في البداية، علينا ان نُقِر بالتحديات المُعقدة والمُتشابكة التي يواجهها العالم العربي خلال اللحظة الراهنة، بحيث لم يعد ممكنًا صياغة حلول سريعة أو سلسلة، وقد يستوجب الأمر إجراء تقييم أولي للقضايا المُلحة التي يجب أن تتم متابعتها من خلال وضع استراتيجيات متوسطة إلى بعيدة المدى، بحيث تُساعد على وضع اللبنة الأولى في الطريق صوب تجاوز العقبات ورسم خارطة المستقبل. وفي هذا الصدد، تعكس رؤى دول مجلس التعاون الخليجي ليس فقط كيف يمكن أن يكون التخطيط للمستقبل، بل وكيف ينبغي أن يكون. ومن أبرز الأمثلة المضيئة في هذا الشأن "رؤية المملكة 2030" التي تتبناها المملكة العربية السعودية والتي تُتيح خارطة طريق تستعرض نمط السياسات اللازمة وتحدد أجندة الأولويات الرئيسية. في حين تُسطر دولة الإمارات المتحدة قصة نجاح ملهمة في كيفية ترجمة تلك الرؤى إلى واقع ملموس على الأرض. حيث أصبح في إمكان أي زائر لمدينة أبو ظبي، أو الرياض، أو الدوحة رؤية هذه التغيرات رأي العين، خاصة إذا ما اعتاد التوافد على المنطقة خلال العقدين الماضيين.
علاوة على ذلك، سعت دول مجلس التعاون خلال الأعوام الأخيرة على تطوير حس أعلى بالمسؤولية وقدرة أكبر على تولي زمام الأمور على الصعيدين السياسي والأمني. وينعكس ذلك من خلال بيئة خفض التصعيد التي تشهدها المنطقة عندما يتعلق الأمر بقضايا مثل العلاقات الخليجية-الإيرانية، والتحرك من أجل بلورة حل سياسي للأزمة في اليمن، وعودة سوريا إلى الحضن العربي، والتي تُعد جميعها نتاج نهج خليجي براجماتي يُركز على الحلول، ويَهدف إلى صياغة رؤية بديلة للمنطقة تكون ركائزها الاستقرار والازدهار. وبالنظر إلى الفترات المطولة التي سُمح خلالها لهذه النزاعات أن تتفاقم، فإن العديد من خطوات الإصلاح الجارية لا يزال قيد المراحل الأولية. رغم ذلك، فإنها تنطوي على أهمية بالغة كونها تمثل حجر الأساس في الطريق لتجاوز الأزمات الراهنة في العالم العربي ونفض غبار الماضي، مستفيدة من النظام الجديد الناشئ في المنطقة العربية بشكل عام وفي الخليج بشكل خاص.
تحديات هائلة
تستدعي عملية تغيير الوضع الراهن في العالم العربي استيعاب كم التحديات الرئيسية التي تواجه هذه البقعة من العالم والتي لن تكون للأسف قائمة قصيرة.
أولًا، معاناة العديد من دول المنطقة من انعدام الاستقرار السياسي، بما في ذلك معايشة حروب أهلية، أو أحداث عنف سياسي، أو احتجاجات مناوئة للحكومات. وتمثل أحداث العنف المُندلعة مؤخرًا في السودان منذ أواسط أبريل 2023م، أحدث الأمثلة على ذلك وإن كان تكرار مثل هذه الأحداث بشكل يومي لم يعد غريبًا. وفي الوقت الذي تحمل بعض الأزمات الداخلية في طياتها تبعات إقليمية، قد تؤدي النزاعات الإقليمية من جهة أخرى إلى تفاقم الأوضاع الداخلية للدول، وهو ما ينعكس في الأزمات التي يُعايشها كل من السودان، والعراق، وسوريا، ولبنان التي تعد مثالا على كيف يمكن لمزيج مشحون من العوامل الداخلية والخارجية أن يحدث حالة من عدم الاستقرار وضبابية المشهد في المنطقة. بالتالي، فإن سيادة الأمن في المنطقة يظل مرهونا بإنهاء النزاعات المشتعلة داخلها، خشية أن يستمر الوضع الراهن لفترات أطول أمداً إذا ما سُمح لهذه الصراعات بلوغ مستوى الغليان.
