وافق البرلمان الأوروبي في 8 أبريل بأغلبية ساحقة على فرض حظر شامل وفوري على واردات النفط والوقود والفحم والغاز من روسيا. وفي 21 أبريل أكدت وزيرة الخزانة الأمريكية أن هذا الحظر قد يكون له تأثير سلبي ضئيل على روسيا لأنها بالرغم من تراجع كميات تصديرها فإن الأسعار التي تحصل عليها مقابل صادراتها قد ترتفع. أسوق هذا التناقض بين دول المعسكر الواحد لأنه يبين صعوبة رسم خارطة طريق اقتصادية وسياسية تكشف تداعيات الحرب الأوكرانية الروسية ومدى تأثيرها على الدول سواء المنخرطة فيها مباشرة أو مداورة وخاصة لأن 141 دولة أدانت الغزو الروسي بينما 33 دولة فقط وافقت على فرض عقوبات على روسيا، مما يؤكد أن مصالح الدول هي المحرك الفعلي على أرض الواقع العملي.
ومع ذلك فإنه من الثابت حتى الآن أن قطار العولمة الذي انطلق خلال العقود الماضية بقيادة قاطرة تكاد تكون أحادية وتشمل الولايات المتحدة ومعها أوروبا قد بدا ينحرف عن سكته، وهو ما بدا واضحًا خلال محنة كورونا حيث استأثرت الدول الغربية باللقاح لسكانها بينما أهملت قارات بأكملها وفي طليعتها إفريقيا وشعوبًا فقيرة في آسيا وأمريكا اللاتينية مما دفع تلك الأمم إلى البحث عن حماية تنقذها من الجائحة وعن شريك يضمن حقها في الاستقرار والتنمية وكانت الصين جاهزة لأن تلعب هذا الدور غالبًا.
ثم نشبت الحرب في أوكرانيا وكانت مصادر الطاقة والغذاء هي السلاح الحاسم في تلك الحرب. وبما أن دول الخليج هي الأغنى بهذه المصادر فقد كادت أن تتحول إلى خطوط تماس في معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل، فاختارت الحياد في مواجهة ضغوط الجهتين المتحاربتين. لقد تصرفت دول الخليج في مواجهة هذه الحرب غير المحسومة النتائج تحت شعار واحد وهو الدفاع عن مصالح شعوبها أولاً، ومن دون أن تغفل حقوق الشعوب الأخرى في الاستقرار والتنمية. وقد نجحت في تأكيد النأي بالنفس أو ما يمكن أن نسميه الحياد الإيجابي في بلوغ أهدافها بفضل قراراتها الحكيمة التي نجحت في السير داخل حقول مزروعة بالألغام دفاعًا عن مستقبل ساهمت وما تزال تساهم في صنعه.
أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى تعطيل التعافي الاقتصادي العالمي. وكان أحد أبرز الآثار العالمية هو تسارع أسعار الطاقة والغذاء ارتفاعًا، مما أثار مخاوف بشأن نوبات نقص الغذاء وزيادة مخاطر سوء التغذية والاضطرابات الاجتماعية. وارتفعت أسعار الغذاء العالمية بنسبة 33.6 في المئة في مارس وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة.
وكبقية دول العالم لابد أن تكون للحرب الأوكرانية الروسية تداعيات على دول المجلس جميعها وذلك نظرًا لتشابك المصالح ولوجود علاقات تجارية واقتصادية متنوعة. فالقتال في أوكرانيا قد لا يشكل تهديدًا اقتصاديًا مباشرًا وقد لا يؤثر مباشرة على الاستقرار الإقليمي، إلا أن هناك العديد من الآثار الثانوية التي تشكل تهديدًا لمصالح هذه الدول نوجزها فيما يلي.
