array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 194

سيناريوهان للسلام .. وأمريكا منذ مبادرة ريجان وحتى صفقة القرن تدعم "اللعبة الصفرية "

الخميس، 25 كانون2/يناير 2024

شكلت إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي حقلًا خصبًا ومتميزًا للدراسات الأكاديمية والاستراتيجية لفترة تفوق سبعة عقود من الزمن، ولعل أبرز الدراسات الاستراتيجية المهتمة باستشراف مستقبل الصراع الممتد بين الحروب العربية المتتالية والصدامات اللامتناهية في المنطقة، تلك التي توظف نظرية اللعب أو المباراة الاستراتيجية في إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي، الذي يختزل التوقعات المستقبلية في التركيز على إدراك وتصورات طرفي الصراع إلى طبيعة اللعبة الاستراتيجية القائمة على الحصيلة الصفرية، التي تعني باختصار على أن ما يكسبه طرف يشكل خسارة كلية للطرف الآخر، وعليه، فإن استمرار الحرب وخيارات القوة العسكرية هو المجال الوحيد لإدارة الصراع. ويعزز هذا الإدراك الأطروحات الأيديولوجية للآباء المؤسسين للصهيونية أمثال زئيف جابوتنسكي والتيار الصهيوني الحالي في حكومة الليكود بشقيه العلماني والديني، الذي يصر على التمسك بالأرض الإسرائيلية التوراتية، أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل. أما اللعبة الاستراتيجية ذات الحصيلة غير الصفرية، فتعني أن هناك إدراك لدى طرفي الصراع بأن هناك مجالات واسعة للتوصل لبناء السلام من خلال المفاوضات، وفن المساومات، وهي قناعة توصل إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، شمعون بريز، بعد تجربة أكثر من عشرين سنة في القيادة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، عبر عنها في كتابه " الشرق الأوسط الكبير" بقوله:" إن الحرب بين إسرائيل والعرب لا تحل أيا من المشكلات، أما السلام فهو الحل، ولقد بينت نتائج اتفاقنا مع مصر أن بوسعنا إقامة علاقات سلمية مع جيراننا، وأن المساومة، أي الحد الأدنى من التنازلات والحد الأقصى من الإنصاف لكلا الجانبين تسمح لنا بالعيش معًا".

أعادت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، وما تبعته من عدوان صهيوني فاق كل التوقعات بارتكابه كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني، طرح الإشكال النظري من جديد: هل يمكن أن يقتنع الطرف الإسرائيلي وفق مقاربة شمعون بريز بأن :" الحرب عقيمة وأن لا ضامن للنصر الكلي"، ويقبل بالانخراط في اللعبة الاستراتيجية وفق الإدراك العربي الجماعي لطبيعة الصراع ذو الحصيلة غير الصفرية، من خلال القبول بالمبادرة العربية للسلام التي طرحها ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، في قمة بيروت 2002م، وفق مقاربة السلام الشامل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة. ومن ثمة، سنبحث عن الرؤية العربية الجماعية وإدارة اللعبة الاستراتيجية منذ مبادرة السلام التي قدمها الملك فهد بن عبد العزيز وصودق عليها في القمة العربية بفاس في سبتمبر 1982م، إلى غاية المبادرة العربية للسلام، لاستخلاص العبر من التجارب السابقة، مع طرح بعض السيناريوهات المتوقعة لمستقبل الصراع وفق نظرية اللعب الاستراتيجية لفترة ما بعد طوفان الأقصى.

