تعتبر القضايا المُدرجة في التقرير السنوي لمنتدى التعاون الاقتصادي حول "المخاطر العالمية" لعام 2023م، نسخة كربونية من التقارير الصادرة عن الاتحاد الأوروبي حول المخاطر المحدقة بالمشهد العالمي كما تراها بروكسل. حيث يظهر العديد من هذه القضايا بشكل بارز على جدول أعمال مسؤولي السياسة الأوروبية ودوائر صنع القرار الأوروبي بما في ذلك: التعافي الاقتصادي، والحاجة إلى جهد عالمي منسق لمعالجة أزمة التغير المناخي، وتزايد ظاهرة الاستقطاب المجتمعي، وتفاوت الفجوة بين الطبقات، فضلاً عن المخاوف المحيطة بالتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، وضرورة مخاطبة العديد من الأزمات السياسية والأمنية في أجزاء مختلفة حول العالم. بالتالي، فإن السؤال الآن لا يتعلق بماهية التهديدات والمخاطر "المرصودة على الرادار الأوروبي"، بل إذا من الممكن أن تتوصل أوروبا، سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو الدول الأعضاء فيه، إلى اتفاق بشأن آلية عمل مشتركة يناط بها مخاطبة التهديدات التي لا تزال قائمة وتلك الناشئة.
على مستوى الداخل الأوروبي، تولي كل دولة اهتمامًا أكبر بالقضايا قصيرة الأمد تحت ضغط الجدول الزمني المعتاد للانتخابات، وتناحر الأحزاب السياسية من أجل كسب أصوات الناخبين من خلال تقديم وعود بحلول سريعة. وهو ما يتسبب بدوره في تعقيد جهود التوصل إلى حلول ملائمة عبر فترة زمنية ممتدة. في أثناء ذلك، يتسنى للاتحاد الأوروبي إلقاء نظرة أشمل على القضايا الاستراتيجية القائمة والناشئة حديثًا التي من المحتمل أن يكون لها تأثير على دول القارة على مدى العقود المقبلة. وفي حين قد لا يعني هذا بالضرورة امتثال حكومة كل دولة للتوصيات التي تصدر عن المؤسسات الأوروبية حول السياسة المتطلبة اليوم من تجنب أو التخفيف من وطأة أزمات الغد، لكنها تتيح أداة لبلورة نهج أكثر تنظيمًا. من ثم، يمكن المجادلة بأن أوروبا تفضل استشراف المستقبل بما يسهم في حد ذاته في منح الاتحاد الأوروبي القدرة، ولو نظريًا، للتصرف بحكمة وبصيرة.
بطبيعة الحال، تكافح أوروبا من أجل تحقيق الإجماع اللازم لاتخاذ تحرك ذي تأثير على الأرض نتيجة عدة عوامل معاكسة؛ يتمثل الأول في الكم الهائل من القضايا التي تطرح نفسها. وهو ما عبرت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين في خطابها بشأن " حالة أوروبا "في عام 2021م، بأنه" يصبح من الصعب أحيانًا استيعاب سرعة الأحداث المتلاحقة وضخامة التحديات المفروضة". ثانيًا، أن هناك قضايا تفرض نفسها يومًا تلو الأخر بشكل مفاجئ وتستلزم اهتمامًا واستجابة فورية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك؛ أزمة تفشي جائحة كوفيد 19 والغزو الروسي لأوكرانيا، حيث شكلت الأزمتين تحديًا غير مسبوق لقدرة الاتحاد الأوروبي وميزانيات الدول الأوروبية على الاستجابة اقتصاديًا، كما أدت إلى صرف الانتباه عن القضايا المُلحة الأخرى. كذلك من المتوقع أن تترك التحولات الجيوسياسية الجذرية الناتجة عن الأزمة الأوكرانية أثرًا ملحوظًا في مجالات أخرى على مدى الأعوام المقبلة.
المخاطر
بشكل عام، تتمثل التحديات الرئيسية التي تواجه أوروبا على المديين من المتوسط إلى البعيد ما يلي:
- التحديات الديموغرافية: تشهد معدلات الشيخوخة نموًا مطردًا داخل أنحاء القارة الأوروبية في مقابل انخفاض نسب المواليد وارتفاع متوسط الأعمار المتوقع، بما قد يؤدي إلى اختلال ميزان القوى العاملة، وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية، وإثارة المخاوف بشأن الضمان الاجتماعي.
