الحرب الروسية ـ الأوكرانية التي اندلعت في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، لم تكن مفاجأة، بل بدأت إرهاصاتها منذ أن تولى الرئيس بوتين الحكم في روسيا، ثم تطورت الأحداث منذ 2014م، بعد أن ضمت روسيا جزيرة القرم وما تلا ذلك في شرق أوكرانيا عندما أعلنت لو هانسك ودونيتسك الاستقلال عن أوكرانيا، بل إن الولايات المتحدة كانت قد حددت موعد اندلاع هذه الحرب، وقد صدقت معلوماتها الاستخباراتية وإن كان الموعد تأخر عدة أيام فقط، بل إن أمريكا ودول الناتو يعلمون الأهمية الاستراتيجية الكبرى لأوكرانيا بالنسبة لروسيا ويدركون خطورة انضمامها للناتو ، ويعلمون رفض موسكو التام لمثل هذه الخطوة التي تجعل أمنها القومي في مرمى أسلحة الناتو ، ولذلك فإن أمريكا وشركاءها الأوروبيين تباطؤوا في ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ، أو للاتحاد الأوروبي عن عمد لأنهم يعلمون خطورة مثل هذه الخطوة التي ترفضها موسكو بقوة وأكتفت بتحذير موسكو التي كانت قد اتخذت قرارها بالحرب، وفي كل الأحول كان قرار بوتين متوقعًا، وكان رد الفعل الغربي متوقعًا أيضًا بالقدر نفسه ويتلخص الأخير في عدم مواجهة روسيا عسكريًا فهذه المواجهة مستبعدة لخطورتها لتسليح الجانبين بكافة الأسلحة المتطورة وفي مقدمتها السلاح النووي، وكان البديل هو استدراج روسيا إلى ملعب أوكرانيا ثم البدء في مسلسل فرض العقوبات على موسكو وتقديم المساعدات لأوكرانيا ضمن استراتيجية لحرب طويلة لاستنزاف روسيا وحصارها اقتصاديًا.
وجاء مسلسل الاستدراج الغربي لروسيا في مستنقع أوكرانيا لتقليم أظافر روسيا التي أخذت تمثل مخالب تنهش النفوذ الأمريكي خارج حدودها حيث خرجت إلى سوريا، وإلى إفريقيا، وإلى دول آسيا الوسطى، والتعاون عسكريًا مع تركيا العضو في الناتو، بل رسخت نفوذها داخل دول الاتحاد الأوروبي عبر بوابة الطاقة حيث أصبحت الدول الأوروبية تعتمد بشكل متزايد على الطاقة الروسية، وكذلك زيادة قيمة التبادل التجاري بين الجانبين ما جعل الولايات المتحدة تخشى تحلل التحالف مع دول الاتحاد الأوروبي وتصدع جبهة الناتو بعد تعاظم نفوذ روسيا في دوله، وكذلك أرادت واشنطن ضرب التقارب الروسي ــ الصيني وإرسال رسالة تهديد مبطنة للصين وتخفيض مستوى طموحها بعد إضعاف حليفها الأقوى وهو روسيا، ولكل هذه الأسباب مجتمعة وغيرها أرادت واشنطن استدراج روسيا إلى الحلبة الأوكرانية لضرب سلة عصافير كاملة بحجر واحد وكان لها ذلك تقريبًا حتى تظل متفردة بزعامة العالم، بل سعت لإحياء شراكات جديدة مع حلفاء قدامى مثل إعادة تسليح ألمانيا التي تعتبر حائط الصد الأوروبي في وجه روسيا الاتحادية، وكذلك تسعى لتسليح اليابان في وجه الصين وروسيا معًا، وإحياء الخلافات الروسية ــ اليابانية القديمة حول جزر الكوريل.
أعتقد أن ما تم ذكره وغيره ليس بعيدًا عما يدور في دهاليز السياسة الأمريكية خاصة بعد أن فقدت الولايات المتحدة الكثير من هيبتها بخروجها المذل من أفغانستان، وخروج حليفتها بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتبعات تشكيل تحالف (أوكوس) بين أستراليا، وأمريكا، والمملكة المتحدة والذي تم توقيعه في 15 سبتمبر 2021م، وبموجبه تخلت أستراليا عن شراء 12 غواصة فرنسية بقيمة 66 مليار دولار كان قد تم التوقيع عليها عام 2016م، واستبدلتها بالتعاقد على شراء 8 غواصات نووية أمريكية من طراز فرجينا مزودة بصواريخ كروز مما آثار غضب فرنسا وكادت هذه الأزمة أن تؤثر سلبًا على تماسك الناتو نفسه من الداخل خاصة أن فرنسا الغاضبة تتبنى بناء قوة أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي.
ومما سبق يتضح أن أمريكا أرادت ترميم علاقتها بدول الاتحاد الأوروبي وأعضاء الناتو وتقليم أظافر روسيا ، وخفض توقعات الصين بتشكيل عالم متعدد القطبية، بينما تظل المنطقة العربية متضررة بصورة واضحة باعتبار أن بعض دولها مستهلكة للمنتجات الغذائية الروسية / الأوكرانية، والبعض الآخر يستفيد من التعاون مع روسيا والصين في مجالات كثيرة، و مع هذه التطورات، على الدول العربية إعادة قراءة المستقبل بطريقة أكثر برجماتية لتأمين الواردات والصادرات، واحتياجاتها من الغذاء والتسليح وغير ذلك، ومن الأهمية بمكان تفعيل قرارات التكامل العربي وإحياء الاتفاقيات الجماعية وتوطين الاستثمارات العربية خاصة في مجالي الزراعة والصناعة بما يعزز الاكتفاء الذاتي ويحقق أمن المنطقة بالاعتماد على النفس بقدر الإمكان وعدم الاستجابة لضغوط الاستقطاب، والتروي في اتخاذ مواقف حادة تجاه هذا المعسكر أو ذاك.