يصنف الصراع الروسي-الأوكراني-الأطلسي ضمن الصراعات الجيوبوليتكية الوجودية بين القوى الكبرى على مكاسب استراتيجية مرتبطة بالمجالات الحيوية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، مما يجعلنا نتوقع منذ بداية الحرب أن الصراع سيبقى ضمن الصراعات الاستراتيجية ذات الحصيلة الصفرية، لا يمكن لأي طرف أن يقدم تنازلات لاعتقاده بأن وجوده وبقاءه مرتبط بالمكاسب التي يطالب ويتمسك بها، وفي هذا المجال، فإن روسيا لا يمكنها أن تترك أوكرانيا تنضم للحلف الأطلسي أو المشروع الأوروبي لكي تحاصرها وتخنقها في اليابسة، مادام أن العقيدة الجيوبوليتكية والعسكرية الروسية مرتبطة وجوديا بالتنفس من رئة المياه الدافئة. وبالعكس، فإن الإدراك الأمريكي يستند إلى أن مصلحتها الكونية مرتبطة بالحفاظ على النظام الدولي القائم وقواعده الأمنية، السياسية والمالية التي تم إرساؤها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بحيث ترفض أي تمدد روسي خارج اليابسة وقلقها وهاجسها الأمني الذي لا تخفيه، منع أي تحالف روسي- ألماني في منطقة أوراسيا، على حد تعبير زبيغنيو برجنسكي:" من حسن حظنا أنه لا توجد تحالفات بين ألمانيا وروسيا في قلب أوراسيا"، وبالتالي فإن تحليل الحرب الروسية-الأوكرانية من خلال بنية النظام الدولي تعطينا بعض التصورات لطبيعة ودينامية ومحاولة استشراف السيناريوهات المحتملة التي ستنتهي إليها الحرب.
أولًا، الملامح الاستراتيجية الكبرى للحرب الروسية ـ الأوكرانية.
فرضت الواقعية الهجومية على روسيا بوتين من أجل وقف التمدد الأطلسي إلى حدودها البرية أن تستخدم الخيار العسكري لتحييد ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف الأطلسي، وابتلاع المجالات الحيوية الإقليمية الأوكرانية من خلال إلحاق الأقاليم الأربعة، دوناسك، لوغانسك، زابورجيا، وخيرسون وإدماجها ضمن الأقاليم الروسية منذ سبتمبر 2022م، مع السعي الدائم نحو مراقبة كل المنافذ البحرية من بحر أزوف إلى البحر الأسود. بعد عامين من الحرب أضحت روسيا تسيطر على 18 % من الأقاليم الأوكرانية، مع العلم أن 7 % منها تم إلحاقها قبل سنة 2022م، ضمن الحرب التي انطلقت فعليًا سنة 2014 م، بابتلاع شبه جزيرة القرم، التي تشكل مجالًا حيويًا في شمال البحر الأسود بمدخل بحري إلى مضيق البوسفور والبحر المتوسط، كما تدخلت عسكريًا في شرق أوكرانيا في منطقة دونباس. وبما أن الشهية الإقليمية الروسية تنامت وزادت حدتها بابتلاع القلعة الحصن، وهي التسمية العربية للقرم، فإن تمددها في أوكرانيا لم يتم كبحه في السنتين الماضيتين إلا بميزان القوى العسكري الأوكراني الذي دعم صموده بالحلف الغربي الدبلوماسي، الأمني العسكري والمالي.
فرضت الواقعية الهجومية على روسيا أن تختبر مواردها وقوتها مقارنة بميزان القوى الدولي لمواجهة الكتلة الغربية الأمريكية-الأوروبية الداعمة لأوكرانيا، ومؤشرات هذه القدرات أنها تمتلك عمق جغرافي استراتيجي غني بالموارد الحيوية، الغاز، النفط، القمح، مما يقلل من تبعيتها الاستراتيجية للخارج، كما تمتلك قدرات عسكرية ومخزون استراتيجي نووي منذ الحرب الباردة يمنحها القدرة للاستمرار في الحرب العالمية الكثيفة المدى، ما جعلها تفرض توازن الرعب النووي مع الحلف الأطلسي الذي تم تحييده في إرسال قوات جوية لفرض حظر الطيران الروسي في المجال الجوي الأوكراني أو إرسال قوات إلى أوكرانيا . وأثبتت موسكو قدرتها على التكيف الإيجابي في مواجهة العقوبات الغربية المتعددة ببناء تحالف استراتيجي موازي مع الصين والهند والتوجه نحو الهادي-الهندي أين تجري مستقبل اللعبة الدولية لإعادة رسم ملامح النظام العالمي الجديد. فاستطاعت روسيا أن تحول صادراتها نحو آسيا بما يقارب ثلاثة أرباع مقابل 20 % نحو أوروبا، وأصبحت الهند والصين تستورد 40 % من الطاقة من روسيا.