ثانيًا، معاناة غالبية المنطقة العربية من مظاهر التخلف الاقتصادي والتي تشمل؛ ارتفاع مستوى البطالة، وتنامي معدلات الفقر، وعدم المساواة. وذلك في الوقت الذي أدى الافتقار إلى التنوع، وتنامي الفساد، ومحدودية الوصول إلى رأس المال ووسائل التكنولوجيا، إلى تقويض النمو الاقتصادي. وما يزيد الأوضاع سوءا، حقيقة أن العديد من دول المنطقة تفوق نسبة سكانها دون سن الخامسة والعشرين 50% من إجمالي تعداد السكان لديها، وهو ما يشكل ضغطًا هائلًا على الأنظمة التعليمية والصحية وسوق العمل والإسكان، بالكاد يمكن معالجته. على سبيل المثال، سجل تعداد سكان مصر نموًا مطردًا منذ عام 1980م، بنسبة 250 %، ليقفز من 44 مليون نسمة إلى أكثر من 110 مليون نسمة. في حين يختبر المناخ الاقتصادي المحلي تحديات اجتماعية وثقافية من بينها؛ عدم المساواة بين الجنسين، وما يتردد عن انتهاكات حقوق الإنسان، وتحديات أخرى. من ثم، أصبح من الصعب بمكان الفصل ما بين القضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، مما يستدعي ضرورة التركيز على إجراء إصلاحات سياسية داخلية تتواكب مع عملية صياغة لأنماط وصور جديدة من العقد الاجتماعي، هذا أو المجازفة بأن يكون البديل معايشة سلسال طويل من الأداء الهزيل وتقويض أكبر لنظام الدولة القائم في المنطقة.
ثالثًا، ثمة العديد من التهديدات التي تحدق بأمن المنطقة وتتراوح ما بين قضايا الإرهاب، والتطرف، والعنف الطائفي، إلى ملفات مثل منع انتشار الأسلحة النووية، وظاهرة الأطراف الفاعلة من غير الدول التي أصبحت تكتسب انتشارًا بما قد يشكل خطرًا على القدرة الوظيفية لجهاز الدولة ويقوض قدرته على تطبيق أجندة إصلاح شاملة، وتغذية الانقسامات القائمة داخل المجتمع. وفي حين أنه يمكن أن تتم معالجة العديد من هذه التهديدات الأمنية من خلال اعتماد برامج إصلاح سياسي واقتصادي أكثر فاعلية، إلا أن النتيجة يجب أن تقود في النهاية إلى تدعيم دور مؤسسات الدولة بالتوازي مع إعلاء المزيد من المُساءلة العامة.
رابعًا، اكتساب بعض القضايا الشائكة العابرة للحدود مزيدًا من الأهمية والصلة خلال الأعوام الأخيرة؛ على رأسها شبح التغير المناخي الذي أصبح يُطارد دول المنطقة العربية ومشكلات التدهور البيئي مثل: التصحر، وندرة المياه، والتلوث. في حين أدت أزمة تفشي جائحة فيروس كورونا(كوفيد-19) إلى تبعات اقتصادية، واجتماعية، وصحية وخيمة على العالم العربي من بينها؛ ارتفاع معدلات الفقر، تعطل أنظمة الرعاية الصحية. بشكل عام، تستدعي عملية معالجة هذه التحديات جهودًا مستدامة وتعاون الدول العربية مع بعضها البعض ومع المجتمع الدولي، وفي حال صار ذلك بشكل صحيح، فسوف يستتبعه الحاجة إلى تبني مبادرات تعمل على تعزيز الاستقرار السياسي، والنمو الاقتصادي، والإصلاح الاجتماعي والثقافي، وتحسين البنية الأمنية واستدامة البيئة.