- التحديات الاقتصادية: أوضاع اقتصادية شاقة تواجه الاتحاد الأوروبي، في ظل معدلات النمو المنخفضة، وارتفاع مستوى الدين العام، وتزايد معدلات البطالة، فيما تمثل المنافسة الاقتصادية بين الدول الأعضاء مبعث قلق كبير.
- التحديات السياسية: على مدى العقود الماضية، واجه الاتحاد الأوروبي العديد من التحديات السياسية بما في ذلك خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي فيما يعرف بــ (بريكست)، وتزايد شعبية تيار اليمين، وغياب المساءلة داخل المؤسسات الأوروبية.
- التغير المناخي والتحديات البيئية: تواجه دول الاتحاد الأوروبي تحديات بيئية مرتبطة بالآثار المحتملة لأزمة التغير المناخي، ومحدودية الموارد، والتدهور البيئي.
- التحديات التقنية: تمثل الوتيرة المتسارعة لعملية التحول التكنولوجي تحديًا للاتحاد الأوروبي، في ظل ما يحيط بها من قضايا شائكة مثل حوكمة البيانات، والآثار المترتبة على التشغيل الآلي، وضرورة إدارة وتدبر التحول إلى الاقتصاد الرقمي.
- الهجرة: لا تزال تمثل قضية الهجرة تحديًا رئيسيًا للاتحاد الأوروبي وما تفرضه من تحديات تتعلق بكيفية إدارة الأعداد الكبيرة من المهاجرين، وإحكام السيطرة على الحدود، إلى جانب إشكالية الدمج.
- تحديات جيوسياسية: تتناقض الحرب الدائرة في أوكرانيا مع الشعار الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي بألا تصبح القارة ساحة للحروب مرة أخرى. بشكل عام، يتعرض الاتحاد الأوروبي لخطر متزايد بأن يتحول إلى ساحة لتناحرات القوى العالمية العظمى في ظل عالم تهُيمن عليه معطيات السياسة الجغرافية، حيث تعد أدوات القوة الناعمة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي غير كافية لدرء القوة الصلبة التي قد يعتمدها الآخرون. وحتى هذه اللحظة، لا يزال الاتحاد الأوروبي في حاجة لامتلاك القدرات اللازمة من أجل حماية القارة الأوروبية ومصالحه الأوسع.
بالتالي تتطلب كافة الأصعدة المُشار إليها، تحركات وجهودًا منسقة من أجل تقديم استجابة فاعلة على صعيد السياسات العامة. ونظرًا لتنوع واختلاف الآراء داخل الاتحاد الأوروبي، فقد يشكل هذا في حد ذاته اختبارًا مهمًا للكتلة الأوروبية. علاوة على ذلك، ثمة تحديات تنظيمية وهيكلية ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار مثل صعوبة فقدان التركيز على الاتجاهات بعيدة المدى، مقابل الحاجة الملحة للاستجابة للأزمات الراهنة. خاصة بعد أن تسببت أزمة كورونا، وضبابية المشهد الاقتصادي العالمي، إضافة إلى حرب روسيا وأوكرانيا، في الضغط على قدرة الدول الأوروبية على الاستجابة لمثل هذه الأزمات.
على الجبهة الاقتصادية، تتمثل الأولوية الرئيسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، في كيفية إدارة ملف التعافي الاقتصادي من خلال اتباع نهج متوازن ومتسق يجنبه حدوث تشرذم اقتصادي بما يهدد تماسك بنية الاتحاد. فقد بات واضحًا الآن أن صندوق الاستقرار والتعافي المعلن عنه بقيمة تقترب من 800 مليار يورو لم يعد كافيًا للتغلب على الاختلالات التي أخذت تتطور وتنمو على مدى عقود طويلة، بالتالي، أصبح هناك خطرًا متمثلًا في اتساع حالة الاستقطاب المجتمعي سواء داخل دول الاتحاد الأوروبي أو على مستوى الإطار الأوسع الذي يضم شمال أوروبا، وجنوبها، وشرقها.
