array(1) { [0]=> object(stdClass)#12963 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 193

الاتفاق السعودي الإيراني أنهى الاستقطاب وتوظيف التوتر في صراعات خارجية

الخميس، 28 كانون1/ديسمبر 2023

يحلل هذا الموضوع تطورات المنطقة العربية في عام٢٠٢٣م، على النحو الذي يمكننا من استشراف المستقبل القريب في عام٢٠٢٤م، وقد شهد عام٢٠٢٣م، عددًا من التطورات المهمة التي تتعلق بالأوضاع الداخلية في البلدان العربية، والعمل العربي المشترك، وعلاقات العرب بدول محيطهم الإقليمي، وسوف يتناول التحليل التالي أربع قضايا مهمة على نحو يجمع بين التسلسل الزمني للتطورات المهمة في هذه القضايا مع مراعاة وحدة الموضوع والتشابك بين مستويات التحليل الداخلية والعربية والإقليمية، ولذلك سوف يبدأ التحليل بالاتفاق السعودي-الإيراني في مارس٢٠٢٣م، نظرًا لأهميته سواء من منظور الاتجاهات الجديدة في علاقات العرب بدول محيطهم الإقليمي، والانعكاسات المتوقعة على الصراعات الداخلية العربية، ثم ينتقل إلى القمة العربية في السعودية في مايو2023م، كتأكيد على انتظام عمل مؤسسات العمل العربي المشترك، ولانعكاسها على استعادة وحدة الصف العربي بعودة سوريا للجامعة العربية، ويتطرق التحليل ثالثًا لحالة الصراعات الداخلية العربية ما هو مستمر منها وما استجد، وقد اختير هذا الترتيب نظرًا للتأثير المتوقع لكل من الاتفاق السعودي-الإيراني والقمة العربية على تطور تلك الصراعات، وأخيرًا ينظر التحليل في آخر حلقة من حلقات المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية، والتي تفجرت في ٧أكتوبر، ويُتَوقع أن تكون لها تداعيات مهمة لا على تطور الصراع العربي-الإسرائيلي فحسب وإنما على المنطقة برمتها.

أولًا-الاتفاق السعودي-الإيراني

   كان هذا الاتفاق مؤشرًا مبكرًا على بصمة سعودية واضحة على مجمل التفاعلات في المنطقة في عام٢٠٢٣م، وقد أحدث أصداءً هائلة عربيًا وإقليميًا وعالميًا، وهو أمر متوقع بالنظر أولًا للوزن الإقليمي لطرفيه، وثانيًا لدلالته بالنسبة لتطور علاقات الدول العربية بمحيطها الإقليمي، وثالثًا للرسالة التي انطوى عليها فيما يتعلق بسباق القمة الدولية نظرًا للدور الذي لعبته الصين في التوصل للاتفاق، فلا شك أولًا أن السعودية وإيران فاعلان رئيسيان في النظام العربي ومحيطه الإقليمي كما تُظهر ذلك تفاعلات المنطقة على الأقل منذ الربع الأخير من القرن الماضي، ولا شك ثانيًا أن العلاقات العربية مع دول المحيط الإقليمي قد اتسمت طويلًا بطابع صراعي سواء جاء ذلك نتيجة تناقضات رئيسية في المصالح كحالة الصراع العربي-الإسرائيلي، أو انحياز دولتي تركيا وإيران للمعسكر الغربي إبان مرحلة التحرر العربي من الهيمنة الغربية، والمفارقة أنه عندما حدثت تغيرات جذرية في هاتين الدولتين في١٩٧٩م، بنجاح الثورة على نظام الشاة، وفي تركيا بوصول حزب "العدالة والتنمية" للحكم في٢٠٠٢م، ترتب على هذه التغيرات أن أصبح لكل من الدولتين مشروعها الخاص تجاه المنطقة مما أوجد نوعًا جديدًا من الخلافات مع الدول العربية نتيجة اصطدام هذين المشروعين بالمصالح العربية سواء لرعاية تركيا التنظيمات ذات المرجعية الإسلامية، وبالذات بعد الانتفاضات الشعبية في عدد من البلدان العربية في أوائل العقد الثاني من هذا القرن، أو لإعلان إيران منذ نجاح ثورتها مبدأ نصرة المستضعفين كأساس لسياستها الخارجية وبالذات في منطقة جوارها، وما ترتب على ذلك من محاولات إيرانية للتغلغل في الدول العربية وبالذات الخليجية، وكذلك من تفاعلات عنيفة كانت الحرب العراقية-الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨م) أخطرها بالتأكيد، ولا شك أن الاستقطاب الدولي قد غذى هذه الخلافات رغبة في تكريس انقسام المنطقة.