أولًا: من مبادرة فاس إلى مبادرة بيروت: المكاسب والخسائر الاستراتيجية للصراع غير الصفري

بين مبادرة السلام التي قام بها الرئيس المصري أنور السادات في 9 نوفمبر 1977م، وما خلفته من تصدع الجبهة العربية في الإدراك والتصور لإدارة الصراع مع إسرائيل، والغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982م، كانت تتبلور مبادرة عربية للسلام لإدارة الصراع مع إسرائيل وفق الرؤية غير الصفرية، تقوم على إزالة العدوان الإسرائيلي عن طريق مشروع للسلام العربي، حيث قدم ولي العهد السعودي، الأمير فهد، خطة للسلام في سنة 1981م، تبنتها الجامعة العربية في قمة فاس في 1982م، ودوافعه في ذلك أن يتم بناء السلام في منطقة الشرق الأوسط ووضع حد للحروب والدمار الذي عرفته شعوب المنطقة، وقناعته كما وثق الوزير الأسبق غازي القصيبي، أنه: "ما دامت قضية فلسطين لم تحل فلن تشهد المنطقة الاستقرار وستكون هناك حروب، والحروب ستقود إلى حروب أخرى". وتتضمن خطة السلام كما تم المصادقة عليها في القمة العربية على ثمانية مبادئ أساسية، أولها، الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967م، بما في ذلك القدس العربية. ثانيًا، إزالة المستعمرات التي أقامتها إسرائيل في الأراضي العربية بعد عام 1967م. ثالثًا، ضمان حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان بالأماكن المقدسة. رابعًا، تأكيد حق الشعب الفلسطيني وتقرير مصيره وممارسة حقوقه الثابتة غير القابلة للتصرف بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. خامسًا، تخضع الضفة الغربية وقطاع غزة إلى فترة انتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة، ولمدة لا تزيد عن بضعة أشهر. سادسًا، قيام الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس. سابعًا، يضع مجلس الأمن الدولي ضمانات للسلام بين جميع دول المنطقة، بما فيها الدولة الفلسطينية المستقلة، ثامنًا وأخيرًا، يكون مجلس الأمن الدولي الضامن لتنفيذ هذه المبادئ.

الملاحظ في تحليل هذه المبادئ الثمانية التي قامت عليها خطة الملك فهد وتبنتها الجامعة العربية، أنها تعكس رؤية صانعي القرار في السعودية، بأن الاستقرار والسلام النهائي والمستدام لا يكون إلا عبر مقاربة الأرض مقابل السلام، وهو ما تضمنه البندان الأول والثاني، الذي يطالب بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ عدوان يونيو 1967 م، بما فيها القدس الشريف مع إزالة كل المستوطنات الإسرائيلية. كما أنها ركزت على مسألة جوهرية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وحسمته لصالح التمثيل الشرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل حركة تحررية دفاعًا عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره من أجل قيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس. بينما فوضت للأمم المتحدة إدارة المرحلة الانتقالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة مع منح مجلس الأمن الدولي شرعية السهر على ضمان تنفيذ هذه البنود باعتباره الضامن لتطبيق قرارات الشرعية الدولية.