ومن الناحية الاستراتيجية، تحاول روسيا أن تعيد تقسيم الصراع الكوني لما بعد الحرب العالمية الثانية بين الغرب والشرق باستخدام التقسيم الاقتصادي والأيديولوجي الجديد "الجنوب الشامل" في مواجهة" الغرب الشامل"، وتوظيف ازدواجية المعايير الغربية بين ما يجري في أوكرانيا وما يجري من جرائم الصهيونية في غزة، وقد استطاعت أن تحشد كتلة جيوستراتيجية داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الرافضة للعقوبات الغربية ضد روسيا وإدانتها، تضم كل من الهند والصين المنضوية ضمن مشروع "الجنوب الشامل".
كما تفرض الواقعية الهجومية على روسيا، من جهة أخرى، أن تتعامل مع بيئة غربية عدوانية لا مجال للنوايا الحسنة في حساباتها الاستراتيجية، وقد حددت شروط التفاوض مع أوكرانيا لوقف الحرب منذ الساعات الأولى بثلاثة مطالب حاسمة، أولها، أن تفرض عليها توقيع اتفاقية دولية تضمن الحياد الأوكراني وعدم انضمامها إلى الحلف الأطلسي، الشرط الثاني، نزع الأسلحة الهجومية التي تهدد الأمن القومي الروسي، وثالثًا، أن تضمن حقوق الروس في أوكرانيا، الذي يعني في النهاية أن تجد نخبة موالية لروسيا في إطار ما تسميه بمحاربة النازيين الجدد والقوميين الأوكرانيين.
الملاحظ بعد سنتين من الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية، عودة البيئة الدولية إلى مرحلة الحرب البادرة في مظاهرها البارزة، بناء التحالفات العسكرية والسباق نحو التسلح، مع استراتيجية الاحتواء الغربي ضد روسيا من خلال رزنامة العقوبات المالية، التجارية، العسكرية المفروضة عليها وتوسيع الحلف الأطلسي إلى أعضاء جدد. وإذا حللنا الدعم المالي والعسكري الأمريكي-الأوروبي لأوكرانيا منذ بداية الحرب فإننا نجد الدعم الأمريكي العسكري في الرتبة الأولى بقيمة 42 مليار يورو مقارنة بألمانيا التي دفعت 17 مليار يورو، أي أقل من الدعم الأمريكي مرتين ونصف. وهذا دون حساب الدعم الشامل الأمريكي بما فيها المساعدات الاقتصادية والإنسانية التي تجاوزت 110 مليار دولار، وهو ما يثير من جديد إشكالية مستقبل الأمن الإقليمي الأوروبي خارج مظلة الحلف الأطلسي خصوصًا بعد القلق والهواجس التي بدأت صداها تتردد في حالة عودة دونالد ترومب إلى البيت الأبيض وموقفه الصارم الرافض لتحمل الأعباء المالية والاستراتيجية لأمن أوروبا، خصوصا وأن واشنطن لا تزال تغطي 70 % من الانفاق العسكري للحلف الأطلسي حفاظا على تفوقها وريادتها العالمية كقوة استراتيجية، كما تنفق أكثر من 40 % من الإنفاق العسكري العالمي. ولعل موقف نواب الكونغرس الجمهوريين المؤيدين لدونالد ترومب، والذين يتزعمهم مايك جونسون، رفضوا التصويت على مساعدات بقيمة 60 مليار دولار لأوكرانيا بحجة تبني شعار "إمريكا أولا" وتوجيه تلك الأموال للحفاظ على الأمن القومي الأمريكي من تزايد الهجرة الوافدة من المكسيك ووضع مشاريع الجدارات العازلة بدلًا من تحويلها إلى الحرب الأوكرانية. وهو ما أدى بالأوروبيين إلى الإسراع من وتيرة البحث عن الأمن الأوروبي المستقل من خلال مجموعة المشاريع المشتركة، لتجاوز عقدة أوروبا العملاق اقتصاديًا وماليًا والقزم الاستراتيجي والعسكري. وكل المؤشرات تثبت أن ما قبل الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية كان التوجه الأوروبي نحو بناء السلام الكانطي- نسبة إلى إيمانويل كانط- القائم على الاعتماد المتبادل، والسوق الموحدة، والقيم الليبرالية وحقوق الإنسان، وبناء الرفاه الاجتماعي، في حين أن الميزانية العسكرية للدول الأوروبية السبعة والعشرين مجتمعة لا تمثل إلا ثلث الميزانية العسكرية الأمريكية، وعلى سبيل المثال فإن القدرة البحرية الأمريكية تشير إلى امتلاكها 11 حاملة طائرات بينما أوروبا مجتمعة لا تملك إلا واحدة فرنسية، شارل ديغول. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تنفق 3.5 % من الإنتاج الداخلي الخام في الدفاع في الوقت الذي لا يتعدى الإنفاق الأوروبي في الدفاع أكثر من 1.5 % بينما روسيا تنفق 6 % من إجمالي إنتاجها الداخلي الخام. يضاف إلى الضعف الأوروبي في قضايا الأمن والدفاع اعتمادها بنسبة 68 % على استيراد التجهيزات العسكرية والأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جعلها تطرح من جديد إحياء الصناعة الحربية لمواجهة التهديد الروسي. وكان واضحًا هذا التحول الاستراتيجي الأوروبي تجاه روسيا في عقيدتها الدفاعية المشتركة ما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث اعتبرت روسيا تهديدًا مباشرًا ودائمًا للأمن الأوروبي، كما أنها تشكل تهديد مباشر للنظام العالمي وتحالفها المثير للقلق مع الصين. ولم تخف كل من ألمانيا وفرنسا اللتان تشكلان دولتا القلب في أوروبا تخوفهما من تصاعد التهديد الروسي لأمنهما القومي، حيث صرح وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، أن أوروبا تواجه أكبر تهديد عسكري لها منذ 30 عامًا وقد تهاجم روسيا يومًا ما دولة عضو في الحلف الأطلسي. وكان الجدل الكبير داخل فرنسا وأوروبا حينما أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في حوار مع التلفزيون الفرنسي (14 مارس 2024م) أن فرنسا لديها الاستعداد للمشاركة الفرنسية البرية في الحرب الأوكرانية حتى لا تنتصر روسيا، لأن أمن الفرنسيين حسبه يتطلب هزيمة روسيا. وتعود من جديد بيئة الواقعية الهجومية، لا يمكن لصانع القرار الأوروبي أن يعير أدنى اهتمام للنوايا الحسنة للرئيس بوتين، على حد قول ماكرون:" إذا انتصرت روسيا فلن يكون لدينا أمن بعد الآن، لأن النظام الروسي بقيادة فلاديمير بوتين لن يتوقف عند حدود أوكرانيا".
يثير هذا التوجه نحو بناء المنظومة الأمنية والدفاعية الأوروبية إلى الفجوة القائمة بين أوروبا وروسيا بدون الدعم الأمريكي، ففي دراسة للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية البريطاني في سنة 2019م، تشير إلى أن أوروبا ستحتاج 20 سنة على الأقل لبناء قوة دفاعية لتوازن الردع مع روسيا، فهي بدون الحليف الأمريكي لا يمكنها أن تواجه الغزو الروسي لليتوانيا والأراضي القريبة من بولندا، وأن التكلفة لبناء منظومة أمنية مستقلة تحتاج إلى ما يقدر 420 مليار دولار. وقد أثبتت الحرب الروسية –الأوكرانية أن أوروبا وقفت عاجزة عن سد المطالب الدفاعية الأوكرانية من الذخيرة، حيث التزم الاتحاد الأوروبي بتزويد أوكرانيا بحلول سنة 2024 م، بمليون وحدة ذخيرة، لم يتم تسليم إلا 300 ألف قذيفة فقط، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي لتدشين مصنع بارود المزود للقذائف، مع العلم أن هذا المصنع الذي فتح سنة 1915م، بغرب فرنسا تم تفكيكه عام 2007م، وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية أعيد تدشينه لإنتاج 1200 طن من البارود سنويا، وهو ما يؤشر بعودة الإنتاج الحربي في إطار ما سماه ماكرون باقتصاد الحرب وقناعته المستقبلية:" أن على المدى الطويل هناك تحولاً جيو سياسيًا وجغرافيًا استراتيجيًا تلعب فيه الصناعات الدفاعية دورًا متزايدًا".