خامسًا، أصبح العالم العربي مطمعًا للتدخلات الخارجية نظرًا لما ينعم به من موارد اقتصادية تتمحور بشكل أساسي حول مصادر الطاقة وموقعه الجغرافي الاستراتيجي، فضلاً عن كونه موطن مقدس للديانات الرئيسية في العالم. لذلك ينبغي لأي معادلة تُصاغ حول المنطقة أن تأخذ بعين الاعتبار تلك العوامل الخارجية. وكما اتضح مؤخرًا، فقد ألقت الأزمة المشتعلة بين أوكرانيا وروسيا بظلالها على المنطقة العربية مُخلفة العديد من التداعيات:
أولها، على مستوى التحالفات الجيوسياسية، فقد أدت الحرب الأوكرانية إلى تحولات في ديناميات القوى العالمية في ظل تزايد تهديد الوجود الروسي والصيني للهيمنة الأمريكية الأوروبية، وقد ينجم عن ذلك إعادة صياغة شكل التحالفات السياسية والاقتصادية داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ثانيًا، التركيز المتزايد مؤخرًا على دور الآلة العسكرية أو" عسكرة الصراعات" من خلال عدسة الحرب الأوكرانية التي سلطت الضوء على أهمية القوة العسكرية في توجيه بوصلة السياسات العالمية، بما قد يؤدي بدوره إلى تغذية مزيد من سباقات التسلح داخل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ثالثًا، سلطت أزمة أوكرانيا الضوء على مخاطر استمرار استخدام سلاح الحروب بالوكالة التي تسمح لأطراف وقوى خارجية بدعم الأطراف المتخاصمة في الصراعات الداخلية باعتبارها إحدى أدوات السياسة العالمية. لذلك، فإن خطر اندلاع حروب بالوكالة داخل منطقة العالم العربي الذي لا يزال قائما، يُنذر بعواقب وتبعات مباشرة على الأزمات المشتعلة داخل المنطقة.
رابعًا، تفاقم أزمة اللاجئين داخل أنحاء القارة الأوروبية بسبب حرب أوكرانيا وهو ما قد يحمل تبعات على المنطقة العربية في حال ما قررت أوروبا وضع حد لتدفق المهاجرين من خلال إحكام السيطرة على الحدود أو ترحيل اللاجئين الوافدين وهو سيناريو لا يُستبعد حدوثه.
أخيرًا، أعادت الأزمة الأوكرانية تركيز الاهتمام الدولي بأسواق الطاقة العالمية، والتأكيد مرة أخرى على المكانة الرئيسية الاستراتيجية التي تتبوؤها منطقة الشرق الأوسط بالأخص منطقة الخليج حينما يتعلق الأمر بمستقبل أسواق الطاقة واستقرار الأسعار. بالتالي، سيستمر السباق العالمي على موارد المنطقة أو بالأحرى سيشهد مرحلة جديدة، لاسيما بعد أن أدى اختلاف وجهات النظر بين واشنطن والرياض حول السياسات الإنتاجية الخاصة بتحالف "أوبك بلس" النفطي إلى حالة من عدم الوفاق بين الجانبين ألقت بظلالها على العلاقات السياسية بين البلدين. ويتسنى هنا القول بأن أحد الدوافع الرئيسية الُمحركة لمضي الصين قدمًا في جهود الوساطة من أجل حدوث انفراجة في العلاقات السعودية-الإيرانية، كان القلق بشأن أمن الطاقة والحرص على استمرار تدفق إمدادات آمنة من صادرات الطاقة الخليجية، والتي تُمثل عاملًا حيويًا من أجل عملية التعافي الاقتصادي التي تشهدها بكين في أعقاب فترة الإغلاق التي صاحبت أزمة تفشي الوباء (كوفيد-19).
