يعتبر الأمن الإقليمي الأولوية الأولى لدول المنطقة التي عانت وما تزال من هشاشة الأوضاع الأمنية خصوصاً في الفترة التي تبعت حرب الخليج وإسقاط النظام العراقي وهي الأزمات التي أنهت ما كان موجوداً من منظومة الأمن الإقليمي ودفعت بدول المنطقة إلى التعامل مع الأمن بصورة منفردة من خلال الاعتماد على تفاهمات ثنائية مع الشركاء الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. هذه المقاربة أثبتت عجزها عن تحقيق الأمن المنشود وأدت إلى اشتعال العديد من الأزمات في المنطقة. هذا الواقع يشير وعلى الرغم من إيمان الجميع بأهمية الأمن الإقليمي إلا أن التقدم فيه كان محدوداً لأسباب داخلية وخارجية سوف نأتي إلى ذكرها. إن الحقيقة التي يجب أن نبدأ من عندها هي أن الأمن ليس من القضايا التي يمكن علاجها عن طريق التعاقد مع الآخرين (Outsourcing) بل الأصل فيه الاعتماد على القوى الذاتية لدول الإقليم أولاً ثم الاستعانة بالشركاء العالميين بحسب طبيعة الأخطار وتقاطعها مع مصالح الشركاء وليس العكس كما هو حاصل اليوم. ربما يكون الأوان قد حان لدول المنطقة أن تستشعر هذه الأهمية وتبادر إلى أخذ زمام المبادرة في ملفها الأمني. ولعل مما يشير إلى هذا التوجه قيام المجلس الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي بوضع رؤيته للأمن الإقليمي وهي خطوة بالاتجاه الصحيح اشتملت على عدة محاور من أهمها دعم جهود مبادرة السلام العربية والجهود الدولية لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وتطوير القدرات الذاتية وتعميق الشراكات للحفاظ على الأمن البحري وأمن الممرات المائية، والمحافظة على منظومة عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل. نحاول في السطور التالية إلقاء بعض الضوء على أهم أولويات الأمن الإقليمي وخطوات العمل المطلوبة للارتقاء به إلى المستوى المطلوب والتي من أولها تحقيق السلام من خلال مبادرة السلام العربية وحظوظها في النجاح والدور المطلوب من الشركاء الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.
الانتقال من دائرة الأقوال إلى الأفعال في مجال الأمن الإقليمي
إن الإقرار بأولوية الأمن الإقليمي لا يكفي لأننا سمعنا هذا الكلام يردد في كل مناسبة من دون أن يتحول إلى واقع ملموس. ولعل من أهم العوامل التي أخرت تطوير العمل المشترك هو تلكؤ الولايات المتحدة وتفضيلها التعامل مع دول الخليج منفردة وليس بصورة جماعية هذا بالإضافة طبعاً إلى غياب الثقة بين حكومات الإقليم. وهي نظرة خاطئة من الطرفين لأن العوامل التي تدفع نحو العمل المشترك في المجال الأمني أكثر من أن تعد وفي مقدمتها فشل المقاربة القديمة القائمة على انفراد كل دولة بأمنها والدليل هو الأزمات المشتعلة التي لا نكاد نرى لها نهاية والأمر الثاني هو أن الأخطار التي تواجه الإقليم واحدة وهي من الخطورة ما يستوجب وجود رد إقليمي مشترك وأخيراً نذكر أن الإمكانيات الذاتية لدول المنطقة ليست مكافئة لحجم الأخطار الحالية والأهم من ذلك المستقبلية. يدل على ذلك أن الأزمات التي عانت منها المنطقة بقيت عصية على الحل. لذلك لابد من تطوير العمل المشترك خصوصاً في المجالات التالية:
- وضع استراتيجية الأمن الإقليمي المشترك وقد كانت خطة المجلس الوزاري خطوة في الاتجاه الصحيح.
- رفع مستوى الأداء في أجهزة الأمن الإقليمي لكي يصل إلى المستوى الذي تتطلبه التحديات.
- وضع الخطط والأهداف البعيدة والآنية وآليات المتابعة والتنفيذ.
- الاتفاق مع الشركاء الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة على تحديد الأخطار وأساليب المواجهة والأدوار.