ثانيًا: المكاسب الاستراتيجية الأمريكية من الحرب الروسية-الأوكرانية.
من الملامح الاستراتيجية الكبرى لما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية توسع الحلف الأطلسي إلى دولتين مجاورتين لروسيا على بحر البلطيق، بعد انضمام فنلندا في أبريل 2023م، وانضمام السويد في مارس 2024م، ودافعهما في ذلك هواجس مأزق الأمن التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد عبر عن هذه المخاوف غالبية الرأي العام في كلا البلدين لما يخزنه من كليشيهات سلبية لتاريخ العلاقات مع روسيا، حيث أيد الرأي العام في فنلندا بعد الحرب مباشرة انضمام بلادهم إلى الحلف الأطلسي بنسبة 65 %، بينما أظهرت استطلاعات الرأي العام في السويد دعم الانضمام للناتو بنسبة 57 %. والمقارنة البسيطة أن فنلندا أعادت إحياء مشهد الغزو السوفياتي لفنلندا سنة 1939م، أين استولت على 10 % من أراضيها، وبالتالي ينظرون إلى الحلف الأطلسي كصمام أمان أمام عودة التوسع الروسي وحلم الإمبراطورية القيصرية. بينما انضمام السويد يعبر عن بيئة دولية مستقبلية تتميز بعدم اليقينية في اتجاهاتها بعد تخلي السويد عن سياسة الحياد التي انتهجتها لمدة قرنين من الزمن لتجنب الصدام بين الشرق والغرب. ويؤشر هذا التوجه نحو توسيع الحلف الأطلسي على النتائج العكسية غير المتوقعة بالنسبة لروسيا التي حاولت وقف التمدد الأطلسي منذ إعلان جورجيا وأوكرانيا انضمامهما إلى الحلف واستخدمت أدوات الردع والإكراه العسكري لتعطيل هذا التمدد. ما يلاحظ هنا، أن التوسع الأطلسي قد عمق أكثر من عدم الاستقرار الدولي بين روسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تنظر إليه روسيا على أنه تطويق شبه كامل لنفوذها في بحر البلطيق التي أضحت منطقة نفوذ أطلسية، مما يعيدنا إلى مرحلة الانتشار النووي على الحدود البرية الروسية-الفنلندية التي تصل إلى 1340 كلم، والتهديد باستخدام الأسلحة الاستراتيجية مع عزم روسيا نقل أسلحتها النووية التكتيكية إلى بيلاروسيا لمواجهة التوسع العسكري الأطلسي، كما تعترف روسيا أنها ستفقد دولتين شكلت عبر تاريخ الحرب الباردة حديقة خلفية للمفاوضات مع الغرب لموقعهما الحيادي.