   وفي هذا السياق شهدت العلاقات السعودية-الإيرانية حالات هدوء وتوتر طبقًا لعديد من المتغيرات منها ما يتعلق بتوجهات صانعي القرار في البلدين كانتقال السلطة في إيران من المتشددين إلى المعتدلين، ومنها ما يتعلق بالظروف الإقليمية كالظروف التي نجمت عن الانتفاضات الشعبية في عديد من البلدان العربية كما سبقت الإشارة، وأبرزها بالنسبة لموضوعنا التطورات اليمنية التي أدت إلى مواجهة سعودية-إيرانية غير مباشرة في الصراع من أجل حماية الشرعية اليمنية بعد الانقلاب الحوثي في سبتمبر٢٠١٤م، وازدادت العلاقات تدهورًا في مطلع٢٠١٦م، بقطع السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بعد قيام محتجين فيها بمهاجمة مقار دبلوماسية سعودية وإحراقها احتجاجًا على أحكام قضائية سعودية، غير أن عوامل عديدة ساعدت على تجاوز أزمة العلاقات منها ما يتعلق بإعادة الطرفين حساباتهما بالنظر إلى التكلفة العالية لاستمرار الصدام، كما أن قوى إقليمية كالعراق التي تريد إيجاد توازن في علاقاتها بين إيران والدول العربية، وعالمية كالصين التي ترتبط بعلاقات قوية مع كلٍ من السعودية وإيران، كان من مصلحتها تطبيع العلاقات بينهما، وأثمرت هذه العوامل المحلية والإقليمية والعالمية مجتمعة النجاح في تجاوز القطيعة وإبرام اتفاق مارس2023م، الذي كان بالإضافة إلى دلالته الإقليمية مؤشرًا جديدًا على بروز الدور العالمي للصين بعد أن لعبت للمرة الأولى مثل هذا الدور الدبلوماسي الناجح في واحدة من أعقد الأزمات الإقليمية التي كانت الولايات المتحدة تحاول على العكس تأجيجها.

   وقد بُنيت آمال حقيقية على أن يفضي هذا الاتفاق إلى نتائج واسعة سواء على مستوى تسوية عديد من قضايا الصراعات وعدم الاستقرار الداخلي في دول عربية بالنظر إلى الدور الفاعل لطرفي الاتفاق في المنطقة، وسوف تُبحث هذه النقطة لاحقًا في الجزئية الخاصة بحال الصراعات الداخلية في الوطن العربي، أو على المستويين الإقليمي والعالمي، والواقع أن المردود الرئيسي لهذا الاتفاق تمثل في إنهاء الاستقطاب الإقليمي ورفض المحاولات الخارجية لتوظيفه في صراعات لا علاقة لها بمصالح دول المنطقة، وهكذا كتب هذا الاتفاق شهادة وفاة للخطط الأمريكية الرامية إلى قسمة المنطقة إلى تحالفين متضادين على نحو لا يخدم سوى مصالح خارجية، وعلى المستوى العالمي مثل الاتفاق تأكيدًا حاسمًا للتوجه السعودي خاصة وتوجه عديد من دول المنطقة الوازنة عامة بخصوص بناء شبكة علاقات متوازنة مع القوى العالمية كافة التقليدية منها والبازغة، انعكاسًا لفهم صحيح للمتغيرات الدولية الراهنة وضرورة توظيفها في خدمة المصالح العربية، وقد تعددت المؤشرات السعودية الأكيدة على اتباع هذا النهج قبل التوصل إلى هذا الاتفاق كما بدا في موقف السعودية وعديد من الدول العربية تجاه المواجهة الراهنة في أوكرانيا، ولا شك أن هذا الاتفاق قد مثل شهادة ميلاد للدور الدبلوماسي العالمي للصين بنجاحها في التوسط لتسوية أزمة إقليمية معقدة ومهمة.