العقوبات الدولية المفروضة على روسيا وآثارها الاقتصادية
في ظل حالة الغموض التي تكتنف مسار الأزمة الأوكرانية، وعدم التأكد من نطاق وعمق العقوبات المستقبلية على روسيا، تتشكل تبعات جيوسياسية كبيرة على اقتصادات دول المنطقة. فما نشهده من ارتفاع حاد في أسعار النفط وزيادة أسعار السلع والمواد الغذائية والتضخم يؤكد بأن دول الخليج ليست بمنأى عن الحرب في أوكرانيا. ففي حين أنها بدأت تخطو نحو التعافي من جائحة كورونا إلا أن الحرب قد تؤثر سلبًا في عملية التعافي. فحالة عدم اليقين السائدة حول أمد الحرب ومدى فعالية العقوبات على روسيا وتبعات الإضرار بسلاسل الإمداد والتوريد حتمًا سيولد اضطرابات تجارية، وارتفاعًا في أسعار السلع الأساسية، ونقصًا قد يطول في إمدادات المواد الغذائية مع انعكاسات سلبية تهدد الأمن الغذائي والنمو والرفاه الاقتصادي.
من المؤكد أن تأثر أسواق الطاقة ترتب عليه تحسناً في أرصدة المالية العامة وميزان المدفوعات الخارجية لكافة الدول. ووفقًا لتقديرات بنك HSBC فإن كل زيادة في سعر النفط بمقدار 10 دولارات للبرميل ستضيف 65 مليار دولار إلى عائدات تصدير النفط لدول المجلس وسيؤدي وصول سعر النفط إلى 100 دولار للبرميل إلى فائض في الميزانية والحسابات الجارية بقيمة 10٪ و15٪ على التوالي من إجمالي الناتج المحلي لدولها. فانتعاش أسعار النفط والالتزام بترشيد الإنفاق يمكن أن يحقق فائضًا إجماليًا قدره 27 مليار دولار في 2022م، وهو الأول منذ عام 2014. وقد قدرت السعودية أنها ستحقق فائضًا قدره 24 مليار دولار في 2022م، أي ما يعادل 2.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بالعجز الذي نسبته 2.7% في العام المنصرم. وسجلت سلطنة عمان فائضاً في الميزانية بقيمة 546 مليون ريال في نهاية فبراير 2022م، مقارنة بعجز قدره 457 مليون ريال قبل عام.
وارتفاع أسعار النفط من المتوقع أيضًا أن يعزز معدلات النمو في دول المجلس وبمتوسط نمو إجمالي يصل إلى 5.9% بحيث تحقق السعودية نموًا قدره 6.3% والكويت 6.4% والإمارات 5.6% وكل من قطر وعمان والبحرين 4% هذا العام، وهي أسرع وتيرة منذ 2012م، حسب استطلاع لرويترز. كذلك من المتوقع أن يستمر النمو في الناتج غير النفطي بالرغم من التباطؤ في عام 2021م، بنسبة من 2-4 % في 2022-2023م، والذي من الممكن أن يحافظ على توقعات النمو لهذه الاقتصادات في حالة تباطؤ نمو الناتج النفطي بعد عام 2022م.
وقد يزيد الطلب على الغاز بسبب اهتمام الدول الأوروبية بتنويع مصادر إمداداتها من منتجات الطاقة وتكون قطر أبرز الرابحين بحيث تتوسع في قدراتها الإنتاجية مما يمكنها من تغطية بعضًا من مبيعات الغاز الروسي لأوروبا. كما قد تجد دول الخليج التي تتجه لتنفيذ مشاريع الطاقة الهيدروجينية الخضراء، مثل عُمان والسعودية والإمارات، أسواقًا واعدة في أوروبا الساعية إلى التقليل من مدخلات الهيدروجين الأخضر الروسي.
وفي حال واجهت صناعة الألمنيوم الروسية عقوبات، فإنه من المتوقع أن تبحث أوروبا عن خيارات أخرى مما قد يرفع أسعار شركة الإمارات للألمنيوم، وألمنيوم البحرين اللتين تصدران إلى أوروبا ما نسبته 22٪ و12٪ على التوالي، مما قد يدفعهما إلى توسيع قدراتهما الإنتاجية على المدى المتوسط.