والشاهد في هذه التحولات الاستراتيجية الأمنية العميقة، أن قبل الحرب الروسية-الأوكرانية خصوصًا في فترة إدارة دونالد ترومب كان الحديث يدور حول الموت الإكلينيكي للحلف الأطلسي، ونقصد هنا تصريح ماكرون إلى مجلة "ذي إيكونيميست" البريطانية :" إن حلف الأطلسي في حالة موت إكلينيكي لافتقاره التنسيق، وعدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الأمريكية في ظل قيادة الرئيس دونالد ترومب" ( نوفمبر 2019) ورد عليه وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، في مقال بمجلة "دير شبيغل" الألمانية يذكره: " سيكون من الخطأ أن نقوض حلف شمال الأطلسي، بدون الولايات المتحدة الأمريكية لن تتمكن ألمانيا ولا أوروبا من حماية نفسها على نحو فعال". وقد تم تكريس شرعية الزعامة والقيادة الأمريكية في الحرب الروسية-الأوكرانية من خلال إعادة إنعاش الحلف الأطلسي بما يخدم المصلحة الكونية الأمريكية، القائمة على تحييد لاعبين جيوستراتيجيين في أوراسيا يشكلان تحديا لمستقبل مكانتها العالمية. وإذا حاولنا أن نحصي المكاسب الاستراتيجية الأمريكية بعد عامين من الحرب الروسية-الأوكرانية، فيمكن أن نركز على قضيتين جوهريتين، تعزيز المكانة العسكرية الأمريكية واستبدال التبعية الأوروبية للطاقة الروسية لصالح الشركات الطاقوية الأمريكية. وهناك الكثير من الدراسات الميدانية التي تثبت كيف استفادت المصانع العسكرية الأمريكية من المساعدات العسكرية الممنوحة لأوكرانيا، نشير هنا على سبيل الذكر، إحصاء قام به المركز الاستراتيجي والدراسات الدولية، يؤكد فيه على أن في بداية أكتوبر 2023 م، استفادت القوات المسلحة والصناعة العسكرية الأمريكية من 68 من بين 110 مليار دولار التي وجهت لأوكرانيا، أي ما نسبته 60 % من الأموال الموجهة لأوكرانيا. وهو ما أكده، مارك تيسان، عضو مركز أنتربريز الأمريكي، من أن أغلب المساعدات العسكرية المصوت عليها داخل الكونغرس الأمريكي لفائدة أوكرانيا يتم استثمارها في الأرض الأمريكية بحيث تعود بالفائدة على المواطن والاقتصاد الأمريكي. ويقدم نموذج لهذا التبرير من خلال إمداد أوكرانيا بـ 1400 صاروخ ستينغر، مما سمح للبنتاغون بتوقيع عقد مع الشركة الأمريكية بقيمة 625 مليون دولار لتجديد المخزون الأمريكي وتفعيل الإنتاج المحلي للمركب الصناعي العسكري. أما المكسب الاستراتيجي الآخر الذي سيعزز من القدرات الأمريكية فإنها تحولت إلى المصدر الرئيسي للغاز الطبيعي المسال لأوروبا في السنتين لما بعد الحرب لتعويض 155 مليار متر مكعب من الغاز الذي كانت تستورده أوروبا سنويًا من روسيا. وحسب معطيات هيئة الإحصاء الأوروبية "يوروستات"، فإنه خلال عشرين شهرًا من فبراير 2022 إلى سبتمبر 2023م، اشترى الاتحاد الأوروبي 61 مليار متر مكعب من الشركات الأمريكية مقابل ما يقارب 67 مليار دولار. وأضحت أوروبا في تبعية للغاز الأمريكي وهو ما تبينه معطيات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، حيث تصاعدت نسبة الواردات الأوروبية في الثلاث سنوات الماضية بشكل ملفت للانتباه، بعدما كانت لا تشكل إلا 27 % من إجمالي واردات الغاز المسال في سنة 2021 م، انتقلت إلى 44 % سنة 2022 م، لتبلغ نسبة 48 % سنة 2023م.
ثالثًا: سيناريوهات ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على المنطقة العربية
تفرض علينا طبيعة الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية أن نستشرف اتجاهاتها المستقبلية بالاستناد على بعض التصورات النظرية في العلاقات الدولية، ونزعم هنا أن كل من الواقعية الهجومية والواقعية الدفاعية ستساهم إلى حد كبير في وضع بعض المشاهد المحتملة على المديين القريب والمتوسط.