ثانيًا-قمة جدة (مايو2023)

   عُقدت القمة العربية الدورية بجدة ١٩مايو متأخرة عن موعدها في مارس بالنظر إلى عقد قمة٢٠٢٢م، بالجزائر في نوڤمبر، وبالتالي كان انعقاد القمة صعبًا بعد مدة وجيزة من سابقتها، و كان لانعقاد القمة دلالتان مهمتان أولاهما تأكيد انتظام انعقاد القمم العربية الدورية بعد سنوات التعثر التي امتدت ما بين قمة تونس في مارس٢٠١٩م، وقمة الجزائر في نوڤمبر٢٠٢٢م، والثانية أن قمة جدة استكملت حل معضلة عودة سوريا إلى أسرتها العربية في إشارة إلى عجز منطق المقاطعة وفرض العقوبات عن حل المشاكل، كما حدث في حالة مصر بعد عقدها معاهدة السلام مع إسرائيل، وكذلك عجز أسلوب التدخل في الشؤون الداخلية بدعوى الاعتبارات الإنسانية كما أظهرت خبرة الغزو الأمريكي للعراق٢٠٠٣م، وقد اتسقت عودة سوريا إلى الجامعة العربية مع انتصار قمة جدة للشرعية بصفة عامة فمُثل اليمن برئيس مجلسه الرئاسي رغم وجود سلطة الحوثيين في صنعاء، ومثلت ليبيا أيضًا برئيس مجلسها الرئاسي رغم الانشقاق بين الشرق والغرب، ومُثل السودان بمبعوث قائد الجيش رغم الصدام مع قوات الدعم السريع.

   وبالإضافة إلى الدلالات المهمة السابقة تبنت القمة مواقف سليمة من القضايا التي تصدت لها، سواء كانت هذه القضايا تدور داخل الدول العربية، أو بين دول عربية ومحيطها الإقليمي، وبالنسبة للقضية الفلسطينية أكد "إعلان جدة"  مركزيتها للدول العربية، وأدان بأشد العبارات الممارسات التي تستهدف الفلسطينيين في ممتلكاتهم وأرواحهم ووجودهم، كما أكد التمسك بخيار التسوية الشاملة والعادلة على أساس حل الدولتين وفقًا للقرارات الدولية والمبادرة العربية، ودعا المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسؤولياته لإنهاء الاحتلال، ووقف اعتداءاته وانتهاكاته المتكررة التي تعرقل الحلول السياسية، وحماية القدس المحتلة ومقدساتها، كما أيدت القمة موقف مصر والسودان في قضية السد الإثيوبي، وأدانت التدخلات الإيرانية والتركية في الشؤون العربية، وفيما يتعلق بالصراعات داخل بعض الدول العربية أعطى البيان الختامي الأولوية لتطورات السودان و القلق من تداعياتها، وأكد على التهدئة وتغليب لغة الحوار، ورفع المعاناة عن الشعب السوداني، والمحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية، والحيلولة دون أي تدخل خارجي في الشأن السوداني، واعتبار اجتماعات جدة بين الفرقاء السودانيين خطوة مهمة يمكن البناء عليها، ورحب البيان باستئناف سوريا مشاركتها في مؤسسات العمل العربي المشترك، وأكد أهمية مواصلة الجهود العربية وتكثيفها لمساعدة سوريا على تجاوز أزمتها، وفي الشأن اليمني أكد البيان دعم كل ما يضمن أمن واستقرار اليمن، وكذلك دعم الجهود الأممية والإقليمية الرامية للتوصل لحل سياسي شامل استنادًا للمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني وقرار مجلس الأمن٢٢١٦، و أعرب البيان عن التضامن مع لبنان، وحث الأطراف اللبنانية للتحاور لانتخاب رئيس للجمهورية ، وانتظام عمل المؤسسات الدستورية، وإقرار الإصلاحات المطلوبة.