على سبيل المثال، تؤثر أزمة غلاء المعيشة الراهنة على أوروبا بأكثر من طريقة. أولًا، تأثيرها على القوة الشرائية للمستهلكين، حيث أدى ارتفاع قيمة السلع والخدمات، إلى انخفاض دخل الأفراد وبالتالي تراجع زخم النشاط الاقتصادي وتباطؤ معدلات النمو. ثانيًا، التأثير على القدرة التنافسية للشركات العاملة داخل الاتحاد الأوروبي بعد أن تسبب ارتفاع الأجور، وزيادة أسعار المواد الخام وتكاليف التشغيل الأخرى، في معاناة الشركات من أجل الحفاظ على قدرتها التنافسية أمام مثيلاتها العاملة داخل مناطق ذات تكاليف تشغيل أقل. وهو ما يترتب عليه تقليص حجم استثماراتها وخفض نسب العمالة أو التوجه لنقل عملياتها إلى دول أخرى. ثالثًا، ثمة تأثير على مستوى المعيشة والرخاء الأوروبي بشكل عام، وينعكس ذلك بصورة أكبر على الطبقات والفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة. إذ يؤدي ارتفاع تكاليف السكن على سبيل المثال إلى تزايد انعدام المأوى وعدم توفير السكن للمواطنين، في حين يتسبب ارتفاع تكاليف الغذاء إلى انعدام الأمن الغذائي وارتفاع معدلات سوء التغذية. في الوقت ذاته، لايزال يلوح في الأفق شبح الاضطرابات السياسية، في ظل العديد من الإضرابات العمالية التي شهدتها مختلف الأنحاء الأوروبية للمطالبة بتحسين الأجور ووضع نظام ضمان اجتماعي أكثر إنصافًا، والتي قد تمثل المستوى الأول من ردود الأفعال المشهودة حتى الآن على أزمة غلاء المعيشة. ومن بين الأمثلة على ذلك، التظاهرات المتواصلة حاليًا ضد قانون التقاعد المقترح من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وتتمثل أحد القضايا السياسية الرئيسية الموازية لأزمة غلاء المعيشة الأوروبية، في كيفية الحفاظ على دعم ووحدة تجربة التكامل الأوروبي في ضوء التحديات السياسية والاقتصادية المتنامية وتجنب الانجراف صوب مزيد من السياسات القومية والشعبوية. وبرغم أن عضوية الاتحاد الأوروبي لاتزال تحظى حتى هذه اللحظة بدعم قوي في مختلف أنحاء القارة، إلا أن عملية التوصل لنهج أوحد يصلح لكافة الحلول السياسية التي ترضي غالبية المواطنين الأوروبيين، تثبت يومًا تلو الآخر مدى صعوبتها وتعقيدها. في حين لايزال هناك إقرارًا ضمنيًا بأن الدعم الشعبي للمشروع الأوروبي يعتبر عاملاً حاسمًا لكي يحظى بمستقبل مستدام.
تحدي آخر يهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي يتمثل في أزمة التغير المناخي التي أصبحت مع قضايا الاستدامة محاور رئيسية في النقاشات الأوروبية على صعيد السياسات الداخلية والخارجية. وفي حين يطمح الاتحاد الأوروبي إلى الريادة العالمية في مجال السياسات المناخية، يواجه التكتل انتقادات بسبب "نفاقه نوعًا ما" في مقاربة قضية التغير المناخي ومطالبه غير العادلة للدول النامية بحجة التخفيف من وطأة المخاطر المناخية. على سبيل المثال، يعتبر الاتحاد الأوروبي ثالث أكبر باعث لغازات الاحتباس الحراري على المستوى العالمي، كما يفوق نصيب الفرد من الانبعاثات داخل أوروبا مثيله في الدول النامية. لذلك لا تقتصر انعكاسات أزمة التغير المناخي على التحديات البيئية التي تفرضها على القارة العجوز وكشف مواطن الضعف الأوروبي، بل ربما تصل إلى حد تهديد الدور الريادي الأوروبي على الساحة العالمية.