سيناريو الواقعية الهجومية، وهو الذي يستند إلى تحليل بنية النظام الدولي انطلاقا من القوى الفاعلة فيه، حيث تتأثر مجموع الفواعل الدولية، بما فيها الدول العربية والإفريقية، بما تحدده طبيعة التفاعلات بين القوى الدولية المهيمنة والقوى الدولية المتحدية للنظام الدولي القائم، وقد حاولنا أن نثبت منذ البداية بأن وفق هذا التصور فإن من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية أن تقوض كل الفرص الممكنة لصعود روسيا والصين أو أي تحالف في أوراسيا يهدد الزعامة الأمريكية، وعليه فإن استمرار الحرب لاستنزاف القدرات الروسية قد يخدم التفوق الأمريكي وبعض مؤشراته تبدو واضحة في المكاسب الاستراتيجية، العسكرية ،الطاقوية والمالية، مع إبقاء الكتلة الأوروبية في تبعية أمنية للمظلة الأطلسية. وبمحاكاة التجربة الروسية مع أوكرانيا من المحتمل أن يتوسع الصراع أكثر بتحريك النزاع بين الصين وتايوان لتشتيت القدرات الصينية في منطقة الهادي والهندي وبناء تحالفات مع خصوم بيكين، لا سيما مع اليابان، كوريا الجنوبية واستراليا. لأنه بكل بساطة، الواقعية الهجومية تقوم على مبدأ واضح، مفاده ليس هناك نوايا حسنة لدى الخصوم الاستراتيجيين. وقد أكد هذا الاتجاه المستقبلي التقييم السنوي للتهديدات العالمية الذي وضعه مجتمع الاستخبارات الأمريكي (فبراير 2024م) وملخصه:" أن الصين الطموحة والقلقة، وروسيا التي تميل للمواجهة، وبعض القوى الإقليمية، مثل إيران، والجهات الفاعلة غير تابعة للدولة، تتحدى القواعد القديمة للنظام الدولي"، مع تقدير القوة الروسية في الحرب الأوكرانية بأنها ستظل خصمًا مرنًا وقادرًا للدفاع عن مصالحها وتقويض مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تستمر روسيا في السعي وراء مصالحها بطرق تنافسية وأحيانًا تصادمية، وستمارس الضغط من أجل التأثير على الدول الأخرى في مرحلة ما بعد الحرب، خصوصًا تلك التي انضمت أو تحاول الانضمام للحلف الأطلسي.
سيناريو الواقعية الدفاعية، ويستند هذا المشهد المستقبلي على سعي القوى الكبرى المتنافسة على الحفاظ على توازن القوى من أجل استقرار النظام الدولي، وهي نفس اللعبة الاستراتيجية التي ساهمت في استقرار النظام الدولي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع التغيير الجوهري قبول واشنطن بمبدأ التعددية القطبية الذي بدأت ملامحه الاقتصادية والمالية تتضح مع المشاريع الكبرى، مثل مجموعة البريكس. ومن الخيارات التي تطرح لتسوية الحرب الروسية-الأوكرانية ما طرحه عمالقة الواقعية الكلاسيكية من أمثال هنري كيسنجر، الذي نصح صانعي القرار في الغرب بالأخذ بعين الاعتبار المصالح الروسية في تسوية سلمية للحرب في أوكرانيا حتى لا تتحول موسكو موقعًا أماميًا للصين في أوروبا، وبخبرته الدبلوماسية التي قاربت القرن أكد أن اختبار السياسة هو كيف تنهي الحروب وليس كيف تبدأ، واقترح في بداية الحرب أن تتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها لروسيا، لأن سعي أحد الطرفين، الروسي أو الغربي إلى الهيمنة على الآخر ستكون نهايتها حرب أهلية أو تفكك، وأن تبقى أوكرانيا جسرًا بين الشرق والغرب. وقد نشهد تكريس هذا السيناريو مع احتمال عودة دونالد ترومب إلى البيت الأبيض في بداية 2025م، الذي يكرر في كل مرة قدرته على حسم الحرب في يوم واحد، وليس من الصدف أن يتم تسريب نفس المشروع الذي تبناه هنري كيسنجر للحفاظ على استقرار النظام الدولي، حيث سبق لصحيفة "بيلد" الألمانية أن نشرت خطة التسوية صاغها الملياردير "إيلون ماسك" لصالح ترومب ترتكز على احتفاظ روسيا بالقرم وبعض الأراضي الأوكرانية مع ضمان عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو. وتوافقت هذه المعلومات مع ما نشرته "الواشنطن بوست" من أن ترومب سيضغط على كييف للتنازل عن القرم ودونباس لروسيا وذلك من أجل فك الارتباط الاستراتيجي الروسي-الصيني.