ثالثًا-حال الصراعات الداخلية العربية

   أشار نموذج الصراعات الداخلية في بعض البلدان العربية التي نجمت عن تداعيات الانتفاضات الشعبية في مطلع العقد الثاني من هذا القرن إلى حالة من الجمود بسبب استمرار الاحتقان بين الأطراف المحلية على الرغم من بروز متغيرات جديدة تتعلق بتهدئة واضحة في علاقات النظام العربي بدول محيطه الإقليمي التي تلعب دورًا مهمًا في هذه الصراعات، وبالنسبة للقوتين الأكثر تأثيرًا في الصراعات الداخلية في البلدان العربية وهما إيران وتركيا سبقت الإشارة في الجزء الأول من هذا التحليل إلى الاتفاق السعودي-الإيراني في مارس٢٠٢٣م، كتتويج لمرحلة جديدة في العلاقات الخليجية-الإيرانية، بالإضافة إلى اكتمال عملية تطبيع العلاقات العربية-التركية التي بدأت بدول الخليج الرئيسية واستُكملت بإعلان رفع العلاقات الدبلوماسية المصرية-التركية إلى مستوى السفارة في يوليو٢٠٢٣م، وتوقع الكثيرون أن تنعكس هذه التطورات الإيجابية على الصراعات الداخلية في اليمن وسوريا وليبيا وإيجاد مخرج للأزمة اللبنانية، غير أنها لم تنعكس طيلة ما تبقى من عام٢٠٢٣م، فلم تفض لتقدم لتسوية الصراعات التي تنخرط فيها إيران وتركيا، ولا يمكن تفسير ذلك إلا باستمرار العجز عن حل التناقضات بين أطراف الصراع المحليين، وعدم استعداد حماتهم الإقليمين للتخلي عنهم والتضحية بمصالحهم في تلك الصراعات.

   فعلى الصعيد اليمني لم تسفر زيارة الوفدين السعودي والعماني إلى صنعاء في أبريل٢٠٢٣م، ولا زيارة الوفد الحوثي للرياض في سبتمبر عن نتائج محددة تشير إلى تقدم على طريق التسوية، وكان من الملاحظات السلبية أن الخطاب الإعلامي الحوثي لم يتخل عن مصطلحاته العدائية عند الحديث عن دور التحالف العربي في دعم الشرعية اليمنية، وفي ليبيا استمرت الاشتباكات المتقطعة بين الميليشيات الليبية، وعدم حسم التوافق على قوانين الانتخابات الرئاسية والتشريعية رغم موافقة مجلس النواب عليها في أكتوبر، ناهيك بالخلاف بين لجنة٦+٦ المشتركة المكلفة بإعداد القوانين الانتخابية مع المبعوث الأممي حول مبادرته الهادفة لجمع القادة السياسيين من أجل التوصل لتوافق يؤدي لانتخابات، ووصفت اللجنة المبادرة بأنها غير قانونية وغير شرعية، لأن دور البعثة الأممية هو دعم المؤسسات الوطنية وليس الحلول محلها، ودعت مجلسي النواب والدولة إلى الحوار المباشر بهدف التوافق على باقي الخطوات نحو الانتخابات، وعلى الصعيد الخارجي وافق البرلمان التركي على تجديد مدة بقاء القوات التركية في ليبيا ٢٤شهرًا، وعلى الصعيد السوري استمر تجمد الصراع عند مستوى منخفض من العنف باستثناء حادثة استهداف حفل تخرج طلاب الكلية الحربية في حمص أكتوبر الماضي، مع غياب لأي جديد في الأفق السياسي.