على الصعيد الجيوسياسي، يعتبر الغزو الروسي لأوكرانيا بمثابة دعوة للاستيقاظ بعد أن تسبب في زعزعة استقرار البنية التأسيسية للجغرافيا السياسية الأوروبية. حيث لم يؤد الصراع الدائر إلى زعزعة استقرار منطقة شرق أوروبا فحسب، بل أفضى كذلك إلى زيادة ملحوظة في النشاط العسكري ونشر قوات ومعدات عسكرية من جانب روسيا وحلف شمال الأطلسي" ناتو" داخل المنطقة بما قد ينذر بمزيد من التصعيد وإثارة الشكوك في عودة الاستقرار مرة أخرى إلى العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على المدى البعيد. كما كشفت الحرب أيضًا أوجه قصور حاد فيما يتعلق بآليات التعاون والتنسيق الأوروبية لمواجهة التحديات الأمنية القائمة. فضلاً عن آثارها المدمرة على الصعيد الإنساني، بعد مقتل الآلاف ونزوح الملايين من ديارهم. وفي هذا السياق، سلط الصراع الروسي الأوكراني الضوء على أزمة الهجرة غير الشرعية التي لا تزال تقض مضاجع قادة أوروبا. فإلى جانب نزوح الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين الذين أتوا إلى أوروبا على مدى العامين الماضيين، أدى استمرار تدفق المهاجرين من دول منطقة الشرق الأوسط، وإفريقيا، وغرب آسيا، إلى مطالب من قبل المسؤولين الأوروبيين من أجل فرض تدابير أكثر حزمًا وصرامة مثل بناء السياج والجدران لوقف تيارات الهجرة.
الاستجابات
واستجابة منه للتحديات سالفة الذكر، عمد الاتحاد الأوروبي إلى تطوير مجموعة متنوعة من آليات العمل من أجل مخاطبة الأزمات الراهنة وتلك المتوقعة مستقبلاً. ويتمثل بعض من الأدوات الرئيسية التي تم تطويرها على الجبهة الاقتصادية كالآتي:
- آلية الاستقرار الأوروبي: وهو صندوق إنقاذ دائم تم تأسيسه من قبل الاتحاد الأوروبي بهدف مساعدة الدول الأعضاء التي تواجه أزمات. حيث ينوط به توفير مساعدات مالية للبلدان التي تواجه صعوبات اقتصادية أو مالية. في حين تُقدر سعة الصندوق الإجمالية على الإقراض بنحو 800 مليار يورو.
- آلية الاستقرار المالي الأوروبي: هي أداة تخدم في تقديم مساعدة مالية مؤقتة للدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي التي تمر بأزمات مالية حادة. ويعود تاريخ إنشاء الصندوق إلى حقبة الأزمة المالية العالمية ما بين عامي 2008 إلى 2009م، ويتم تمويله من خلال ميزانية الاتحاد الأوروبي.
- الاتحاد النقدي الأوروبي: وهو إطار عمل يسمح للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتبني عملة موحدة "اليورو". كما يُتيح إطار عمل مؤسسي من أجل تنفيذ سياسات نقدية موحدة وضمان الاستقرار والنمو بمنطقة اليورو.
- النظام الأوروبي للإشراف المالي: وهو عبارة عن مجموعة من الكيانات والهيئات التنظيمية التي تم إنشاؤها بغرض مراقبة وتنظيم آليات عمل القطاع المالي بالاتحاد الأوروبي. ويتألف من المجلس الأوروبي للمخاطر النظامية، والهيئة المصرفية الأوروبية، وهيئة التأمين والمعاشات المهنية الأوروبية، وهيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية.
- الصندوق الأوروبي للاستثمارات الاستراتيجية: تم إنشاؤه بهدف دعم والترويج للاستثمار في القطاعات الرئيسية بالاقتصاد مثل مجال البنية التحتية، والأبحاث، والابتكار، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة. كما يهدف الصندوق إلى معالجة أزمة عجز الاستثمارات خلال الأزمات المالية، وتقدر الميزانية الخاصة به بنحو 26 مليار يورو.
- صندوق التضامن الأوروبي: أنشئ الصندوق عام 2002م، من أجل توفير استجابة للكوارث الطبيعية الكبرى والتعبير عن "التضامن الأوروبي مع المناطق المنكوبة داخل القارة". وفي أبريل من عام 2020م، أي في أعقاب اندلاع جائحة كوفيد-19، تم توسيع نطاق الخدمات التي يقدمها الصندوق لتشمل الاستجابة لحالات الطوارئ الرئيسية في مجال الصحة العامة.
