطر من آبار النفط العربية وتدخل المنطقة في ساحة اللايقين! وقد زاد الصراع في غزة (مساحة الايقين) حيث تعتبر بعض الأوسط (وخاصة الإسرائيلية) إن أحداث 7 أكتوبر هي جزء من مخطط إيراني لاضطراب المنطقة، وهو رأي يجد الكثير من التأييد في العواصم الغربية.
خامسا الخيارات : اختبار المكان الصحيح للتاريخ عملية صعبة، وكان النقد في أدبيات السياسة العربية إنهم غالبًا ما يختاروا المكان الخطأ من التاريخ ، وبعضهم الآن يفعل ذلك ، إلا أن الخيار العقلاني، هو الانحياز إلى القانون الدولي والذي يقول بصريح العبارة ( تحريم وتجريم أي دولة تعتدي على دولة أخرى) و هذا ما حصل في الحالة الأوكرانية، بصرف النظر عن قبائح المعسكر الغربي، إلا أنه معسكر يمكن إيجاد مساحة خليجية للتعاون معه لضبط المصالح المشتركة، وهي كثيرة ، كما أن الانحياز إلى نظام شمولي، حتى لو بدا يحقق مصالح آنية، فإن المراهنة عليه تاريخيًا قد لا تكون حصيفة . أما الأكثر حصافة فهو الفهم الأكثر دقة للصراع الأممي والذي يقول على الجميع أن (يقلعوا شوكهم بأيديهم) وهنا الأهمية القصوى لمحور عربي (بمن حضر) للتفكير في جدار عربي معتمدًا أساسا على النفس، ومركب من درجتين، تصفية الخصومات وربط المصالح الأمنية معًا.
الخلاصة
مستقبل التفاعلات العالمية غير مؤكد، وقد يكون حافل بالمفاجآت، العالم وأيضًا موسكو تنتظر أولًا نتائج الانتخابات الأمريكية ( نوفمبر 2024م) و أيضًا نتائج الصراع حول غزة و القضية الفلسطينية، لأن العاملين سوف تؤثرا عند حدوثهما في شكل التوازنات العالمية المقبلة، كما أن توسع وسائل الابتكار الاصطناعي ( الذكاء الاصطناعي) وفجوة الايقين التي سوف يخلقها في شكل العلاقات الدولية المحتملة، لا زالت في أولها، وسوف يدخل ذلك التطور التقني الهائل البشر في عصر جديد و مختلف، و طرق جديدة في التنافس المتسم بأنه الأسرع و الأكثر تعقيدًا، من مرحلة اختراع البخار أو حتى السكة الحديد، لذلك فإن القيادات الوطنية مطلوب منها اتخاذ قرارات بالغة الجودة، بسبب ذلك التحول العظيم في التقنية، وهو تحدٍ علينا في الخليج أن نأخذه بالجدية الكاملة التي يستحقها، لذلك فإن سياسيات خليجية متقاربة، ومنسجمة مع بعضها في معظم المجالات و بخاصة الاستراتيجية ، قد يمكنها من أن تبحر في هذا اللج المتلاطم من صراع القوى المتوقع، و هذا الكم الضخم من التحديات الاقتصادية و التقنية.