   ومع ذلك شهدت تلك الصراعات متغيرات جديدة إما أنها لم تفض إلى أي تطور نوعي كما في تعرض مدينة درنة الليبية لإعصار دانيال في سبتمبر الماضي، وكان الأمل معقودًا على أن تؤكد تداعيات الإعصار على الحاجة لوحدة الدولة، أو أنها فتحت الباب لتطورات جديدة لم تتضح أبعادها بعد، كما في المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية منذ عملية "طوفان الأقصى"، فانخراط الحوثيين في المواجهة يفتح الباب لتداعيات قد تترتب على الأعمال الحوثية ضد السفن المتجهة لإسرائيل، وقد تم بالفعل تكوين تحالف عسكري بحري في البحر الأحمر بقيادة أمريكية بدعوى حماية الملاحة في البحر الأحمر، ولا يمكن الآن حساب المردود الدقيق لأي أعمال انتقامية يقوم بها هذا التحالف ضد الحوثيين، حيث أن هذا المردود سوف يتراوح ما بين زيادة محتملة في شعبيتهم وتعرضهم لضربات انتقامية  من التحالف الجديد قد تؤثر في ميزان القوى بينهم وبين الشرعية اليمنية، كذلك فإن انطلاق بعض الصواريخ من الأراضي السورية باتجاه إسرائيل في المواجهة الحالية منذ 7 أكتوبر بالإضافة لمهاجمة بعض فصائل القواعد الأمريكية في سوريا أدخلاها في دائرة الصراع والأعمال الانتقامية المحتملة، ومازال الباب مفتوحًا لاحتمالات التصعيد وتوسيع نطاق الحرب، ومن ثم التأثير على الوضع الداخلي في سوريا، والخلاصة أن ثمة متغيرات خارجية جديدة طرأت على الصراعات موضع التحليل لم تتضح آثارها بعد، وهي على أي حال مازالت حتى كتابة هذه السطور غير واضحة الاتجاهات.

   ويُضاف إلى ما سبق أن خريطة الصراعات الداخلية في البلدان العربية شهدت توسعًا في عام٢٠٢٣م، بانضمام السودان إلى بلدان الصراعات اعتبارًا من منتصف أبريل بالصدام العسكري بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتبادل الاتهامات بين الجانبين بارتكاب ما يمكن وصفه بجرائم حرب وتلقي دعم خارجي، كما اتهمت قوات الدعم السريع الجيش بأنه امتداد للنظام القديم، وأن عناصر الإخوان المسلمين الذين كانوا عمادًا للنظام السابق تؤيده، ويظهر هذا الصدام خطورة فكرة "ثنائية" المؤسسة العسكرية على أمن الدولة وسلامتها، وهي ظاهرة موجودة للأسف في بعض الدول العربية، ولم تتمكن  محاولات الوساطة التي رعتها السعودية بالتعاون مع أمريكا من وضع حد للقتال، بل توسع نطاقه في آخر شهور العام إلى إقليم دارفور غرب السودان، وفي الشهر نفسه وافق مجلس الأمن على قرار إنهاء بعثة الأمم المتحدة بناءً على طلب السلطة السودانية، وهو ما يؤكد عقم آلية المبعوثين الأمميين لحل الصراعات كما شهدت تطورات الصراعات في اليمن وسوريا وليبيا، ومع الأيام الأخيرة لعام٢٠٢٣م،بدا أن السودان مرشح للدخول في بلدان الصراعات الداخلية المستعصية على الحسم.  

رابعًا-النظام العربي وطوفان الأقصى

   تفجرت في ٧أكتوبر٢٠٢٣م، حلقة جديدة من حلقات المواجهة بين الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين ومقاومة شعبها، ويهدف التحليل التالي إلى إلقاء الضوء على الموقف العربي من المواجهة الراهنة، وسوف يتبع التحليل نهجًا كليًا بمعنى استقصاء موقف النظام العربي ككل، وليس مواقف الدول العربية فرادى بهدف معرفة فاعلية هذا النظام ككيان جماعي في التصدي للتحدي الإسرائيلي، ولذلك فإن الأساس الذي سيعتمد عليه هو قرارات القمة العربية-الإسلامية التي  عُقدت في الرياض في 11 نوڤمبر بدعوة سعودية-فلسطينية، وكان الأصل في القمة أن تكون قمتين إحداهما عربية والثانية إسلامية، ثم رؤي دمجهما إظهارًا لوحدة الموقفين العربي والإسلامي، ويمكن تحليل قرارات القمة وفقًا لثلاثة محاور يتعلق أولها بمواقفها المبدئية، والثاني بمطالب القمة، والثالث بآليات متابعة قراراتها.

   أما المحور الأول الخاص بالمواقف المبدئية للقمة، فقد جاءت القرارات التي تدخل في سياقه على أعلى درجة من التمسك بالمواقف العربية بشأن القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي، فهذه القضية هي قضية العرب المركزية، ولا سلام بدون حلها، ولا أمن مع بقاء الاحتلال لأنه السبب في هذه الأحداث، ومنظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وخيار السلام يبقى الخيار الاستراتيجي للعرب في إطار مبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية، ولابد لهذا الغرض من تحرك دولي ينطوي على عملية سلمية جادة لها إطارها الزمني بهدف التوصل لحل الدولتين، بحيث تنشأ إلى جوار إسرائيل دولة فلسطينية تضم غزة والضفة الغربية بضمانات دولية، فلا حل منفردًا لغزة، وفي هذا السياق أدانت القمة العدوان الإسرائيلي بأشد العبارات، واعتبرته جريمة حرب، وأدانت استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، والمطالبة بضرب غزة بقنبلة نووية، ورفضت تكييف العدوان الإسرائيلي كدفاع عن النفس، كما أدانت تهجير سكان غزة من الشمال للجنوب، ودعاوي تهجيرهم خارج القطاع، وأكدت على ضرورة العودة الفورية للنازحين إلى بيوتهم ومناطقهم، وأدانت القمة كذلك قتل المدنيين، مع التأكيد على ضرورة اتخاذ المجتمع الدولي خطوات فورية لوقف قتلهم واستهدافهم.

   وبالنسبة للمحور الثاني الخاص بمطالبات القمة، فقد كان أولها بطبيعة الحال مطالبة مجلس الأمن بإصدار قرار بالوقف الفوري لإطلاق النار، وكبح جماح سلطات الاحتلال فيما تقوم به من جرائم، كما في سلوكها تجاه المستشفيات، ومنع الغذاء والدواء والكهرباء والمياه والوقود عن غزة، وكسر الحصار عليها، وإدخال قوافل المساعدات الشاملة، ودعمت القمة جهود مصر في هذا الصدد، وأكدت على ضرورة إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين والمدنيين، وأدانت جرائم الاحتلال بحق آلاف الأسرى الفلسطينيين، وطالبت جميع الدول بوقف تصدير الأسلحة لإسرائيل، كما طالبت كلًا من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتفعيل جهود التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، ودعمت المبادرات الفلسطينية لتحميل سلطات الاحتلال المسؤولية عن جرائمها، بما في ذلك مسار الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، كما شملت القمة بقراراتها إدانة الانتهاكات التي تقوم بها القوات الإسرائيلية والمستوطنون في الضفة الغربية، ومطالبة المجتمع الدولي بوضع جمعياتهم ومنظماتهم على قوائم الإرهاب الدولي، كذلك أدانت القمة الاعتداءات على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وأكدت ضرورة احترام الوضع التاريخي والقانوني لهذه المقدسات، وأن المسجد الأقصى بكامله مكان عبادة خاص بالمسلمين، وأخيرًا قررت القمة تفعيل شبكة الأمان المالية العربية والإسلامية لتوفير المساهمات المالية لدولة فلسطين.

   أما المحور الثالث الخاص بآليات متابعة القرارات فيمكن القول بأنه تضمن ثلاث آليات تتمثل في تكوين لجنة وزارية، ووحدتي رصد قانوني وإعلامي، فضلًا عن المتابعة من الأمينين العامين للمنظمتين، وأهم هذه الآليات هي اللجنة الوزارية التي تكونت من وزراء خارجية السعودية والأردن ومصر وقطر وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا وفلسطين وأي دول أخرى مهتمة، بالإضافة للأمينين العامين للمنظمتين، وذلك للقيام بتحرك فوري لوقف الحرب والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية لتحقيق السلام الدائم والشامل وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، كما كلفت القمة الأمانتين العامتين بإنشاء وحدتي رصد قانونيتين لتوثيق الجرائم الإسرائيلية منذ ٧أكتوبر، وإعداد مرافعات قانونية حول انتهاكات إسرائيل، كما كلفت الأمانتين أيضًا بإنشاء وحدتي رصد إعلامي لتوثيق جرائم الاحتلال، ونشر نتاج عملهما على منصات رقمية، وأخيرًا كلفت الأمينين العامين للمنظمتين بالمتابعة، وعرض نتائجها على الدورة القادمة لمجلسيهما.