وبالرغم من أن العلاقات التجارية لروسيا مع دول المجلس قد لا تكون كبيرة من حيث الحجم، إلا أنها تطورت في الفترة الأخيرة ونمت وتنوعت مجالاتها في الاقتصاد والتكنولوجيا المبتكرة والتمويل. وتعتبر روسيا دول المجلس مصدرًا مهمًا للاستثمارات لاقتصادها، خصوصًا في مشاريع البنية التحتية التي تقوم بها البلاد. ويتم توجيه معظم هذه الاستثمارات الخليجية من خلال صندوق الثروة السيادية للبلاد، RDIF. الذي ييسر العلاقات الاستثمارية لدول المجلس وفي نفس الوقت ينشئ صناديق مشتركة مع الشركات والكيانات المالية الأخرى في دول الخليج للاستثمار في مشاريع البنية التحتية داخل روسيا.
ومن بين الشركاء الرئيسيين لصندوق الاستثمار المباشر الروسي في دول المجلس شركة مبادلة للاستثمار الإماراتية، وجهاز قطر للاستثمار، وموانئ دبي العالمية، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، والهيئة العامة للاستثمار الكويتية، وأرامكو، وشركة ممتلكات البحرين القابضة. وتعد قطر من أكبر المستثمرين في روسيا دوليًا وإقليميًا، حيث تتجاوز استثماراتها أكثر من 13 مليار دولار. وتتوجه معظم استثمارات الإمارات في روسيا نحو تطوير برمجيات تكنولوجيا المعلومات لمراكز الأورام والأمومة الروسية، وتطوير العيادات الطبية وتمويل بناء مجمعات لوجستية. وتشارك موانئ دبي العالمية مع FESCO في تطوير مشاريع مشتركة مثل توسعة ميناء فلاديفوستوك التجاري، الذي يعد أكبر مشغل نقل في روسيا. وفي نفس الوقت استثمر صندوق الاستثمارات العامة في السعودية في العديد من مشاريع إعادة الإعمار في روسيا، بما في ذلك محطة الطاقة الكهرومائية، ومصنع البتروكيماويات، والبنية التحتية للنقل في سان بطرسبرغ.
وقد، بلغت قيمة تجارة روسيا مع دول المجلس 3 مليارات دولار سنويًا في عام 2016 و5 مليارات دولار في عام 2021 وتعتبر الإمارات التي وقعت مع روسيا شراكة استراتيجية في يونيو 2018، أقرب الدول علاقة مع روسيا فقد بلغ حجم التجارة بين روسيا والإمارات 3,769 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021بزيادة قدرها 86.03 % مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020م. وبالنسبة للسعودية، فقد بلغ حجم التجارة بينها وروسيا 1667 مليون دولار في عام 2019م، بزيادة 58.05 % مقارنة بعام 2018م.
التحديات والانعكاس السلبي على الاقتصاد
في حين أن المكاسب غير المتوقعة من ارتفاع أسعار النفط شكلت دعمًا إيجابيًا لميزانيات دول المجلس يمكنها من السير في تمويل مشاريع وخطط التنويع الاقتصادي إلا أنه على الجانب الآخر هناك تحديات عديدة تواجه اقتصاداتها أبرزها هو تبعات التضخم وتباطؤ الاقتصاد العالمي. فارتفاع أسعار الطاقة عالميًا سيترتب عليه ارتفاع في أسعار السلع المستوردة التي تحتاجها دول المجلس. فهذه الدول تستورد 85% من غذائها وسلعها الاستهلاكية وغيرها. وقد أشار استطلاع لرويترز إلى أن التضخم رغم تواضعه مقارنة بالعديد من البلدان الأخرى، إلا أنه من المتوقع أن يرتفع فوق 2٪ في 2022م، ويكون الأعلى في قطر بنسبة 3.5٪، والأدنى في السعودية بنسبة 2.5٪. ومن المتوقع أيضًا أن تواجه دول المجلس تراجعًا في عائدات صادراتها من الطاقة، نتيجة ضعف الطلب الناتج من التباطؤ الاقتصادي في الصين، والتي تعد أكبر مستوردي النفط والغاز في العالم.