يواصل الاتحاد الأوروبي أيضًا العمل على تطوير آليات جديدة على صعيد السياسات العامة من أجل مخاطبة التحديات الطارئة، والاستجابة للأزمات، وتعزيز القدرة على الصمود أمام المخاطر المستقبلية. على سبيل المثال، تم تدشين آلية الحماية المدنية في الاتحاد الأوروبي باعتبارها ترتيب متكامل من أجل الاستجابة للأزمات السياسية الكبرى عبر تدعيم اتخاذ رد فعل سريع ومنسق من قبل المؤسسات المعنية مثل المؤسسات الأوروبية، والدول الأعضاء المتضررة، إلى جانب اللاعبين الرئيسيين الآخرين. وقد تم تفعيل هذه الآلية في الاستجابة سواء لأزمة الهجرة أو تفشي الوباء.
على الجبهة الجيوسياسية، يعتمد الاتحاد الأوروبي على مجموعة من آليات الاستجابة؛ في طليعتها قنوات الدبلوماسية والحوار التي تشكل عناصر أساسية في انخراط وتواصل الاتحاد الأوروبي مع الدول والمناطق الأخرى حول العالم من أجل مخاطبة القضايا السياسية والاستراتيجية. إلا أن هذه الأدوات تحمل أوجه قصور خاصة بها، حيث أن اعتماد الدبلوماسية في ظل غياب القوى العسكرية قلما ما يحرز نجاحًا كبيرًا. لذلك يزداد التزام الاتحاد الأوروبي بمبدأ التعددية والعمل مع المنظمات والشركاء الدوليين لمعالجة التحديات العالمية. بما يشمل ذلك الاضطلاع بدور نشط داخل منظمة الأمم المتحدة، وأن يكون مساهمًا رئيسيًا في المساعدات التنموية، وأخذ زمام المبادرة في قضايا مثل التغير المناخي من خلال اتفاق باريس حول المناخ وبصفته قوة اقتصادية كبرى، يعتمد الاتحاد الأوروبي على تطويع الأدوات الاقتصادية المتاحة في جعبته لإدارة التحديات الجيوسياسية. ويعد من أحدث الأمثلة على ذلك، قراره بفرض حزم متعددة من العقوبات ضد روسيا في أعقاب غزوها لأوكرانيا
كما يستثمر الاتحاد الأوروبي في مجال الابتكار التقني من أجل الحفاظ على قدرته التنافسية ومخاطبة التحديات الجيوسياسية المرتبطة بالأمن السيبراني والتكنولوجيا الصاعدة. على سبيل المثال، أطلقت المفوضية الأوروبية في عام 2016م، خطة تطوير شبكة الجيل الخامس على مستوى الاتحاد الأوروبي من أجل تدعيم التواصل والأمن. وفي خلال العام ذاته، تبنى الاتحاد الأوروبي التوجيه الخاص بأمن الشبكات وأنظمة المعلومات، وهو أول إجراء تشريعي من نوعه على مستوى الكتلة الأوروبية، يهدف إلى تعزيز التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن قضية الأمن السيبراني الحيوية.
الشق الأكثر تعقيدًا يتمثل في دور الاتحاد الأوروبي في الشؤون الدفاعية والأمنية. وهو ما دفعه لاتخاذ خطوات تستهدف تدعيم قدراته في هذا الصدد من بينها: إنشاء صندوق الدفاع الأوروبي وتدشين برنامج التعاون المنظم الدائم. ومع ذلك، جاء تأثير هذه الخطوات محدودًا، بل وكشفت استمرار اعتماد الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة بوصفها الشريك والضامن الرئيسي للأمن الأوروبي. ومن بين الخطوات المتخذة لتدعيم دور أوروبا الأمني، إصدار وثيقة "البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي في مارس 2022”، من أجل صياغة تحليل مشترك بشأن التهديدات المحتملة، وبلورة أهداف واضحة قابلة للتحقيق تخدم في تعزيز مكانة الاتحاد الأوروبي كعنصر فاعل في الأمن والدفاع، مع ذلك، تظل النتائج النهائية للوثيقة ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها المنشودة موضع شك. وبرغم إطلاق العديد من الدعوات المطالبة بزيادة استقلالية الاتحاد الأوروبي على الصعيد الاستراتيجي، إلا أن دوره كجهة فاعلة تتمتع بثقل كبير في الساحة الجيوسياسية العالمية، لا يزال محدودًا ومنقوصًا.
