array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 193

الاستقرار يبدأ في روسيا بإعادة انتخاب بوتين والتعافي من العقوبات وحسم ملف أوكرانيا

الخميس، 28 كانون1/ديسمبر 2023

مثلت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرياض وأبو ظبي يوم 6 ديسمبر منعطفاً هاماً في مسار التطورات الدولية والإقليمية المتسارعة وغير المسبوقة، وفيما يتعلق بمحاولات عزل روسيا وتقويض شراكاتها الاقتصادية دولياً وإقليمياً على النحو الذي يُجهز على قدراتها ومقومات فاعليتها كقوة كبرى. صحيح أنه سبق وأن زار الرئيس بوتين عدداً من دول الفضاء السوفيتي السابق، كما زار الصين، واستقبل العديد من رؤساء الدول الصديقة لروسيا، ولكن يظل لزيارته للخليج أهمية خاصة نظراً لما تضمنته من دلالات.

أولها، الاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي تتمتع به روسيا وقدرتها ليس فقط على الصمود في وجه الضغوطات الغربية الضخمة والعقوبات غير المسبوقة التي تم فرضها على خلفية الأزمة الأوكرانية بهدف حلحلة شعبية الرئيس بوتين والعصف بنظامه السياسي، ولكن كسر حلقة هذه الضغوطات وتجاوزها بالتحرك في فضاءات اقتصادية وسياسية أوسع في آسيا والشرق الأوسط، وفى القلب منه منطقة الخليج، إلى جانب إفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وتشير استطلاعات الرأي إلى تمتع الرئيس بوتين بتأييد واسع في الشارع الروسي، ومنها ذلك الذي أجراه مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام VCIOM في سبتمبر 2023م، ووفقاً له فإن 77.1% من المواطنين الروس يثقون بالرئيس بوتين، و73.6% يوافقون على ما يقوم به. وقد عزز هذا من إقدام بوتين على إعلان ترشحه لولاية رئاسية جديدة في الانتخابات المقرر إجراؤها في مارس المقبل. ويمكن تفسير هذا الدعم الشعبي لبوتين باستقرار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الحياتية للمواطنين الروس في ضوء زيادة الأجور في روسيا بنسبة 7%، والدخل الحقيقي بنسبة 4.4% من ناحية، وتوقف التعبئة العامة الجزئية التي تم إعلانها لفترة وجيزة نهاية عام 2022م، والاتجاه نحو قبول المتطوعين للمشاركة في العملية العسكرية بأوكرانيا من ناحية أخرى، مما جعل المواطن الروسي بعيداً عن ظلال الحرب في أوكرانيا إلى حد كبير، كما إن عامل الأمن والاعتقاد بأنها حرب "وطنية عظمى" أخرى، وأن الحماية من مخاطر العدوان الخارجي عبر أوكرانيا كانت حاضرة في الذهن الروسي منذ بداية الأزمة.

والواقع أن من يزور روسيا لا يستشعر الحرب في الداخل الروسي، لاسيما في الأقاليم البعيدة عن العاصمة موسكو، حتى التغطية الإعلامية للعملية العسكرية لا تحظى بمساحة واسعة من جانب الصحافة ووسائل الإعلام الروسية. وجاء "طوفان الأقصى" ليصرف انتباه قطاع واسع من المواطنين، ما يزيد عن 20 مليون من المسلمين الروس يمثلون 14% من السكان باتجاه الحرب في غزة.