لقد كانت قضية اختلاف الرؤى بين دول الخليج والولايات المتحدة حول طبيعة الأخطار التي تواجه الإقليم وسبل التصدي لها من أكبر العقبات التي حالت دون تحقيق تقدم ملموس في جانب الأمن الإقليمي فقد كان الاختلاف حول الموقف من قضايا انتشار أسلحة الدمار الشامل في المنطقة وخصوصاً فيما يتعلق بالمشاريع النووية في إسرائيل وإيران، وكذلك التعامل المباشر بين الولايات المتحدة والجماعات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة في العديد من الساحات مثل العراق واليمن وسوريا ولبنان التي أدت إلى إضعاف قوة الدول وقدراتها مقابل تلك الجماعات. لذلك لابد من معالجة الأمر من خلال الوصول إلى تفاهمات واضحة مع الشركاء.
أولويات الحراك الدبلوماسي المشترك
إن تحديد أولويات الأمن الإقليمي لابد أن يسنده جهد سياسي-دبلوماسي يشمل العلاقات الثنائية والمتعددة والدبلوماسية العامة يسعى على الدفع بالأولويات التي حددتها الرؤية المشتركة للأمن الإقليمي وفي مقدمتها:
- دعم جهود مبادرة السلام: يكثر الحديث هذه الأيام عن ضرورة إيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية من خلال المبادرة العربية وحل الدولتين. وهو حديث اعتادته دول المنطقة منذ إعلان الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين حيث أقيمت دولة واحدة على عجالة وبقيت الأخرى تتأرجح في مهب الريح. لكن هناك أمور عديدة تدفع بالفكرة وتجعل منها ضرورة ملحة ومن أهمها الحرب الدائرة في غزة التي أثبتت فشل منظومة الأمن الإسرائيلي في تحقيق الأمن الأمر الذي دفع إلى البحث عن بدائل للوضع القائم وفي مقدمة ذلك العودة إلى حل الدولتين بوصفه الوسيلة ليس لتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني بل لأنه الطريق الوحيد لتحقيق الأمن لإسرائيل لذلك يجري الحوار في الدوائر الغربية وخصوصاً واشنطن ولندن عن سبل تفصيل "حل الدولتين" لكي يتماشى مع الرغبات الإسرائيلية. هذه القضية تحتاج إلى جهد دبلوماسي على مستوى غير مسبوق لدول المنطقة وذلك بسبب البون الشاسع بين الطروحات التي تقدمها الولايات المتحدة وواقع القضية.
كذلك لابد من الإقرار بحق دول المنطقة التي سمعت بهذه الوعود من الشركاء الغربيين لعقود طويلة ولم تر شيئاً يتحقق على أرض الواقع في التشكيك بمصداقيتها وعلى رأي المثل الغربي "تخدعني أول مرة عيب عليك تخدعني ثاني مرة عيب علي". لكن ومع ذلك فإن حاجة دول المنطقة إلى تحقيق سلام دائم وإن كان بعيد المنال تدفع بها إلى السير في هذه الطريق رغم الشكوك وتضاؤل فرص النجاح. إن الحاجة بالنسبة لدول المنطقة تكمن في إيجاد الحل العادل للقضية الذي يحقق للشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه في إقامة دولة كاملة السيادة على أساس حدود 1967م، كما جاء في المبادرة العربية للسلام لأن هذا هو السبيل الوحيد للسلام. أما الحديث عن تصورات نحو وضع خارطة طريق جديدة فهذا يشبه وإلى حد كبير ما حصل في أوسلو كما وأن الطريق معروف ولذلك فقد حان الوقت لتحقيق التغيير على أرض الواقع من خلال القيام بخطوات كبيرة لاستدراك ما فات لا العودة إلى أساليب الماضي من خلال الدخول في متاهات المؤتمرات الدولية التي لم تنتج سوى وعوداً فارغة.