الشاهد في هذه المرحلة من حيث البيئة الإقليمية والدولية، أن الطرف الإسرائيلي كان مقتنعًا بأن اللعبة الاستراتيجية ما بعد كامب ديفيد، تقوم على أساس اللعبة ذات الحصيلة الصفرية، وتستند بالأساس على إبعاد أية خيارات للتفاوض مع الطرف الفلسطيني، معتبرًا منظمة التحرير الفلسطينية تنظيمًا إرهابيًا وأقصى ما يمكن تصوره في إدارة المساومة أن يمنح الحكم الذاتي للفلسطينيين في إطار كونفدرالية أردنية، مع التسليم النهائي بأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. وقد حدد البعد الجيوسياسي مسار السلوك الإسرائيلي منذ ميلادها سنة 1948م، بأن السلام النهائي مرتبط بالأمن الحيوي من أجل ترجيح ميزان القوة العسكري، الجغرافي والديمغرافي لصالحها. وقد تمسكت إسرائيل بالتفسير السياسي والأمني للقرار 242 الذي يطالب بالانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها بعد عدوان 1967م، والقائم على بعض الأراضي وليس كلها، لأن الضرورات الأمنية والجيوسياسية تتطلب السيطرة عليها، من القدس الشرقية، الضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان. وطبقت هذه المقاربة التي تكرس عقيدتها الأمنية قبل أربعة أشهر من المصادقة على مبادرة فاس، حيث قامت في الخامس من يونيو 1982م، بغزو جنوب لبنان ووصلت إلى كل لبنان لتحاصر العاصمة بيروت بعمليات عسكرية شاملة، برية، جوية وبحرية مدعية في ذلك القضاء على الإرهاب الفلسطيني الذي يهدد المستوطنات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة. وبعد ستة أيام من قمة فاس قامت إسرائيل في السادس عشر من سبتمبر 1982م، بمجزرة بمساعدة بعض الكتائب اللبنانية في مخيمي صبرا وشتيلا ضد اللاجئين الفلسطينيين. وفي الواقع، فإن الدوافع الجيوسياسية لحكومة الليكود في إسرائيل تكمن أساسًا في التوسع والسيطرة على نهر الليطاني الذي يعد مصدرًا حيويًا للمياه حيث سبق أن مددت الحفريات في الشريط الحدودي التي تحتله منذ 1978م، بالتحالف مع دويلة "سعد حداد" التي راعتها. أما الدوافع الأمنية والسياسية، فتتمركز أساسًا حول القضاء على المقاومة الفلسطينية واللبنانية وإبعاد أي تمثيل شرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية كما تطالب بذلك خطة السلام العربية. وبذلك تبقى إسرائيل متمسكة بخيار الحكم الذاتي الفلسطيني بدون تمثيل سياسي رسمي يكون تابعًا للكونفدرالية الأردنية. ووجدت إسرائيل في لعبتها الصفرية مساندة مطلقة من إدارة رونالد ريغان الذي وافق على القضاء على الإرهاب في الشرق الأوسط وصرح وزير خارجيته، ألكسندر هيج، في ندوة صحفية بلندن بأن "من حق إسرائيل أن تمارس حق الدفاع عن النفس كما تمارسه حاليًا بريطانيا في فوكلاند، ونحن نؤيد ذلك"، وقد استخدمت واشنطن حق الفيتو ضد إدانة إسرائيل والمطالبة بانسحابها من لبنان، لتوافقها بأن منظمة التحرير الفلسطينية حركة إرهابية. وإن كانت إدارة رونالد ريغان في تلك الفترة منشغلة أكثر بالبيئة الدولية في إطار الصراع شرق-غرب بسبب قضيتين جوهريتين، الأولى الغزو السوفياتي لأفغانستان وتهديداتها الأمنية في المنطقة الأوراسية، والتهديد الثاني، انهيار نظام الشاه في إيران الذي كان يشكل الحليف الاستراتيجي الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وصعود النظام الثوري الإيراني المعادي للمصالح الأمريكية، وبالتالي، فإن إسرائيل استغلت تلك البيئة لتسويق دورها على أنها الحليف الاستراتيجي الموثوق فيه للغرب دفاعًا عن القيم الديمقراطية، التي تقف أمام الزحف الشيوعي السوفياتي وتمدد الراديكالية العربية والإسلامية، وهو التبرير الذي قدمته أثناء قصف المفاعل الذري العراقي في يونيو 1981م، وغزو لبنان، وكانت تلك هي البيئة الإقليمية والدولية لمبادرة فاس، التي واجهتها إسرائيل بلعبة صفرية رافضة كل خيارات التسوية لبناء السلام، وكانت قناعة أريل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي، كما وثق ذلك وليام ب. كوانت في كتابه، عملية السلام والدبلوماسية الأمريكية، وهو يعلم الأمريكيين بأنه سيحل القضية الفلسطينية على طريقته، أي بتحريك الدبابات إلى لبنان، إذ عندما تسحق منظمة التحرير الفلسطينية سيصبح الفلسطينيون في الضفة الغربية معتدلين ومستعدين للتعامل مع الحقائق القائمة. وهو ما جعله وحليفه مناحيم بيغن، رئيس الوزراء، يرفض حتى مبادرة ريغان بالرغم من التوافق معه بإبعاد منظمة التحرير ورفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة. رغم ذلك بقي الإدراك العربي على قناعة تامة بأن السلام خيار استراتيجي لا يتم إلا عبر مقاربة الأرض مقابل السلام، وهي الرسالة الدبلوماسية التي حملتها اللجنة العربية المنبثقة عن قمة فاس من أجل تسويق خطة السلام لدى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، التي تشكلت إضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، من ثلاثة دول من المشرق العربي، كل من المملكة العربية السعودية، سوريا والمملكة الأردنية الهاشمية، وثلاثة دول من المغرب العربي، تونس، الجزائر والمغرب. ولقد أظهرت وثائق الأرشيف الوطني البريطاني عن الموقف الصلب والثابت للملك فهد، بعد رفض رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر استقبال الوفد العربي بسبب تواجد ياسر عرفات معهم، حيث تبين الوثيقة البريطانية غضب الملك على السفير البريطاني بالرياض، حيث سأله قائلا:" كيف يمكن لرئيسة الوزراء أن تصافح مناحيم بيغن، الذي كان هو نفسه مسؤولًا عن قتل الجنود البريطانيين أثناء الانتداب البريطاني وتتعذر عن لقاء عرفات". رد السفير البريطاني مبررًا سلوك تاتشر،:" لكن السيد بيغن كان رئيس وزراء دولة لنا علاقات دبلوماسية معها، لقد تغيرت الظروف"، فرد الملك فهد:" مع اعتماد قرار فاس تغيرت الظروف بالنسبة إلى الفلسطينيين كذلك".