وعلى الصعيد الاقتصادي تعكس مؤشرات الاقتصاد الروسي أداءً جيداً بل وأفضل من دول أخرى كثيرة ليست طرفاً في الحرب بأوكرانيا. فقد نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.3%. خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2023م، وتراجع عجز الميزانية الروسية في نهاية 2023م، إلى نحو 1% من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وذلك انخفاضًا من توقعات سابقة عند 2%، ويعود تراجع العجز إلى ضبط الإنفاق والإيرادات الجيدة في القطاع غير النفطي والغازي. وقد تم تمويل عجز الميزانية الروسية بالاعتماد على الموارد المحلية وذلك لأول مرة منذ فترة طويلة، كما أصبحت الشركات الروسية تعتمد على مصادر الإقراض الداخلية التي حلت محل مصادر التمويل الخارجية. وخلال عام ونصف زاد عدد الشركات في الصناعات الخفيفة بنسبة 80%، والصناعات الثقيلة بنسبة 30%. كما ارتفع احتياطي الذهب والنقد الأجنبي إلى 587.5 مليار دولار في 24 نوفمبر 2023م، وارتفعت حصة الذهب الروسية في الاحتياطيات الدولية بنسبة 24.71% لتبلغ 145.783 مليار دولار.

كذلك حافظت روسيا على تصدرها سلاسل الإمداد والتوريد العالمية للمحاصيل الزراعية حيث استمرت أكبر مصدري الحبوب، واعتلت قائمة المصدرين للقمح في العالم في موسم 2022-2023م، بواقع 46 مليون طن، وفق إحصاءات وزارة الزراعة الأمريكية، بما يعادل ربع تجارة القمح العالمية خلال هذا العام. وحققت رقمًا قياسيًا جديدًا في إنتاج الحنطة السوداء أو الـ "جريتشكا" التي تعد من البقوليات الأساسية في روسيا، ويعتمد الشعب الروسي عليها كاعتماد شعوب أخرى على الرز والبرجل في وجباتهم بإنتاج بلغ 1.6 مليون طن عام 2023م، مقارنة بـ1.2 مليون طن العام السابق. وحققت الصناعة الروسية نمواً بلغ 6%، والاستثمار بنسبة 10%.

فيما يتعلق بالقطاع المصرفي، فإن البنوك الروسية تعمل بشكل مستقر على الرغم من ضغط العقوبات. إلا أن سعر صرف العملة الروسية تراجع لأدنى مستوى له منتصف أغسطس 2023م، حيث تجاوز 100 روبل للدولار وذلك للمرة الأولى منذ مارس 2022م، ثم عاد للتعافي ليحقق 92.72 للدولار في 7 ديسمبر. وقام البنك المركزي الروسي في 27 أكتوبر 2023 م، برفع سعر الفائدة الرئيسي بنسبة من 13% إلى 15% ثم إلى 16% سنويًا بنهاية العام، وهو أعلى مستوى منذ مايو 2022م، دف كبح التضخم، الذي بلغ 6.59% على أساس سنوي حتى 23 أكتوبر 2023م، وفقاً لتقديرات لوزارة التنمية الاقتصادية الروسية، نظراً لنمو الطلب المحلي على نحو يفوق إمكانيات زيادة الإنتاج، وارتفاع معدلات الإقراض مما فرض تشديد السياسة النقدية ورفع الفائدة. وقد مثل قرار رفع سعر الفائدة دعماً للعملة الروسية، التي تشهد تعافياً بعد الإجراءات السابقة إلى جانب مرسوم رئاسي ألزم مجموعة من الشركات المصدرة في روسيا ببيع جزء من عائدات العملة الأجنبية في بورصة موسكو. وأكدت رئيسة البنك المركزي الروسي، إلفيرا نابيولينا، بأن البنك سيعيد التضخم في عام 2024م، إلى المستوى المستهدف، وهو 4%، وبعد ذلك سيتم خفض سعر الفائدة.

 

ثانيها، تجاوز موسكو المرحلة الحرجة من الحرب في أوكرانيا لاسيما بعد أن أحبطت تمرد قائد مجموعة فاجنر الروسية، يفجيني بريجوجين، صباح يوم 24 يونيو، الذى نال من هيبة الدولة الروسية، والتماسك الذى سعت إليه ليس فقط على الصعيدين المجتمعي والسياسي ولكن العسكري أيضاً في ضوء تخوف الكثيرين من أن يؤدى لمواجهة بين المؤسسة العسكرية النظامية، والمجموعة المسلحة غير النظامية التي طالما وظفها الكرملين لخدمة أهداف عدة في الجوار القريب والبعيد خاصة أوكرانيا وسوريا، واستطاعت موسكو إعادة هيكلة مجموعة فاجنر والسيطرة على جميع مقاتليها عبر تعاقدات مباشرة بينهم ووزارة الدفاع الروسية، وبدا قائدها الجديد، أندريه تروشيف، الذى خلف بريجوجين بعد مقتله في حادث تحطم طائرته الخاصة، أكثر توافقاً وتنسيقاً مع القيادات العسكرية الروسية.