2ـ إصلاح الأوضاع الداخلية الفلسطينية: ثلاثون عاماً توشك على الانقضاء من عمر اتفاقية أوسلو التي لم تجلب للشعب الفلسطيني أي بادرة خير وهذه لها أسبابها ومن أهمها الجهد الأمريكي الداعم للتوجهات الإسرائيلية الداعية إلى إضعاف السلطة الفلسطينية والدفع بها نحو هاوية الفشل بوصف ذلك وسيلة من وسائل إفراغ اتفاقية أوسلو من محتواها الأساسي وهو قيام الدولة الفلسطينية على أرض 1967م، لكن هذا لا يعفي الدول العربية والسلطة الفلسطينية من المسؤولية عن مآلات الأوضاع السياسية وسوء الإدارة في الأراضي الفلسطينية التي ساهمت هي الأخرى بوصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه. لذلك فإن أي تفكير جدي في قيام الدولة الفلسطينية يجب أن يبدأ من رفع مستوى الأداء بالسلطة الفلسطينية من خلال إجراء انتخابات يختار فيها الشعب الفلسطيني من يمثله خصوصاً وأن هذه السلطة سوف يكون مطلوباً منها تحقيق العديد من الخطوات الكبيرة والتي لا يمكن أن تقوم من دون تفويض مباشر من الشعب الفلسطيني.
3ـ تحقيق السلام الإقليمي: الخارطة السياسية للمنطقة قامت على أساس توزيعها إلى بؤر من الصراعات والنزاعات التي لانهاية لها. هذه الحقيقة انعكست على أدوار دول المنطقة والعلاقات التي كانت سلبية في عمومها والأوضاع الداخلية فيها.
4ـ جعل المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل: قامت نظرية الأمن الأمريكية للمنطقة على أساس منح إسرائيل تفوقاً عسكرياً على جميع دول المنطقة منفردة ومجتمعة. وكان من نتيجة ذلك العمل على تدمير قدرات الدول العربية في تطوير قدراتها في أسلحة الدمار الشامل وفي مقدمتها القدرات النووية باستثناء إسرائيل وإيران حيث سمح للأولى بامتلاك ترسانة من الأسلحة النووية وللثانية بتطوير القدرات النووية دون الوصول إلى إنتاج السلاح الذي يمكن أن تصل إليه في مدة لا تزيد عن سنة حسب الاتفاق بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا. إن تحقيق السلام الشامل في المنطقة يجب أن يقوم على أساس توازن القوى الإقليمية الذي لا يمنح بعضاً منها وسائل التفوق على الأخرى ويأتي في مقدمة ذلك الاتفاق على أن تكون المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل ومنها البرامج النووية في إيران وإسرائيل وفي غياب ذلك فإن العديد من دول المنطقة وفي مقدمتها تركيا والمملكة العربية السعودية التي سوف تسعى إلى تحقيق أمنها من خلال الاستحواذ على التقنية النووية وهو الأمر الذي يهدد دول المنطقة بالدخول في سباق تسلح يجعل من أي اتفاق للسلام حبراً على ورق.
5ـ استراتيجية إقليمية لأمن الملاحة والطرق التجارية: يعتبر الموقع الاستراتيجي لدول المنطقة الذي وضعها على أهم طرق التجارة العالمية من أكبر مصادر القوة السياسية والاقتصادية وهو مرشح أن يتفوق على النفط في المستقبل القريب. هذه الأهمية لكي تتحقق على أرض الواقع لابد أن يسبقها جهد إقليمي كبير في بناء البنية التحتية من طرق وموانئ وشبكات اتصالات حديثة وأخيرًا ضمان أمن الملاحة في تلك الممرات. الأحداث الأخيرة في البحر الأحمر ومن قبلها أعمال القرصنة في بحر العرب والعمليات التي جرت في الخليج العربي لابد أن تشكل حوافز لدول الإقليم نحو الارتقاء بقدرات قواتها الذاتية في سبيل توفير الحماية المطلوبة للتجارة العالمية مع الاستعانة بالشركاء الدوليين. إن الفشل في تطوير القدرات المحلية سوف يؤدي إلى تزايد حدة الصراع العالمي على المنطقة ويجعل منها ساحة صراعات بالوكالة.