الطريق نحو مزيد من العمل العربي الموحد
في ظل هذا الكم الهائل من التحديات والتغيرات الجمة التي يُعايشها العالم العربي، فلابد حتمًا من بلورة عملًا عربيًا مشتركًا قادرًا على مخاطبتها بشكل فعال. ويكمن ذلك في اتخاذ عدة خطوات تقود إلى تدعيم دور المنظمات الإقليمية، والتشجيع على بناء قدر أكبر من الثقة والتعاون بين الدول العربية، والانخراط في دبلوماسية متعددة الأطراف، إلى جانب مخاطبة التحديات الداخلية المرتبطة بقضايا الحوكمة، والنمو الاقتصادي، والقضايا الاجتماعية والثقافية. بما يشمل ذلك؛ إصلاح بنية المنظمات الإقليمية الراسخة أولًا ثم التركيز على تعزيز دورها، وحل الأزمات القائمة من خلال إعلاء قيمة الحوار وجهود المصالحة، وصياغة استراتيجيات موحدة، بالإضافة إلى العمل على زيادة وتحسين مستوى التعاون الاقتصادي والعسكري بين دول المنطقة، ورفع جودة التعليم، والحرص على التبادل الثقافي من أجل تسهيل استيعاب التنوع الثقافي.
الخطوة الأولى، يجب أن يكون العمل على إصلاح بنية وأوضاع المنظمات الإقليمية، من بينها جامعة الدول العربية، التي بلغت حدًا قد يمنعها من ممارسة دورها في تعزيز التعاون والتنسيق بين الدول العربية. من ثم، يتعين العمل على تقوية شوكة المنظمات الإقليمية بهدف تمكينها من تقديم معالجة أفضل للتحديات القائمة. يشمل ذلك أيضًا؛ تنفيذ إطار عمل مؤسسي أكثر صلابة ومتانة بحيث يخول لهذه المنظمات إمكانية تطبيق السياسات والبرامج التي يتم صياغتها، وإجراء إصلاحات في الهياكل التنظيمية بشكل عام، وإعلاء قيمة الشفافية والمساءلة، كما ينبغي النظر في وضع حدود فاصلة لدوائر السلطة وصنع القرار. في الوقت ذاته، تبرز الحاجة للتركيز على زيادة المشاركة العامة في عمليات صنع القرار، وقد يتسنى إمكانية تحقيق ذلك من خلال تفعيل المزيد من ممارسات الشفافية والانفتاح، والتشجيع على الحوار والنقاش المجتمعي، وإشراك منظمات المجتمع المدني وغيرها من الجهات المعنية وأصحاب المصلحة في الأنشطة التي تُجريها المنظمات.
ثانيًا، ينبغي التركيز على تسوية النزاعات القائمة والتي تعود أسباب كثير منها إلى جذور تاريخية وسياسية متأصلة بما يستلزم ضرورة إعلاء قيمة الحوار والمصالحة بين الدول العربية من أجل تجاوز الخلافات على أن يتواكب ذلك مع تكثيف الجهود الدبلوماسية بهدف إنهاء الصراعات التي لا تزال مشتعلة وسيادة الاستقرار والسلام في المنطقة. قد يتطلب الأمر أيضًا صياغة وتطوير استراتيجيات مشتركة من أجل مخاطبة التحديات الإقليمية والدولية تقوم على أساس مبدأ الاحترام والمنفعة المتبادلة مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار اختلاف المعطيات والأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية لكل دولة. كذلك ينبغي أن تكثف الدول العربية جهودها لتعزيز التعاون والتنسيق العسكري من أجل توفير استجابة أفضل للتحديات الأمنية الإقليمية. كما يمكن أن تساعد التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة وبرامج التدريب العسكري الأكثر فاعلية على رفع جودة القدرات العسكرية لدول المنطقة.