كما أجهضت روسيا كل محاولات الهجوم المضاد التي شنتها كييف منذ يونيو 2023م، وعولت عليه واشنطن وحلفاؤها الأوربيون كثيراً. وخلال اجتماع مع قيادة القوات المسلحة الروسية، في الأول من ديسمبر، كشف وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو عن حجم خسائر القوات الأوكرانية التي بلغت نحو 125 ألف جندي و16 ألف قطعة سلاح خلال 6 أشهر من الهجوم المضاد. وجاء "طوفان الأقصى" ليعصف بما تبقى من طموح أوكراني وغربي حيث تصدر أمن إسرائيل والحرب في غزة الأجندة الأمريكية والعالمية وتراجعت القضية الأوكرانية إلى مرتبة تالية، كما هدأت الحملة الإعلامية الغربية المضادة لروسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، مما ساعد موسكو على إحراز تقدم ملحوظ في ميدان العمليات. 

ومن المتوقع أن يستمر التقدم الروسي في أوكرانيا مع تصدع الدعم الأمريكي والأوروبي الواسع النطاق لنظام كييف ووصول الهجوم المضاد الذي تشنه القوات الأوكرانية إلى طريق مسدود. فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في 5 ديسمبر، أن واشنطن سوف تستنفد الأموال اللازمة لدعم أوكرانيا في الأسابيع المقبلة، وأشار منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، إن الإدارة الأمريكية أنفقت نحو 96% من الأموال التي خُصصت لمساعدة أوكرانيا، وأنه من دون قرارات من الكونجرس، يبدو استمرار المساعدات أمرًا مستحيلاً. فقد فشل الحزبان الديمقراطي والجمهوري في التوصل إلى حل وسط بشأن طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن تقديم دعم إضافي لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان. ورفض مجلس الشيوخ الأمريكي يوم 6 ديسمبر، تمرير مشروع القانون المتعلق بتخصيص مساعدات بقيمة 106 مليار دولار لكييف وإسرائيل، في حين صوت مجلس النواب الذي تسيطر عليه الأغلبية الجمهورية على تخصيص المساعدات لإسرائيل فقط. وعلى حين خطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالكونجرس الأمريكي في 22 ديسمبر 2022م، وصفق له أعضاء الكونجرس بمجلسيه وقوفًا مطولا، رفض مجلس الشيوخ خطاباً كان مقرر له عبر الفيديو في جلسة مخصصة للنظر في المساعدات المقدمة لأوكرانيا، وكان من المفترض أن يحض زيلينسكي خلالها على مواصلة الدعم العسكري لبلاده. كما لم تؤتى زيارة زيلينسكي لواشنطن يوم 13 ديسمبر بنتائج في هذا الصدد، واقتصر الأمر على كلمة ألقاها في جامعة الدفاع الوطني التابعة للبنتاجون.

كذلك فشلت قمة الاتحاد الأوروبي يوم 15 ديسمبر في تمرير حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 50 مليار دولار بعد استخدام المجر الفيتو ضد القرار. وفى 2 ديسمبر أشار أمين عام حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ينس ستولتنبرج، إلى وجود نقص حاد في القذائف بالجيش الأوكراني. وفي وقت سابق، اتفق وزراء الخارجية والدفاع بدول الاتحاد الأوروبي على خطة تنص على توريد مليون ذخيرة إلى أوكرانيا بحلول مارس 2024م، ولكن حتى أوائل نوفمبر تم نقل 300 ألف قذيفة فقط إلى القوات المسلحة الأوكرانية. وأشار وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، بأن الاتحاد الأوروبي لن يتمكن من الوفاء بوعده لنظام كييف في الوقت المحدد.

لقد حدد الرئيس بوتين خلال مؤتمره الصحفي السنوي خيارين أمام كييف "إما السلام وفق الشروط الروسية أو الحرب المستمرة"، ويبدو أن هذه هي السيناريوهات الأكثر ترجيحًا لمسار الحرب في أوكرانيا، ولا شك أن نضوب شريان المساعدات الغربية لأوكرانيا سيرجح البديل الأول وهو السلام وفق الشروط الروسية. كما إن تراجع المساعدات لأوكرانيا سيحفظ الحرب، حال استمرارها، عند الوتيرة الحالية وبآليات تقليدية دون توظيف للقدرات النووية الروسية. فقد أكدت موسكو مراراً التزامها بعقيدتها النووية لعام 2020م، والتي تجيز استخدام القدرات النووية الروسية حال تعرض روسيا لهجوم نووي أو لتهديد وجودي ولو بأسلحة تقليدية. وبالنظر للتقدم الذي تحرزه روسيا فإنها لن تكون معرضة لمثل هذا التهديد الوجودي، ومن ثم ليست في حاجة لتوظيف السلاح النووي، مما يبعد شبح حرب عالمية نووية لاحت في مرحلة من التصعيد بين روسيا والغرب.

 

ثالثها، عمق التغيرات التي يشهدها هيكل القوة في النظام الدولي والتفاعلات الدولية والإقليمية على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي، فقد خرج العالم عن سيطرة واشنطن، ولم تعد الأخيرة قادرة على الثواب والعقاب، وفرض إراداتها وأجندتها كما كان عليه الحال منذ عقدين. وأصبح الصمود الروسي في مواجهة العقوبات الغربية التي تقودها الولايات المتحدة ملهماً لما يمكن أن يطلق عليه تيار الاستقلال في السياسة الدولية ليس دعماً لروسيا، ولكن انحيازاً من جانب قطاع واسع من الدول لمصالحها ومقتضيات أمنها القومي بمفهومه الشامل الذي يشمل الأمن الاقتصادي والغذائي وأمن الطاقة وغيرها من الأبعاد غير التقليدية إلى جانب البعد العسكري.

فقد ازداد التحالف الروسي / الصيني تبلوراً، وأصبح محور استراتيجي واقتصادي يقود تغيراً جوهرياً في معادلات القوى والتفاعلات العالمية ويجعل من الشرق وخاصة آسيا مركز الثقل العالمي. وكان استقبال الرئيس بوتين في بكين خلال المنتدى الدولي الثالث لمبادرة "حزام واحد .. طريق واحد" يوم 18 أكتوبر 2023م، دلالة واضحة على متانة هذا التحالف، ودوره القيادي في النظام الدولي، وثبات الصين في مواجهة الضغوطات الأمريكية، ليس عداءً لواشنطن وإنما دفاعاً عن مصالحها الحيوية مع روسيا. وفى كلمته أمام المنتدى الذي ضم ممثلين عن 130 دولة و30 منظمة دولية أكد الرئيس الصيني شي جين بينج أن بلاده ترفض "الإكراه الاقتصادي" و"المواجهة بين الكتل"، وأنها لن تنخرط في أيّ "مواجهة أيديولوجية أو ألعاب جيوسياسية". وخلال اجتماعه بالرئيس بوتين، والذي كان اللقاء الـ 42 في عشر سنوات منذ توليه السلطة عام 2013م، أشاد الرئيس شي بـ "التفاعل الاستراتيجي المكثف والفعال بين البلدين، والصداقة الشخصية القوية" بين الزعيمين.