العقبات التي تقف أمام مبادرة السلام العربية وحل الدولتين
إذا كان تحقيق السلام في المنطقة من الأولويات فما الذي يحول دون تحقيق تقدم ملموس في جهود السلام في المنطقة من خلال المبادرة العربية للسلام؟
- المعارضة الإسرائيلية: إن العقبة الأساسية التي كانت ولاتزال أمام تحقيق السلام الشامل في المنطقة هي الموقف الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا والقائم على أساس عدم تقديم أي تنازل وهو ليس كذلك لأن احتلال إسرائيل لأراضي 1967م، غير شرعي حسب القانون الدولي في سبيل قيام الدولة الفلسطينية. لذلك فإن أي حديث جدي عن السلام في المنطقة يجب أن ينطلق من هذه النقطة وهي تولد القناعة لدى إسرائيل بالسلام لأن التصورات الإسرائيلية وخصوصاً تلك التي عند أحزاب اليمين المتشدد الذي يمثل الائتلاف الحاكم القائمة على أساس التطهير العرقي وإجلاء فلسطيني الضفة إلى الأردن وسكان غزة إلى سيناء أو ربما أبعد من ذلك إنما هي نذير بدخول المنطقة في المجهول وهو سراب من سلام سوف ينهي أي أمل بالسلام.
- الأوضاع على الأرض: وهذه تنعكس في ثلاث قضايا
- تغيير البنية الديمغرافية في الأراضي المحتلة من خلال بناء المستوطنات وكذلك تمزيق تلك المناطق إلى قطع غير مترابطة يستحيل جمعها لتشكل كياناً واحداً.
- ضعف الهيكل الإداري الفلسطيني المتمثل بالحكومة الفلسطينية التي يسيطر عليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس والذي يشغل أيضاً منصب الرئاسة في كل من منظمة فتح وجبهة التحرير الفلسطيني منذ عقدين من الزمن. المؤسسات الفلسطينية التي عانت وتعاني من الفساد وسوء الإدارة وضعف الإمكانيات التي وصلت إلى الحالة التي هي عليها الآن نتيجة السياسات الإسرائيلية المدعومة أمريكياً صار مطلوباً منها أن تواجه التحدي الأكبر في تاريخها والمتمثل بتداعيات الحرب في غزة. هذه الأوضاع أيضاً فتحت ملفاً مهماً آخر وهو ملف خلافة الرئيس محمود عباس الذي يقارب عمره التسعين عاماً وهو أمر ليس بالسهل لأن الرئيس الفلسطيني كان يقوم بإزالة جميع من يمتلك الطموح أو القدرة على خلافته. كذلك فتحت الحرب في غزة ملفاً آخر على نفس الدرجة من الأهمية وهو ملف وحدة الأراضي الفلسطينية لأن إسرائيل سعت إلى تعميق الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني بين الضفة وغزة من خلال زيادة التباعد بين السلطة وحماس حيث يراد من الأولى اليوم بسط نفوذها الأمني على القطاع ليس سوى للتعويض عن الفشل الإسرائيلي.
- ضعف الدور العربي في القضية الفلسطينية.
- ضبابية الموقف الأمريكي وهذه تنعكس في مسألتين:
- عدم جدية أو قدرة الإدارة الأمريكية على اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق حل الدولتين: ليس هناك دليل واضح إلى الآن يثبت جدية الإدارة الأمريكية في العمل نحو تحقيق حل الدولتين على أساس المبادرة العربية. لا شك أن الإدارة الأمريكية الحالية دفعت بتبني مبادرة حل الدولتين كمخرج من المأزق الحالي أولاً وثانياً لتحقيق المطلب العربي للتطبيع مع إسرائيل وهو الهدف الذي تسعى إليه. نقول هذا للتدليل على أن تحقيق المطالب الفلسطينية ليس من الدوافع التي يوردها المسؤولون هنا لتوضيح خلفية الموقف الداعي لتبني حل الدولتين. كذلك فإن مواقف الإدارة الأمريكية الداعمة للسياسات الإسرائيلية المتطرفة في الحرب على غزة والتصعيد في الضفة تعطي الانطباع بعدم جدية الإدارة في الدفع بالمشروع, وأنها على أحسن حال تسعى إلى "تفصيل" المبادرة على المقاسات الإسرائيلية التي سوف تؤدي بالنهاية إلى نفس النتيجة التي وصلت لها اتفاقية أوسلو وهي "حل الدولتين" لا يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية بل تحويل السلطة إلى جهاز أمني يأتمر بأوامر الجهات الأمنية الإسرائيلية ويساعدها في الوصول إلى النتيجة التي فشلت في تحقيقها وهي تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء ومن الضفة إلى الأردن وإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي الأردنية يتبعها حملة تطهير عرقي لفلسطيني الداخل الإسرائيلي.
- الانقسام السياسي والمجتمعي الأمريكي: المجتمع الأمريكي يعيش حالة غير مسبوقة من الانقسام في مختلف الأنشطة والمجالات وفي مقدمتها السياسة العامة الداخلية منها والخارجية. بالطبع فإن حالة الاختلاف حول القضايا السياسية أمر معتاد في الولايات المتحدة. لكن الحالة التي وصلت لها الأوضاع السياسية هي حالة غير مسبوقة على الأقل في تاريخها القريب وهي حالة يقارنها العديد من المؤرخين بحالة البلاد قبل الحرب الأهلية. لقد كان العرف السابق هو أن الاختلاف حول القضايا المبدئية يجب ألا يمنع الوصول إلى تفاهمات وحلول وسطى تلتقي حولها الأغلبية. لكن هذه الحالة لم تعد موجودة الآن حيث يرفض العديد التعامل مع الطرف الآخر وتخوينه. وكان من نتيجة ذلك حدوث شلل في العملية السياسية وغياب القدرة على المبادرة بالإضافة إلى قيام الطرف الآخر بإلغاء ومحو ما يقوم به في أقرب فرصة. ولعل من الأمثلة على ذلك مسارعة الرئيس السابق ترامب إلى إلغاء الاتفاق النووي مع إيران عند وصوله إلى البيت الأبيض تبعه مبادرة الرئيس بايدن إلى محاولة ما قام به ترامب من خلال الدعوة إلى العودة إلى ذلك الاتفاق بمجرد وصوله إلى الرئاسة. وقد وصلت الأمور إلى درجة حرجة تجاوزت العديد من الخطوط الحمراء ومنها قرارات المحكمة العليا التي تعتبر سوابق قانونية لا يجوز السعي لإلغائها. لكن المحكمة الجديدة التي يتمتع بها المحافظون بأغلبية 6 إلى ثلاثة بالنظر لقيام ترامب بتعيين ثلاثة قضاة محافظين أثناء فترة حكمه تخلت عن هذا المبدأ وقامت بإعادة النظر بقانون الإجهاض والقوانين التي تمنح أفضلية إلى الأقليات التي عانت من عدم المساواة في السابق وغيره. لسنا هنا بصدد الخوض في هذه المواضيع لكن النتيجة التي أردنا الوصول إليها هي أن الحالة التي وصلت لها الأوضاع في الولايات المتحدة بدأت تدفع بالعديد إلى إعادة النظر بالتعامل مع الإدارات الأمريكية وتفضيل أسلوب التعامل الآني وليس على النطاق بعيد المدى. لذلك لابد من التساؤل عن الضمانات التي تؤكد التزام الولايات المتحدة بوعودها في المستقبل لأن التجارب أثبتت أن التزامات ومواثيق أي إدارة أمريكية قد تقوم التي تأتي بعدها بإلغائها أو التنصل منها.
خلاصة القول إن محاولات تحقيق السلام في المنطقة من خلال حل الدولتين تحفها العديد من التحديات أولها مصداقية الولايات المتحدة التي تدعي القدرة على تحقيق هذه الرؤية والضغط على إسرائيل لدفعها للقبول بها لكنها في نفس الوقت تقف عاجزة أمام إقناع إسرائيل بأمر بسيط جداً مثل فتح المعابر الحدودية أمام المعونات الإنسانية لذلك قامت بإسقاط المعونات من الجو فهل هي قادرة على مثل ذلك العمل الكبير أم أنها عاجزة لهذه الدرجة. لحد الآن يحاول بايدن الإمساك بالعصا من الوسط أو هكذا يريد أن يعطي الانطباع للعالم فهو ينتقد نتنياهو في كلامه العلني لكن يبقى مؤيداً له بالكامل في دائرة الأفعال من خلال الموقف الرافض للجهود الدولية في الدعوة إلى وقف إطلاق النار بالإضافة إلى مد إسرائيل بالأسلحة التي تحتاجها في الحرب على غزة. إن استمرار الحرب في غزة لهذه الشهور الطويلة يعني شيئاً واحداً لا لبس فيه وهو دعم الولايات المتحدة الكامل لها وأي ادعاء بغير ذلك تكذبه الوقائع.