ثالثًا، ينبغي مواجهة التحديات الداخلية والعمل على تطوير التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة. وكما أُشير سلفًا، فإن قضايا مثل الفوارق الاقتصادية، وانعدام الاستقرار السياسي، والقلاقل الاجتماعية، تستوجب ضرورة إجراء إصلاحات داخل البنية الداخلية وتدعيم دور المؤسسات. كذلك فإن الاتفاقيات المشتركة التي يتم التوصل إليها بين دول المنطقة حول المعايير الأساسية ومنظومة الإصلاحات المُلحة، ستكون بمثابة إشارة قوية تدعم شرعية الأنظمة القائمة. ويتسنى تحقيق الكثير مما سبق عبر تدعيم التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة من أجل بناء الثقة وإعلاء التكامل الإقليمي كما أن العمل على صياغة ميثاق جديد يجمع تحت مظلته دول مجلس التعاون الخليجي وسائر الدول العربية للتعاون من أجل تطوير الشراكات الاقتصادية وتعزيز التجارة الإقليمية سيكون له فائدة ملموسة. أخيرًا، يعتبر محور التعليم والتبادل الثقافي أداة مهمة في ترسيخ التفاهم وروح التسامح بين كافة دول المنطقة. من ثم، يتعين العمل على تعزيز تبادل البعثات التعليمية والثقافية بغية تسهيل سبل التبادل والحوار بين مختلف الأقطار العربية على نطاق أوسع. بشكل عام، ما يحتاجه العالم العربي هو عقد حوارًا مفتوحًا يتسم بالشفافية والوضوح بين كافة الأطراف للمشاركة في تحقيق تعاون جوهري على المستويات المؤسسية، والحكومية، والاجتماعية.
في هذا الصدد، تقدم دول مجلس التعاون الخليجي للعالم العربي نموذجًا يحتذى في كيفية إدارة ومعالجة التحديات التي تواجهها ليس فقط على صعيد السياسات الداخلية والاقتصادية بل وعلى نطاق الساحة الدولية. فبدلا من الاكتفاء بالوقوف موقف المتفرج لترى تبعات أفعال القوى الخارجية على أمنها القومي، أصبح لديها جاهزية واستعدادًا أكبر للانخراط في المساعي السياسية، والاقتصادية، والدبلوماسية من أجل رسم ملامح البيئة الإقليمية والعالمية الراهنة. ويتضمن ذلك تركيز العمل على التنمية المحلية المدعومة باستمرار مساعي التنوع الاقتصادي باعتبارها جزءًا أصيلًا من عملية التحول الطاقي، إلى جانب جهود مكافحة التغير المناخي، وتعزيز الترابط التقني في سبيل بناء القدرات وضمان المستقبل الاقتصادي للمنطقة الخليجية. علاوة على ذلك، منحت دول مجلس التعاون الخليجي الأولوية لتفعيل سياسات خفض التصعيد في المنطقة نظرًا لأهمية الاستقرار الإقليمي في الدفع بمسار التنمية الاقتصادية الخليجية ويتضمن هذا العمل على تسوية الأزمة في اليمن، وإقامة علاقات سياسية مع إيران، وإعادة فتح القنوات الدبلوماسية مع سوريا وإعادة دمجها مع العالم العربي. وعلى مستوى كافة الجبهات المشار إليها، تعكس تجربة دول مجلس التعاون الخليجي كيف يمكن أن يكون السبيل للمضي قدمًا.
الرؤى الأوروبية حول العمل العربي المشترك ومستقبله
يتمتع الاتحاد الأوروبي بإمكانية الاضطلاع بدور محوري في تدعيم المزيد من السياسات العربية الموحدة وعمليات الإصلاح المطلوبة على مستوى السياسات الداخلية والمستوى المؤسسي الأوسع نطاقًا. ونظرًا لقرب موقعها الجغرافي، تنخرط القارة الأوروبية انخراطًا عميقًا وتتأثر بشكل كبير بالأحداث والتطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط الأكبر. فضلًا عن أن سياسة الجوار الأوروبية تشمل 9 دولة عربية من إجمالي 22 دولة وهي: الجزائر، ومصر، وليبيا، والأردن، ولبنان، والمغرب، والأراضي الفلسطينية، وتونس، وسوريا. وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، فقد دخل التعاون الثنائي بين الجانبين منذ أن تم التوقيع على اتفاقية التعاون الأوروبية / الخليجية المشتركة في عام 1989م، وتم تتويج هذا التعاون مؤخرًا من خلال وثيقة الشراكة الاستراتيجية مع الخليج" التي أصدرها الاتحاد الأوروبي في مايو 2022م، والتي تقر بأهمية الجوار الخليجي لأوروبا كواحدة من أكثر المناطق ديناميكية، وباعتبارها بوابة مهمة بين قارة أوروبا، وآسيا، وإفريقيا"، كما أكدت الوثيقة عزم وإصرار أوروبا على "المشاركة مع دول الخليج وإعادة إحياء سبل التعاون بين الجانبين من خلال شراكة استراتيجية قوية وأطر عمل مؤسسي ثنائية متينة".
من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي يمتلك من الأدوات ما يمكنه من تقديم دعم للمنطقة العربية في مواجهة قائمة التحديات المُشار إليها سواء من خلال المساعدة التقنية والمالية اللازمة من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية، أو عبر تدعيمه منظومة الإصلاحات السياسية والاجتماعية، أو المشاركة في جهود دبلوماسية تستهدف التوصل إلى تسوية للنزاعات القائمة فضلًا عن التعاون بشأن أزمة التغير المناخي والقضايا البيئية، وتقديم مساعدات إنسانية ودعم اللاجئين والنازحين. مع ذلك، قد يقف الاتحاد الأوروبي مكتوف الأيدي بسبب عدة عوامل معوقة من بينها: الشقاق الداخلي بين دول الاتحاد بشأن أجندة الأولويات الرئيسية التي ينبغي العمل عليها في الجوار الأوروبي. ويتجلى ذلك من خلال تباين سياسات إيطاليا وفرنسا حيال ليبيا، والعلاقات التاريخية المعقدة بين فرنسا والجزائر، وبين إسبانيا والمغرب، إلى جانب تضارب المواقف الأوروبية بشأن قضية اللاجئين. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الاتحاد الأوروبي عاجزًا عن خوض غمار منافسة حقيقة أمام النفوذ الأمريكي، والروسي، والصيني داخل المنطقة. بشكل عام، يمكن المجادلة بأن القارة العجوز بدأت تخسر نفوذها داخل جوارها العربي.
ومن أجل مجابهة هذه التحديات، تحتاج أوروبا إلى إجراء تعديل جذري فيما يتعلق بموقفها وروابطها مع دول منطقة الشرق الأوسط من خلال اتخاذ عدة خطوات. أولها، إعادة التركيز على نقاط القوة الأوروبية التي تكمن بشكل أساسي في المجال الاقتصادي بما في ذلك الاستثمار الشامل في البنية التحتية، والعمل على تحسين نفاذ اقتصادات العالم العربي إلى السوق الأوروبية الموحدة. ويشمل هذا أيضًا توقيع شراكات أكثر فاعلية عندما يتعلق الأمر بالتحول الأخضر وانخراطًا أعمق في الصفقة الأوروبية الخضراء. كما ينبغي أن يمتد هذا التعاون إلى قطاع الأعمال والقطاع العلمي وأن يشمل الجوانب الإقليمية لتعزيز التكامل الإقليمي. ما يتطلبه الأمر أيضًا هو تنسيق أوروبي عربي أوثق بشأن تبادل البعثات التعليمية وتنقل العمالة خاصة على مستوى المجتمع المدني حيث يتسنى الاستفادة بشكل مباشر من تبادل الوفود مع المؤسسات والخبرات الأوروبية.
كما تستدعي الحاجة إلى تحسين أداء العمل العربي المشترك، وضع برامج منظمة من أجل الاستفادة من التجربة الأوروبية في عملية التكامل والاندماج، من حيث العمليات الأساسية القائمة التي تسمح لتجربة التكامل الأوروبي أن تنمو وتزدهر، وكيفية تجاوز تحديات الماضي، إلى جانب التوصل لفهم أفضل للقضايا الراهنة التي حالت دون حدوث مزيد من التكامل والاندماج. ويمكن أن تكون نقطة البداية مع الصندوق التنظيمي الأوروبي الذي يُتيح نموذجًا جيدًا للاستفادة من حيث آليات عمله على صعيد مجالات البحث والابتكار، والتكنولوجيا الرقمية، وتنمية المشروعات الصغيرة، وتوفير فرص العمل، والإدارة المستدامة للمصادر الطبيعية. كما يمكن أن يخدم كخطوة أولية في المسار الأوروبي من أجل استعادة القارة العجوز طابعها النموذجي من حيث تطوير وتعزيز تجربة التكامل الإقليمي.