إسرائيل تؤكد دائمًا عند كل اختبار يدفعها نحو السلام أنها تتمسك بخيار الحرب وتنحاز للحلول العسكرية، فهي لا ترغب في العيش بسلام، وتثبت أن بقاءها قائم على اختلاق الحروب والتصعيد، وهذا توجه اليمين الإسرائيلي المتطرف منذ الإعلان عن قيام إسرائيل في أربعينيات القرن العشرين، حيث تتخذ من الحروب وسيلة لحشد الداخل بما يجعله في حالة تأهب دائمة ومن ثم الالتفاف حول الحكومات التي تزعم حمايته، وكذلك تتخذ من حالة الحرب وسيلة لتهييج الرأي العام العالمي خاصة الغربي والأمريكي ضد الفلسطينيين والعرب، لدعمها بالمال والسلاح والوقف معها في المحافل الدولية، وتوظيف القوى الكبرى بقيادة أمريكا حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن لحمايتها من أي عقوبات دولية، بل ذلك جعلها تستبيح جميع القوانين والقرارات الأممية الصادرة بشأن الصراع الفلسطيني، كما يحلو لإسرائيل أن تتشدق في ظل هذه الحماية الغربية/ الأمريكية بأنها الدولة الديموقراطية في الشرق الأوسط، وأنها رأس الحربة التي تحمي المصالح الغربية في المنطقة ، وتقدم نفسها على أنها الحمل الوديع المحاط بغابة من الوحوش، ويساعدها في ذلك أن الصهيونية العالمية تمتلك أدوات الترويج لإسرائيل وأبرز هذه الأدوات هي المال والإعلام، إضافة إلى التغلغل في جماعات الضغط ومراكز الفكر ومؤسسات صناعة القرار الغربية عبر لوبي يهودي نافذ، وغالبًا ما تستغل إسرائيل الانتخابات في العالم الغربي كوسيلة للضغط على المرشحين لرئاسة الدول والحكومات وابتزازهم وهم يرضخون لهذه الضغوط استجابة للنفوذ اليهودي واسع التأثير في بلادهم.
لكن مؤخرًا وبعد الحرب الإسرائيلية على غزة التي طالت وتعرض الفلسطينيون خلالها إلى حرب إبادة راح ضحيتها أكثر من 25 ألف قتيل وعشرات الآلاف من المصابين ؛ أكثرهم من الأطفال والنساء وكبار السن، ونزوح مليون ونصف المليون فلسطيني إلى العراء ، وكل ذلك موثق بالصوت والصورة وعبر الفضائيات وكافة شبكات وسائل التواصل الاجتماعي التي نقلت ما يحدث إلى كل مكان في العالم، وساعد على ذلك جهود الدول العربية التي تحركت تجاه إنهاء هذه الحرب ووقف العدوان بتنظيم مؤتمر القمة للدول العربية والإسلامية المشترك في نوفمبر الماضي، وتحرك اللجنة الوزارية المشتركة على الصعيد العالمي، كل ذلك خاطب الرأي العام الغربي في عقر داره وأيقظه من ثباته العميق، وجعل إسرائيل لا تستطيع التغطية على جرائمها وتمارس هوايتها في تضليل العالم بنقل صور مخالفة لما ترتكب من جرائم بحق الفلسطينيين المدنيين العزل، لذلك تغيرت الصورة وتعاطف الرأي العام الغربي مع الفلسطينيين. وكان من نتيجة هذه الحرب أولًا، انقسام المجتمع الإسرائيلي نفسه وتصديه لسياسات حكومة اليمين المتطرف، بل انقسام الحكومة الإسرائيلية نفسها حيال استمرار الحرب وخسائرها، وثانيًا، تحرك الغرب وربما لأول مرة بهذه الجدية الظاهرة على الأقل، أو المجاهرة بطلب وقف الحرب والحديث العلني عن ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية وحل الدولتين، وهذا في حد ذاته تطور إيجابي طرأ على المعادلة الإسرائيلية / الفلسطينية حيث كان الغرب في بداية الحرب مؤيدًا بشكل مطلق ومساندًا للهجوم على غزة، لكن تحت ضغط الرأي العام الحاشد في الدول الأوروبية وأمريكا تحول الخطاب السياسي إلى تبني الحلول السلمية والعودة للمفاوضات، وتتحدث الإدارة الأمريكية عن (حل الدولتين) وكذلك دول أوروبا إضافة إلى الصين وروسيا والكثير من دول العالم التي تتبنى المطالبة بإيقاف الحرب وإدخال المساعدات الإغاثية والإنسانية إلى قطاع غزة، مع تفهم الغرب إلى صعوبة إجبار الفلسطينيين على النزوح من قطاع غزة وتهجيرهم إلى خارج الأراضي الفلسطينية، ومن ثم قفزت المطالبات بالتفكير في اليوم التالي لانتهاء الحرب وتقديم الرؤى حول مستقبل قطاع غزة.
وهنا عادت المبادرة العربية للسلام إلى واجهة الأحداث كآلية فعالة وناجعة للحل وتحقيق السلام، وكذلك إعادة طرحها في مؤتمر دولي للسلام تؤيده العديد من الدول الكبرى في مقدمتها روسيا والصين والدول العربية والإسلامية، إضافة إلى التغير في موقف الإدارة الأمريكية، وعليه، وفي تلك المرحلة الفارقة من الضروري أن تتضافر الجهود لدفع الدول الكبرى لتبني إعادة طرح المبادرة العربية في مؤتمر دولي يجب الإعداد له بعناية وحشد المواقف الدولية لتبني سرعة وقف الحرب وفرض خيار السلام بأسرع وقت، كما يجب تفعيل سلاح الإعلام بكل أنواعه إلى جانب التحرك الدبلوماسي العربي وباللغة التي يفهمها الغرب لتوضيح حقيقة ما تقوم به إسرائيل ؛ مع الاستمرار في نقل ما يحدث في غزة إلى الرأي العام العالمي بوضوح وقطع الطريق على إسرائيل في تضليل العالم، كل ذلك يدعم الموقف العربي المتمسك بالسلام ورفض الحرب والعنف.