بعد عشرين سنة من قمة فاس، اجتمع القادة العرب مرة أخرى في القمة العربية ببيروت في 2002م، ليتبنوا مبادرة ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله، وتضمنت المبادرة العربية مقاربة السلام الشامل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها إسرائيل خلال عدوان 1967م، وذلك طبقًا للشرعية الدولية وتنفيذًا لقراري مجلس الأمن 242 و338 اللذين تعززا بقرارات مؤتمر مدريد عام 1991م، ومبدأ الأرض مقابل السلام، وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية. وانطلاقًا من اقتناع الطرف العربي بخيارات اللعبة غير صفرية في إدارة الصراع العربي-الفلسطيني، فإن أول نقطة في نص مبادرة السلام العربية تطالب إسرائيل بإعادة النظر في سياستها وأن تجنح للسلم بإعلانها أن السلام هو خيار استراتيجي أيضًا، أي وفق نظرية اللعب الاستراتيجية أن تتخلى عن إدارة الصراع وفق الحصيلة الصفرية، لأنه ستكون هناك مكاسب استراتيجية مشتركة في حالة التزامها بثلاثة خطوات أساسية، الأولى، الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو 1967م، والأراضي التي مازالت محتلة في جنوب لبنان. ثانيًا، التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقًا لقرار الجمعية العامة رقم 194. ثالثًا، قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة وعاصمتها القدس الشرقية. وتتمثل هذه المكاسب الاستراتيجية المشتركة وفق المبادرة العربية في إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، مع إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار السلام الشامل، بما يمكن جميع الأطراف من العيش معًا في سلام وتوفير للأجيال القادمة مستقبلا آمنا يسوده الرخاء والاستقرار.