ويشكل الضغط التصاعدي على أسعار الغذاء العالمية تحدياً في المنطقة، بالرغم من أن دول المجلس أقل الدول عرضة للاضطرابات وزيادة الأسعار الناجمة عن الأزمة. وتشير الأرقام المتوفرة إلى أن الإمارات وعُمان وقطر من أكبر مستوردي القمح من روسيا وأوكرانيا؛ حيث زادت حصة روسيا وأوكرانيا في السوق بما قيمته 91,2 مليون دولار إلى ما يقارب نصف إجمالي القمح الذي استوردته الإمارات وبقيمة بلغت 154 مليون دولار خلال الفترة من 2015 و2019م، وقد فتحت السعودية سوقها أمام القمح الروسي في عام 2020م، وزادت وارداتها لتعويض انخفاض الإنتاج في المملكة وضاعفت استيرادها سبع مرات في عام 2021م، إلا أن الإضرار بسلاسل التوريد يمكن أن تكون له تبعات على الأمن الغذائي في المنطقة على المدى الطويل رغم توفر مرافق تخزين الحبوب كما في الإمارات.
كذلك إن تراجع تدفقات رؤوس الأموال الخاصة وعزوف المستثمرين عن المخاطر نتيجة عدم اليقين وتراجع عوائد السياحة نتيجة تناقص عدد السياح يمكن أن تكون من التداعيات الاقتصادية. إلا أن التأثير الأبرز قد يأتي من التراجع الكبير في أصول الصناديق السيادية، خصوصًا بعد أن عمد العديد من الشركات الأوروبية إلى سحب استثماراتها في روسيا. ولم تتبع الصناديق الخليجية نفس الاتجاه لوجود المصالح المشتركة بينها وبين روسيا ليس فقط من خلال أوبك+1 ومنتدى الدول المصدرة للغاز بل من خلال العديد من العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية. فقد سعت روسيا مؤخرًا إلى بناء تعاون اقتصادي قوي مع دول المجلس من خلال جذب استثمارات واسعة النطاق من دوله. ففي عام 2019م، أصبح صندوق جهاز قطر للاستثمار، مساهمًا يمتلك حصة 19٪ في شركة النفط الروسية (روسنفت)، مع حصة بقيمة 500 مليون دولار في بنك VTB. وتمتلك 25 % في مطار بولكوفو في سان بطرسبرج. كما يعمل صندوق الاستثمار الروسي المباشر مع شركة "مبادلة " في الإمارات على عدد من المشاريع، بما في ذلك تطوير حقول النفط السيبيرية. وتعمل مؤسسة الدفاع الروسية روستيك مع وزارة الدفاع الإماراتية للاستثمار في تطوير الجيل الخامس من الطائرة المقاتلة سو-57. كما وقعت السعودية عقدًا مع شركة روس أوبورون إكسبورت لكي تنتج، محليًا، أنظمة قاذفات اللهب الثقيل التي يتم وضعها على الدبابة السوفييتية المقاتلة تي-72. وتمكنت شركة روساتوم الحكومية الروسية للطاقة النووية من الفوز بمناقصة في السعودية لإنشاء محطتي طاقة نووية يتم تغذيتها باليورانيوم المستخرج والمخصب في السعودية.