   ويُلاحظ على هذه القرارات أنها استخدمت لغة دبلوماسية قوية تنتصر بوضوح للمواقف المبدئية العربية، وتتبنى المطالبات المتسقة مع هذه المواقف، غير أنه لا يخفى أن هذه المطالبات تحتاج كي يتم تجسيدها على الأرض إلى عمل شاق يواجه الإصرار الأمريكي حتى كتابة هذه السطور على رفض وقف إطلاق النار وتعويق أي جهد دبلوماسي لإصدار قرار بهذا الخصوص من مجلس الأمن، وتنطبق نفس الملاحظة على مطالبة الدول المصدرة للسلاح لإسرائيل بوقف صادراتها، أو الحديث عن كسر حصار غزة أو فرض دخول المساعدات وهكذا، فكل هذه مطالب تحتاج عملًا شاقًا ينطلق من رؤية واضحة وآليات فاعلة كي يتم تجسيدها، وإذا كانت الملاحقة القانونية والفضح الإعلامي لإسرائيل تبدو أسهل من المطالب السابقة لأن بمقدورنا أن نبادر بخطوات مهمة في هذا الصدد فإن هذه المبادرات بدورها تحتاج جهدًا مضنيًا في صياغتها وتنظيم تنفيذها ومتابعتها.

خاتمة: ملاحظات مستقبلية

   بدأ الربع الأول من عام٢٠٢٣م، بإنجاز دبلوماسي لافت أشاع جوًا من الإيجابية في المنطقة، وهو إنجاز الاتفاق السعودي-الإيراني في شهر مارس، وتلا ذلك في الربع الثاني انعقاد قمة جدة في شهر مايو تأكيدًا لعودة الروح لأهم مؤسسات العمل العربي المشترك، غير أن هذه الإنجازات الإيجابية لم تنعكس على حال الصراعات الداخلية العربية، فاستمر جمودها بمعنى عدم قدرة أيٍ من أطرافها على حسم الصراع مع استمرار التناقضات الرئيسية بين الأطراف المحلية للصراعات، وتغذيتها من الخارج، رغم التطورات الإيجابية في علاقة النظام العربي بمحيطه الإقليمي، بل إن نطاق هذه الصراعات قد اتسع بدخول السودان في دائرتها، وتكرار نموذج عدم حسمها لنفس الأسباب، ثم شهد الربع الأخير من العام تفجر واحدة من أقوى حلقات المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، وهي حلقة لن يُقَدَّر لها أن تُحسم قبل نهاية العام، وبالتالي فإن عام٢٠٢٤م، سوف تكون أولى أولوياته هي التعامل مع نتائج "طوفان الأقصى" التي يصعب حسمها الآن، لكنها بالتأكيد ستضخ دماء جديدة في مسار القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، ويكاد الشيء المؤكد الوحيد أن القضية الفلسطينية ستعود بالفعل لا بالقول إلى بؤرة جدول الأعمال العربي والإقليمي والدولي، وأن تجميدها قد أصبح أمرًا من الماضي، كذلك فإن ثمة احتمالات لأن يتأثر مسار بعض الصراعات الداخلية العربية بتداعيات "طوفان الأقصى" نتيجة امتداد الأعمال القتالية إلى بعض أطرافه كما في اليمن وسوريا ولبنان فتتعرض هذه الصراعات لمزيد من التدخلات الدولية التي قد تؤثر على موازين القوى فيها، والشيء المؤكد أن على كل مهتم بالمصالح العربية وحريص عليها أن يتحسب لتلك التداعيات كافة بالرؤية السليمة وتعزيز القدرة على التأثير فيها.

مقالات لنفس الكاتب