ويعتبر كل طرف شريان اقتصادي رئيسي بالنسبة للآخر، فقد أدت العقوبات الغربية على موسكو إلى خفض تكاليف استيراد النفط الروسي لشركات التكرير الصينية، وتستفيد الصين كثيراً من شراء النفط بأسعار مخفضة من الدول التي تشملها العقوبات الغربية مثل روسيا وإيران وفنزويلا، وساعدتها تلك الاستراتيجية على توفير ما يقرب من 10 مليارات دولار من فاتورة استيراد النفط. وازدادت صادرات النفط من روسيا إلى الصين بنسبة 24.4% إلى إجمالي 79.9 مليون طن، خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023م، وفقًا لبيانات الإدارة العامة للجمارك الصينية. وبلغت صادرات روسيا من الغاز إلى الصين 22 مليار متر مكعب خلال 2023م، وفقاً لتقديرات وزارة الطاقة الروسية، على أن ترتفع إلى 30 مليار متر مكعب في 2024م، ولهذا أهميته للاقتصاد الصيني النهم للطاقة، كما عوض روسيا عن السوق الأوروبية الذي فقدته. كذلك تجاوز حجم التجارة بين روسيا والصين 220 مليار دولار عام 2023م، وفقا لبيانات الإدارة العامة للجمارك الصينية، ويسعى البلدان إلى مزيد من الدفع به، وفى هذا الإطار أبرمت موسكو وبكين صفقة ضخمة لتوريد الحبوب والبقوليات والبذور الزيتية الروسية إلى الصين، في إطار زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين بقيمة 25.7 مليار دولار لتوريد 70 مليون طن من الحبوب للصين على مدى 12 عامًا.

كما يزداد التعاون العسكري متانة بين البلدين في ظل تحديات مشتركة ورؤى وتوجهات متوافقة لكيفية مواجهتها. وتتواصل التدريبات والمناورات المشتركة بينهما على المستوى الثنائي ومتعدد الأطراف في رسائل مباشرة لواشنطن وشركائها الآسيويين، وكان من آخرها الدوريات المشتركة للقوات الجوية الصينية والروسية بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي عُقدت منتصف ديسمبر واعُتبرت نوعية حيث قامت خلالها مجموعة جوية مكونة من حاملات الصواريخ الاستراتيجية من طراز Tu-95MS الروسية والقاذفات الاستراتيجية Hun-6K الصينية بدورية جوية فوق مياه بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، وتم توفير غطاء جوي لها على طول مسار الدورية المشتركة بالكامل بواسطة مقاتلات Su-35 التابعة للقوات الجوية والفضائية الروسية ومقاتلات من طراز Su-30/Jian 11b  التابعة للقوات الجوية الصينية.

ولا يقتصر الأمر على الصين فقد برزت الهند كشريك أساسي لروسيا، وسجلت واردات الهند من النفط الروسي أعلى مستوى لها على الإطلاق، وتعتبر الهند ثالث أكبر مستورد للنفط الروسي في العالم وتمد موسكو الهند بنحو 42% من وارداتها من النفط الخام. كما تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 45 مليار دولار عام 2023م، وتعد روسيا رابع أكبر شريك تجاري للهند وثاني أهم مورد للبضائع إليها.

مثل هذه السياسات المستقلة للصين والهند وغيرها من الدول في آسيا و"عالم الجنوب" يؤشر إلى تغير هيكلي في النظام الدولي حيث تسعى دول العالم المختلفة إلى تحقيق مصالحها بعيداً عن الاصطفاف السياسي والإيديولوجي الذي طالما جاء على حساب المصالح الحيوية للدول. مما فتح آفاق رحبة لروسيا لتنمية الشراكات التنموية والأمنية المرنة على النحو الذي يسمح لها بتعظيم المنافع وتقليل المخاطر الاقتصادية والأمنية.