مما سبق يتضح أن لدول الخليج علاقات واستثمارات كبيرة في روسيا، من خلال الشراكة مع صندوق الاستثمار المباشر الروسي مما يعني أن العقوبات على الروس حتمًا ستؤثر على استثمارات الصناديق السيادية وأن الخسائر الاقتصادية في روسيا ستؤثر سلبًا على استثمارات دول المجلس أيضًا. وتشير بعض التقديرات المتوفرة إلى أن قيمة الأصول الروسية التي يحتفظ بها جهاز قطر للاستثمار في شركة روسنفت، انخفضت من 16 مليار دولار إلى 9.6 مليار دولار في الشهرين الأولين من عام 2022.
من المؤكد إن الحرب الأوكرانية أثرت على تدفقات المحافظ الاستثمارية في المنطقة والتي كانت قد سجلت رقمًا قياسيًا بلغ 2.8 مليار دولار في النصف الأول من عام 2021م، بينما تراجعت في النصف الثاني من العام إلى 1.2 مليار دولار ثم إلى 0.9 مليار دولار في الربع الأول من عام 2022م. مما يعكس بشكل رئيسي انخفاض الإصدارات من دول مجلس التعاون وحسب الأرقام الموجودة أصدرت الإمارات فقط 0.8 مليار دولار، في الأسواق الدولية في عام 2022م.
على الصعيد الآخر، من المتوقع أن تؤثر الحرب الروسية الأوكرانية على قطاع السياحة في دول المنطقة، فدبي وهي الوجهة المفضلة لـ 6٪ من السياح الروس، تستقبل سنويًا ما يتجاوز 600,000 سائح. ومع الانخفاض الكبير في السياحة الصينية بسبب قيود السفر المتعلقة بفيروس كورونا أصبحت روسيا مصدرًا مهما للسياح في دبي. لذلك من المرجح أن تسفر الحرب عن انخفاض في عدد الزوار الروس مما قد يؤثر على إيرادات السياحة التي كانت تقدر بما يقل قليلاً عن خُمس إجمالي ناتج دبي المحلي قبل جائحة كورونا (رويتر). وحيث أن السياح الروس يميلون إلى الإنفاق أكثر من نظرائهم الأوروبيين والمكوث لفترات طويلة، فإن الإنفاق السياحي لكل زائر روسي سينخفض خاصة إذا تدهور سعر صرف الروبل مقابل الدولار كما حدث في بداية الأزمة.
إلا أنه على الجانب الآخر تشير بعض التقارير إلى أن هناك أعداد كبيرة من الروس الأثرياء يعتبر دول المجلس ملاذًا آمنًا للاستثمار، وأن العديد منهم نقلوا استثماراتهم من الدول الأوروبية واستقر أغلبهم في دبي مما زاد الطلب على العقارات خصوصًا ذات الأسعار العالية.
الاستقطاب الدولي والخيارات المتاحة
أدت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم على مدى أكثر من عامين وأودت بحياة ما يزيد على 15 مليون نسمة، وما رافقها من حالات إغلاق شملت معظم الدول إلى إحداث ثغرات واسعة في سلاسل التوريد. ثم تداعت تطورات العملية العسكرية التي قامت بها موسكو في أوكرانيا وشملت بالأصالة وبالوكالة معظم الدول عسكريًا واقتصاديًا فانطلقت موجة واسعة من مراكز صنع القرار تحت عنوان تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بديلاً عن القطب الواحد الذي كانت تتزعمه الولايات المتحدة.
وهنا يطرح أكثر من سؤال في طليعتها ما مدى انعكاس الاستقطاب الدولي على منطقة الخليج لا سيما إذا لاحت في الأفق بوادر حرب باردة جديدة؟
أبرز ملامح الإجابة تكاد تختصرها عبارة واحدة وهي حروب الطاقة ولأن دول الخليج هي أبرز مصادر هذه الطاقة فإنها سوف تتأثر سلبًا وإيجابًا نتيجة هذه الحروب الناعمة. سلبًا في مواجهة ضغوط هائلة تفرضها واشنطن ومعظم حلفائها وإيجابًا في ارتفاع أسعار الطاقة وفي طليعتها النفط والغاز خاصة وأن الخبراء يتوقعون زيادة حصة أوبك + في أسواق الطاقة من 45% حاليًا إلى 57% في عام 2040م. مما يوفر لشعوبها قدرة على التأثير.