ولعله من المفيد هنا، أن نشير إلى بعض التغييرات الجوهرية داخل النخب الإسرائيلية ذاتها من حيث تبنيها لاستراتيجية اللعبة ذات الحصيلة غير الصفرية في إدارة الصراع مع الطرف الإسرائيلي، خصوصًا في عملية السلام في أوسلو وما بعدها، والتي واكبت المبادرة العربية، ويمثل شمعون بريز، وزير الخارجية الإسرائيلي نموذجًا لذلك، الذي عبر عن هذا الإدراك والتصور بضرورة تغيير جوهر الصراع وفق المقاربة الأمنية الكلاسيكية الإسرائيلية القائمة على حماية العمق الاستراتيجي، وقد عدد مجموع المسوغات التي دفعته لتبني مقاربة "السلام الاقتصادي" في كتابه" الشرق الأوسط الجديد"، من بينها، أن المدرسة الدفاعية الكلاسيكية لا تقدم حلولاً للحقائق الجغرافية الحالية أو للتهديدات التكنولوجية بفعل تطور الأسلحة الاستراتيجية، لأنه بكل بساطة الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى والصواريخ الباليستية أفقدت أهمية الحواجز الطبيعية وحشد القوات مع تعاظم تكاليف الدفاع الاستراتيجي أمام التطور التكنولوجي للأسلحة. وفي تصوره أن السياسة البديلة لكل ذلك تتمثل في المعاهدات والاتفاقيات الثنائية والمتعددة للحفاظ على نظام إقليمي آمن وعادل، لأن اللعبة الاستراتيجية في النهاية حصيلتها غير صفرية. ويعتقد شمعون بريز أن الحروب التي خاضتها إسرائيل لم تستطع أن تضمن لها النصر النهائي أو حتى الأمن. يلقي بريز اللوم على جمود حزب الليكود وسياسته الإيديولوجية الرجعية التي عطلت مسار السلام في سنة 1986م، الذي بسببه اندلعت الانتفاضة الفلسطينية لمدة ست سنوات. ووفق المقاربة ذاتها، فإن حزب الليكود الذي يقوده نتانياهو لمدة خمسة عشرة عامًا وتحالفاته مع اليمين الصهيوني الديني، هو الذي أوجد البيئة المواتية لطوفان الأقصى، رافضًا كل مشاريع التسوية منذ أوسلو إلى غاية المبادرة العربية للسلام. حيث عارض نتانياهو المبادرة العربية وطالب بإلغاء بنودها المتعلقة بمطالب الانسحاب من الأراضي المحتلة واللاجئين الفلسطينيين وتقسيم القدس، كما توقفت المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ أبريل 2014م، بعد رفض إسرائيل وقف الاستيطان والقبول بحل الدولتين على أساس حدود 1967م، والإفراج عن معتقلين من السجون الإسرائيلية. ومأزق السجين الذي وضع نفسه فيه نتانياهو، أنه برر إبعاده للقضية الفلسطينية من أولوياته بمقاربة التطبيع مع الدول العربية أولًا، وهو بذلك يقلب المبادرة العربية رأسًا على عقب، وكان مبتهجًا وهو يخاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، سبتمبر 2023م، بأنه حقق أربعة اتفاقيات للسلام مع الدول العربية بدون أن يفرض عليه شروط حل القضية الفلسطينية، مستندًا إلى دعم إدارة دونالد ترومب الذي طرح مبادرة للسلام باسم صفقة القرن، والتي سماها الرئيس الفلسطيني، أبومازن، بصفعة القرن، لأنها بكل بساطة نسفت كل بنود المبادرة العربية، أولًا باتخاذ قرار اعتبار القدس عاصمة يهودية لإسرائيل، مع إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين باقتصارها على الجيل الأول وحده دون أولادهم وأحفادهم، أي بطريقة واضحة التصفية البيولوجية لقضية اللاجئين، لأنه الذي هجر منذ 1948م، أضحى أغلبهم ساكنين القبور وليس المخيمات الفلسطينية، أما الدولة الفلسطينية ذات السيادة فتحولت إلى رقعة من الجبن السويسري، كما خاطب أبومازن الجمعية العامة للأمم المتحدة، متقطعة الأوصال بدون روابط جغرافية ولا ديمغرافية. وزادت قناعة وإدراك نتانياهو وإدارة بايدن، بأن السلام الإبراهيمي مع الدول العربية القائم على مقاربة السلام الاقتصادي بدلاً من مقاربة السلام الشامل والانسحاب الكامل، من تعزيز إدارة اللعبة بحصيلة صفرية مع الطرف الفلسطيني والتسويق لمشهد الاستقرار والازدهار في المنطقة بدون تسوية نهائية للقضايا الجوهرية التي طرحتها المبادرة العربية، وكان التفاؤل المفرط بأن التقارب الإسرائيلي-العربي سيخلق 4 ملايين فرصة عمل وترليون دولار في النشاط الاقتصادي خلال العقد القادم، وأن الصندوق الإبراهيمي بين الإمارات وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بقيمة 3 مليارات دولار سيعزز التنمية الاقتصادية في المنطقة.