 

رابعها، الانعطاف الروسي الواضح نحو العالم الإسلامي حيث يمثل الأخير فضاءً اقتصاديًا هامًا وواعدًا لروسيا، صحيح أن التوجه الروسي نحو العالم الإسلامي كان ضمن الأولويات الروسية على مدار العقدين الماضيين، وحصلت روسيا على صفة عضو مراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي عام 2005م، إلا أن عام 2023م، شهد تحولًا ملحوظاً في بوصلة روسيا الاقتصادية باتجاه العالم الإسلامي، عبر المنتجات الحلال. وتقدر قيمة سوق الأغذية الحلال العالمية ما بين 1.5 و2.2 مليار دولار مع إمكانات نمو السوق إلى 4.1 مليار دولار بحلول العام 2028م، وتسعى روسيا إلى حصول صادراتها على شهادة "حلال" بهدف النفاذ إلى الأسواق الإسلامية، وعلى سبيل المثال، حصلت شوكولاته "أليونكا" الروسية على شهادة "حلال" مما ساعد على صعود روسيا من المركز 12 إلى المركز 11 في لائحة كبار مصدري منتجات الشوكولاتة في العالم، رغم العقوبات والحظر الغربي، حيث زادت صادراتها بنسبة 9% إلى 535 مليون دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من 2023م، وفى ديسمبر 2023م، أطلق بنك "سبيربنك" الروسي خدمة جديدة في مجال الصيرفة الإسلامية تتضمن خدمة التمويل الإسلامي للكيانات القانونية، وذلك وفق قانون تم إقراره في ديسمبر 2022م، بمقتضاه أصبحت البنوك الروسية قادرة على البدء في الانخراط في التمويل الإسلامي وتقديم خدمات الصيرفة الإسلامية ومنها القروض وقبول الودائع وفق الشريعة الإسلامية.

يأتي في قلب هذا الانعطاف التعاون بين روسيا والمملكة العربية السعودية حيث ترى روسيا أن لعلاقتها مع الرياض أهمية خاصة باعتبارها تشكل ضمانة لاستقرار "أوبك +" وأسواق النفط العالمية، وتعزيز السياسة الروسية الساعية لتجنب تأثير العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب الحرب في أوكرانيا. ويدعم انضمام الرياض لعضوية بريكس في الأول من يناير 2024م، وقبولها شريك حوار في منظمة شنغهاي الشراكة الروسية السعودية على المستوى الثنائي وفى إطار متعدد الأطراف، ويتيح آفاق لامحدودة لتطويرها في مختلف المجالات.

 

لقد استطاعت روسيا خلال عام 2023م، تثبيت استقرارها الاقتصادي والسياسي والحفاظ على مكتسباتها في أوكرانيا بتكلفة مادية وبشرية كبيرة، وساعدت العديد من التطورات الدولية والإقليمية على إعادة تطبيع وضع موسكو الدولي، لتتجاوز مرحلة الصمود إلى الانطلاق بخطوات ثابتة نحو شراكات مستقبلية واعدة مع العديد من القوى الاقتصادية في آسيا والشرق الأوسط و"عالم الجنوب"، ولعل أهم هذه التطورات الحرب في غزة التي مثلت فرصة سانحة لموسكو ليس فقط لتخفيف الضغط الغربي عليها وعلى شركائها، ولكن لكشف المعايير المزدوجة للغرب وتخاذله في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية والكارثة الإنسانية في غزة، وبعد أن كانت واشنطن تسعى جاهدة لعزل روسيا وإدانتها عالمياً، اندلعت الاحتجاجات المنددة بالموقف الأمريكي من الحرب في غزة، وبدت روسيا الأقرب سياسياً وإنسانياً للمواقف الدولية المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار، وحماية الفلسطينيين، مما هيأ الأجواء لتجاوز الضغوطات الغربية على روسيا ومحاولات عرقلة تعاونها وشراكاتها مع العديد من الدول لاسيما الإسلامية والعربية. وفى هذا السياق، من المتوقع أن يكون عام 2024م، هو عام الاستقرار السياسي بإعادة انتخاب الرئيس بوتين لست سنوات قادمة، والانطلاق الاقتصادي بعد التعافي من العقوبات وتداعياتها، والحسم للملف الأوكراني إما سياسياً أو عسكرياً.

مقالات لنفس الكاتب