ما فعلته دول الخليج حتى الآن يندرج تحت القول ليس هناك صداقة دائمة وعداوة دائمة بل مصالح دائمة وترجمته في سلسلة من الأفعال على الأرض. عمليًا انضمت دول الخليج إلى 141 دولة رفضت المشاركة في فرض العقوبات على موسكو، ومن بين هذه الدول الصين والهند وإندونيسيا واختارت "الحياد الإيجابي" وعرضت رسالتها في الوصول إلى حل سلمي بين الفريقين بما يضمن الأمن والاستقرار العالميين نظرًا لأن مصالح دول المجلس تتوزع بين الطرفين في الحرب الباردة الجديدة كما وصفتها مجلة "الإيكونيميست"
كما أعادت الأزمة الأوكرانية الأهمية الاستراتيجية لدول الخليج وكشفت عن الخلاف بين دول المجلس والولايات المتحدة، حيث امتنعت الإمارات عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدين روسيا لغزوها، ورفضت السعودية إنتاج المزيد من النفط.
وفي الختام نورد بعض الملاحظات العامة التي يستحسن إدراكها:
- لقد ساهم ارتفاع أسعار الطاقة في تحقيق توازن لموازنات دول المجلس وقد يترتب عليه زيادة في الطلب خصوصًا على الغاز بسبب اهتمام الدول الأوروبية بتنويع مصادر إمداداتها من منتجات الطاقة مما يعني زيادة في العوائد وفائضًا في ميزان المدفوعات، إلا أن الضغوط التضخمية وارتفاع تكاليف الدعم لتغطية ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة قد يستنزف التوازن الذي تحقق في الموازنات. كما أن إطالة أمد الحرب والعقوبات الواسعة النطاق يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الاضطراب في التجارة والسياحة والتحويلات المالية مع نقص في تدفقات رأس المال مما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تراجع النمو.
- إن تراجع النمو العالمي وارتفاع معدلات التضخم واضطراب سلاسل التوريد والتغيرات في أسواق الطاقة والمواد الغذائية ستؤثر على النمو في المنطقة، وحيث أن جزءًا كبيرًا من الضغط على الأسعار يرجع إلى قوى خارجة عن سيطرة البنوك المركزية، فمن المهم أن توازن السياسة النقدية بين احتواء التضخم والحد من التأثير السلبي على نمو الإنتاج، مع الحفاظ على الجهود المبذولة لضمان تعافي القطاع غير النفطي وخاصة قطاع الخدمات، وتسريع الإصلاحات الهيكلية لتحسين القدرة على الصمود في عالم ما بعد الجائحة.
- إن تعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي وتنويع مصادر الإيرادات، وتعزيز نشاط القطاع الخاص، ستساهم في تحقيق التعافي المستدام والشامل. كما أن الجهود المستمرة لتعزيز استخدام التكنولوجيا والرقمنة يمكن أن تساعد في تعزيز الإصلاحات، وزيادة الإنتاجية، والمساعدة في تقديم الخدمات الحكومية وشبكات الأمان الاجتماعي بشكل أكثر فعالية.
في حين أن العلاقة مع الولايات المتحدة كانت وربما ما زالت تحتل المرتبة الأولى في اهتمامات دول الخليج عسكريًا واقتصاديًا وأمنيًا إلا أنها باتت موضع تساؤل وأبرزت الأزمة التباعد المتزايد وأظهرت أهمية تنويع العلاقات وإعادة ترتيب العلاقة مع واشنطن من خلال مقاربات وأطر أكثر وضوحًا.