ثانيًا: ما بعد طوفان الأقصى سيناريوهات تفعيل المبادرة العربية للسلام

في إطار اللعبة الاستراتيجية لنظرية اللعب نتصور سيناريوهين لمستقبل المبادرة العربية للسلام:

السيناريو الأول، ما يسمى في الدراسات الاستشرافية بالسيناريو الاتجاهي، ويفترض أن المتغيرات الثقيلة التي ضبطت إيقاع الصراع العربي-الإسرائيلي منذ قمة فاس إلى غاية قمة بيروت (1982-2002م) مع المستجدات لعشرين سنة ما بعد قمة بيروت (2002-2023م)، صفقة القرن والسلام الإبراهيمي، تجعل الطرف الإسرائيلي متشبثا بإدارة الصراع في الشق المتعلق بالتسوية السياسية للقضية الفلسطينية وفق الحصيلة الصفرية، مهما تغيرت الأحزاب والقيادات السياسية في إسرائيل، وقناعاته في ذلك أن العمق الاستراتيجي والأمني للدولة الثكنة تفرض عليها التغيير الديمغرافي داخل إسرائيل برفض حق عودة الفلسطينيين وبناء المزيد من المستوطنات مع إبعاد القدس من أية مفاوضات باعتبارها العاصمة الأبدية لإسرائيل، وبالتالي سيتم إفراغ المبادرة العربية من جوهرها، الأرض مقابل السلام.

السيناريو الثاني، ما نسميه بالسيناريو الإصلاحي ويتعلق بالأساس بالتغيير الجوهري في إدراك صانعي القرار في إسرائيل ما بعد طوفان الأقصى، بأن استمرار التمسك بنظرية الأمن مقابل السلام والسلام الاقتصادي بمعزل عن مسارات التسوية للقضايا النهائية، الحدود، الدولة الفلسطينية ذات السيادة، المياه، الجولان، القدس، اللاجئين، لا يمكن أن تبني السلام المستدام في المنطقة، ويمكن تصور غلبة التيار الإصلاحي داخل إسرائيل وفق مقاربة شمعون بريز بأن " الحرب عقيمة، وأن لا ضامن للنصر الكلي، وأي حرب تخاض ستكون حربًا لا ضرورة منها، تنطوي على خسائر فادحة في الأرواح وعلى معاناة بشرية وأضرار مالية وبيئية، وإن وقعت حربًا أخرى، فإن المعارك ستكون طويلة مريرة، والدمار أعظم من ذي قبل وحجم المصابين على الجبهات وخلف الخطوط لا مثيل له من قبل، وعليه، يجب أن نضع حد لحالة اللاسلم واللاحرب"، وسيتم تكريس هذا الاتجاه أكثر ما بعد الكوارث الإنسانية والبيئة لفترة ما بعد طوفان الأقصى، بعقد مؤتمر دولي للسلام وتفعيل المبادرة العربية وفق خطوطها العريضة مع نفس الضمانات التي كانت مطروحة أن تكون الأمم المتحدة هي الضامن لتنفيذ بنودها مع ضرورة اقتناع الإدارة الأمريكية القادمة بأنها طرفًا داعمًا للسلام وليس حاميًا لإسرائيل على حساب مصالحها القومية في المنطقة العربية، لأن التاريخ يبين لنا أن الطرف الأمريكي منذ مبادرة ريغان إلى صفقة القرن لا يدعم إلا خيار اللعبة الصفرية مع القضية الفلسطينية.

مقالات لنفس الكاتب