ثمة أمران آخران جديران بالذكر، أولًا أن مؤتمر مستقبل أوروبا الذي عقد في الفترة ما بين عامي 2021-2022م، جاء بمثابة مبادرة تهدف لمساعدة الاتحاد الأوروبي على تطوير استجابات سياسية أكثر شمولًا، عبر إشراك المواطنين الأوروبيين والمجتمع المدني في المناقشات حول مستقبل الاتحاد الأوروبي. ومن بين أهدافه أيضًا تطوير أفكار حول شكل المسار المستقبلي للاتحاد الأوروبي، وتعريف المجالات التي تحتاج العمل على رفع كفاءتها، وتحديد أجندة الأولويات الرئيسية. وقد ضم المؤتمر ممثلين عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والبرلمانات الوطنية، والمجتمع المدني، والشركاء الاجتماعيين من أجل مناقشة قضايا مثل تغير المناخ، والتحول الرقمي، وسيادة القانون. ومن المتوقع أن تُسهم النتائج النهائية المتمخضة عن المؤتمر في تحديث قائمة الأولويات، وتحديد المسار، ووضع رؤية لمستقبل الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تخدم كبوصلة إرشادية لدوائر صنع القرار بالاتحاد الأوروبي على مدى الأعوام المقبلة. وتعتبر في الوقت ذاته أداة جديدة طورها الاتحاد الأوروبي من أجل تعزيز سبل المساءلة الديمقراطية، وإعلاء الشفافية، وتدعيم شرعية الاتحاد الأوروبي في أعين مواطنيه.
علاوة على ذلك، ينخرط الاتحاد الأوروبي في عملية استشراف استراتيجية عبر اعتماد مجموعة واسعة من المبادرات التي تستهدف التبصر والاستعداد للسيناريوهات المستقبلية المحتملة، وتعريف المخاطر والفرص الممكنة إلى جانب تقديم توصيات قائمة على الأدلة إلى دوائر صنع القرار. لذلك يعتبر الاستشراف الاستراتيجي عنصرًا أساسيًا في التخطيط طويل الأمد للاتحاد الأوروبي وعملية صنع القرار. وهنا تحديدًا ، يضطلع مركز البحوث المشتركة التابع للمفوضية الأوروبية بمسؤولية تطوير وتنفيذ الأنشطة ذات الصلة تحت مظلة مشروع " الاستراتيجية الأوروبية ونظام تحليل السياسات"، والفحص الأفقي لرصد ومراقبة الاتجاهات الناشئة والتطورات التي يشهدها المجتمع، والتكنولوجيا ، والاقتصاد، والتي سيكون لها تأثير كبير في السياسات والبرامج الأوروبية؛ إلى جانب تدشين سياسة مشتركة تجمع بين أصحاب المصلحة من مختلف القطاعات للمشاركة في تقديم الحلول السياسية، بالإضافة إلى اعتماد تحليل تقني يركز على المستقبل من أجل تقييم التأثير المحتمل للتقنيات الجديدة والناشئة على سياسات واستراتيجيات الاتحاد الأوروبي.
الختام
يعد الاتحاد الأوروبي النموذج الأكثر نجاحًا من حيث تجربة التكامل الإقليمي، ومع ذلك فلايزال أمامه الكثير من العمل في سبيل اكتمال تلك التجربة. وفي ضوء الانتشار المذهل للابتكار التقني، وتصاعد المنافسة على صعيد الجغرافيا السياسية والاقتصادية بين دول الاتحاد من ناحية، والتفاعل بين نظام قائم على العولمة وإنشاء آخر متعدد الأطراف يناط به مخاطبة التهديدات العالمية من ناحية أخرى، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في مواجهة التحدي الأكبر عن أي وقت مضى من أجل استنباط وتقديم آليات استجابة سياسية على مستوى الحدث. وقد أدت أزمة جائحة كوفيد 19 وغزو روسيا لأوكرانيا إلى شعور متجدد بالهدف لدى الاتحاد الأوروبي أثمر عن طرح عدد من المبادرات التي ترسخ قدرته على الاستجابة عندما يتطلب الأمر ذلك. وبالتالي يكمن الحل في استنساخ الشعور ذاته بالهدف لدى النظام الدولي الأوسع وتجنب المزيد من الانقسام بين ما يسمى بــ "الغرب والشرق" وكذلك بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها.