يتابع العالم بالكثير من القلق أزمة كبيرة بين الولايات المتحدة وروسيا تدور رحاها على الأرض في أوكرانيا وفي كواليس الدبلوماسية في مختلف المحافل. الأزمة في ظاهرها تتمحور حول إتهام روسيا للولايات المتحدة وحلفائها بمحاولة ضم أوكرانيا إلى حلف الأطلسي وهو الأمر الذي تعتبره روسيا تدخلاً غير مقبول في محيطها الإقليمي، وللتصدي لذلك فقد قامت بحشد أكثر من مائة ألف جندي على حدودها في المقابل فإن الولايات المتحدة تتهم روسيا بمحاولة غزو أوكرانيا أو ضم أجزاء كبيرة منها بالقوة ولذلك قامت بإرسال مساعدات عسكرية شحنات متعددة تشمل أسلحة متقدمة إلى أوكرانيا ووضعت بعض قواتها على الساحة الأوروبية في حالة تأهب وقامت بتصعيد سياسي غير مسبوق يذكرنا بفترة الحرب الباردة . لكن الحقيقة هي أن ما أعلنته روسيا والولايات المتحدة عن أسباب الأزمة إنما هي بمثابة الأعذار لتبرير التصعيد وليست الأسباب الحقيقية. فما هي خلفية الأزمة وتوقيتها؟ قبل أن نفصل في ذلك لا بد لنا من وقفة نذكر فيه بالاستراتيجية العامة للسياسة الروسية، ثم كيف يشكل ذلك خلفية الموقف الروسي في الأزمة القائمة ونقارن ذلك بالأهداف العامة للسياسة الأمريكية واسلوب مقاربتها لها، مع ذكر مواقف بعض الأطراف الفاعلة في الأزمة مثل الدول الأوروبية والصين ونختم بذكر بعض التطورات المتوقعة لتلك الأزمة وانعكاساتها على المنطقة.
أزمة العلاقات الأمريكية-الروسية:
إذا لم تكن أوكرانيا هي السبب الحقيقي في الأزمة بين عملاقي السياسة العالمية في فترة الحرب الباردة فما هي الأسباب وراء ذلك؟ الجواب بسهولة أنها عرض من أعراض أزمات وتطلعات كبيرة التقت في ذلك المكان والزمان لتشكل أزمة على درجة كبيرة من التعقيد لعل من أهم جذورها ما يلي:
ـــ التطلعات الروسية: الرؤية الروسية للسياسة العامة هي رؤية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومن الصعب الفصل بينهما، فالرجل يشكل دوره لما يرى أنها حاجة الأمة التي تتمحور حول أهمية وجود القيادة القوية في التراث السياسي الروسي، وبنفس الوقت فهو يعمل على صياغة السياسة العامة من منظوره الشخصي ومن تجربته الشخصية التي تشكلت من خلال حدثين كبيرين على الساحة الأوروبية وهما الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة.
بالنسبة للحرب العالمية الثانية فهي وإن كانت سابقة له لأنه ولد بعدها بسبع سنوات، لكن آثارها كانت حوله في كل مكان. فهو قد تعلم بأن أخاه الأكبر (فيكتور) قد مات بمرض الدفتيريا أثناء حصار الألمان لمدينة سانت بيترسبرغ (لينينغراد آنذاك)، كذلك فإن والده أصيب بجروح خطيرة في تلك الحرب، كما أن جده (والد أمه قتل في الحرب) بالإضافة إلى عمه الذي فقد وهو يقاتل في الجبهة الشرقية. لابد لهذه الأحداث بالإضافة إلى الجروح العميقة التي تركتها الحرب في نفوس الروس عامة وأبناء المدينة خاصة بسبب الدمار والهلاك في مدينة مات ثلث سكانها أثناء الحصار (800 ألف وفاة من أصل 2.5 مليون نسمة عدد سكان المدينة) أغلبهم بسبب الجوع والمرض.
أما الحادثة الثانية ولعلها الأهم، كما يذكر الرئيس بوتين, فهي تعود إلى أيام الحرب الباردة عندما كان يعمل ضابطًا في المخابرات السوفيتية (كي جي بي) حيث وصل إلى مرتبة مسؤول مكتبها في مدينة (دريسدن) في ألمانيا الشرقية آنذاك وهو مكتب مهم في العلاقات بين المخابرات السوفيتية والألمانية الشرقية (ستازي) ولأن ذلك المكتب كان يدير العلاقة مع المنظمة الإرهابية التي كانت تعرف باسم (جناح الجيش الأحمر) أو (بادر ماينهوف) وهي منظمة إرهابية يسارية تأسست في ألمانيا الغربية وقامت بالعديد من العمليات في الفترة بين 1971-1993م، منها العديد في دول أوروبية أخرى مثل فرنسا والسويد وهولندا بالإضافة إلى ألمانيا الغربية والتي وصلت ذروتها في عام 1977م، وسميت "خريف ألمانيا". كما وأنه صرح بشعوره بالمذلة عندما سقط جدار برلين وأفل نفوذ الاتحاد السوفيتي الذي تقطعت أوصاله إربًا وعادت روسيا لتصبح مجرد قوة إقليمية لا غير. هذه الفترة يعتبرها الرئيس بوتين أسوأ فترة في حياته كما وأنه يعتبر تفكيك الاتحاد السوفيتي أكبر جريمة في العصر الحديث، ولذلك فإن رسالته هي تصحيح ذلك الخطأ وإعادة الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي إلى الحاضنة الروسية.
الدوافع الروسية وراء التصعيد:
الرئيس بوتين يعتقد أنه أمام فرصة تاريخية لتحقيق حلمه الكبير في إعادة مكانة روسيا في الريادة العالمية التي افتقدتها بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وذلك من خلال التصدي للقيادة الأمريكية المنفردة في زعامة العالم والعودة إلى مرحلة الحرب الباردة التي تقاسمت فيها روسيا (التي كانت تقود المعسكر الشيوعي من خلال الاتحاد السوفيتي) الريادة العالمية مع الولايات المتحدة. ولعل أهم الأسباب التي تدفع بالرئيس الروسي إلى الاعتقاد بضعف الموقف الأمريكي ما يلي:
- الرئيس الروسي وصل إلى قناعة بأن القيادة الأمريكية هشة وهزيلة أكثر مما يبدو من الخارج وقد جرب ذلك في مرحلتي الانتخابات السابقتين من خلال نجاحه في التأثير على الحملة الانتخابية قبل ست سنوات للحيلولة دون وصول هيلاري كلينتون التي يعتبرها مناكفة له والتي كانت المرشحة المتقدمة في الحملة الانتخابية حيث تمكن من قلب الكفة لصالح مرشحه المفضل دونالد ترامب والذي لم يكن يتوقع أحد من داخل المؤسسة الحاكمة فوزه بالرئاسة، كما وأنه استطاع أن يستغل فترة حكم ترامب في تحقيق مكاسب جيوسياسية كبيرة من أهما تركيز سيطرته على منطقة القرم والاعتراف الأمريكي بالدور الروسي في تلك المنطقة وكذلك الشرق الأوسط وخصوصًا سوريا التي اعتبر ترامب روسيا شريكة في ما يسمى بالحرب على الإرهاب. كما وأن هشاشة النظام الأمريكي قد تجلت في عدة مواقف منها الانتخابات الأخيرة وما شابها من مشكلات عمقت الانقسام الداخلي ووصلت إلى ذروتها في الهجوم الذي تعرض له الكونغرس من قبل الغوغاء أثناء جلسة المصادقة على فوز بايدن بالرئاسة ورفض الرئيس السابق الاعتراف بتلك النتائج. هذه التداعيات ما زالت تتوالى وهي تظهر للعالم أن النظام الأمريكي ليس بالقوة التي كان عليها.
- عوامل الضعف في الموقف الأمريكي تشمل المواقف على الساحة العالمية ومن ذلك تصريحات الرئيس السابق ترامب التي انتقد فيها حلفاء الولايات المتحدة وهدد في العديد من المرات بسحب التواجد العسكري الأمريكي من مناطق عديدة منها الشرق الأوسط وحتى أوروبا وحلف الأطلسي، وهذه بالطبع لم يجرؤ عليها أحد من قبل. لم تكن تصريحات الرئيس السابق هي المؤشر الوحيد لكن ضعف ردة فعل المؤسسات الأخرى وفي مقدمتها الكونغرس والمؤسسات الأمنية على مواقف الرئيس ربما كانت المؤشر الأكبر على حالة الموقف الأمريكي. هذه المواقف أوصلت حلفاء الولايات المتحدة إلى التساؤل عن مدى قدرتهم في الاعتماد على الحليف الأمريكي، ولذلك فقد تعالت صيحات في مناطق الشرق الأوسط وأوروبا لإعادة النظر في المنظومات الأمنية الإقليمية وكان من آخرها دعوة فرنسا الاتحاد الأوروبي إلى إدراج قضية الأمن الأوروبي في جدول أعمال القمة الأوروبية. بالطبع، لم تكن المواقف الانسحابية حكراً على إدارة ترامب فقد سبقتها إدارة أوباما التي هي الأخرى أعلنت عزمها إعادة النظر في التزاماتها الأمنية حول العالم ومن ذلك دعوة تلك الإدارة دول الخليج إلى حل مشكلاتها مع إيران وكذلك الرغبة في تركيز الجهود على منطقة المحيط الهادي بدلاً من المحيط الأطلسي أو ما عرفت آنذك بسياسة (Pivot to the Pacific).
- العامل الثالث هو ضعف الأداء الاقتصادي للولايات المتحدة، الذي بات ينوء تحت ضغوط أزمة الكوفيد-19 التي هوت به إلى مستويات تاريخية لم يشهد مثلها منذ الكساد الكبير الذي حصل في ثلاثينات القرن الماضي. بالطبع لا أحد ينكر الخطوات الكبيرة التي خطاها الاقتصاد الأمريكي على طريق التعافي من تلك الأزمة, لكن العلاجات التي استخدمت في مساعدة الاقتصاد على تجاوز الأزمة ومنها المحفزات الاقتصادية التي زادت من السيولة النقدية قد بدأت آثارها السلبية تظهر للعيان ومن أهم تلك الآثار مستويات التضخم الاقتصادي العالية التي لم تشهد الولايات المتحدة مثيلاً لها منذ عقود من الزمن، وليس من المعروف أن تكون الوسائل التقليدية التي يتعمدها البنك المركزي في السيطرة على مستويات التضخم والمتمثلة بالتحكم بسعر الفائدة قادرة على معالجة الأزمة وذلك بسبب المتغيرات الهيكلية التي دخلت على الاقتصاد ليس في أمريكا فسحب بل العالم. الأمر الذي يهمنا هنا هو ليس الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة، بل أن الأوضاع الاقتصادية تشكل العامل الأهم في السياسة العامة الأمريكية وتحديد أولوياتها لأن المقولة تقول بأن "الناخب الأمريكي يصوت لصالح جيبه"، ولذلك فإن الأوضاع الاقتصادية ربما تشكل العامل الأهم في الانتخابات النصفية الأمريكية التي قد تشهد عودة الحزب الجمهوري إلى قيادة الكونغرس وتعمق من حدة الانقسام المجتمعي وتزيد من الشلل السياسي في واشنطن.
الدوافع الأمريكية وراء التصعيد:
قفزت الإدارة الأمريكية على الأزمة بشكل كبير فاجأ العديد ليس من المراقبين فقط بل الدول الحليفة في أوروبا، ومنها أوكرانيا التي قامت بالتخفيف من حدة الموقف الأمريكي وتوقعاته. فما هي الدوافع وراء المواقف التصعيدية الأمريكية تجاه روسيا ومطامعها في أوكرانيا؟
- جاءت إدارة الرئيس بايدن بداية العام المنصرم وهي ترفع شعار إعادة تقوية العلاقات بين الولايات المتحدة وشركائها في العالم والسعي إلى تقوية العلاقة الأمنية مع حلف الأطلسي التي عانت من الإهمال أثناء فترة رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب. لذلك تسعى القيادة الأمريكية إلى استغلال التحركات الروسية تجاه أوكرانيا لإرسال رسائل تطمين إلى الحلفاء الغربيين الذين بدأت تساورهم الشكوك حول جدية الالتزامات الأمريكية تجاه الأمن الأوروبي وحلف الأطلسي. هذه الرسالة كانت واضحة في كلام وزير الدفاع الذي أشار في أكثر من مناسبة إلى أن غاية الولايات المتحدة هي ليست إرسال رسالة إلى بوتين بقدر ماهي إرسال رسالة إلى الحلفاء تعبر فيها عن التزامها بتحالفاتها لذلك فإن الأزمة في أوكرانيا أوجدت فرصة لإدارة بايدن لتحقيق تلك الغاية وبث روح جديدة في التعاون الأمني عبر الأطلسي.
- مما لا شك فيه بأنه ليس هناك مودة مفقودة بين الرئيس الروسي بوتين والحزب الديمقراطي الأمريكي الذي يتهم الأول بالتدخل في الشؤون الداخلية الأمريكية وبالتحديد الانتخابات الأمريكية لصالح غريمه الحزب الجمهوري، وذلك من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وشن حملات الدعاية ونشر التقارير الكاذبة حول المرشحين الديمقراطيين وحزبهم أثناء الانتخابات والتي ساهمت في إسقاط كلينتون وكادت أن تسقط بايدن في الانتخابات الأخيرة. لذلك فإن الرئيس ومن وراءه الحزب الديمقراطي يسعى إلى استغلال الفرصة للحد من أنشطة بوتين وإرسال رسالة قوية خصوصًا وأن البلاد مقبلة على انتخابات نصفية سوف تحدد الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ.
- الحملة ضد روسيا قد تشكل طوق نجاة للرئيس بايدن والحزب الديمقراطي لمواجهة واقع التدني الكبير لشعبية الرئيس في استطلاعات الرأي العام بسبب الأوضاع الاقتصادية وما يراه المواطن من تلكؤ الإدارة في الوفاء بالالتزامات التي قطعتها للناخبين والتي تعزوها الإدارة إلى حالة الانقسام الحاد في الكونغرس وتمرس الحزب الجمهوري وراء أجندة معارضة لكل ما يصدر من الإدارة الجديدة. لذلك فإن وجود عوامل التهديد الخارجي، خصوصاً إذا كان ذلك التهديد مصدره الغريم التقليدي الذي تمثله روسيا في ذهن المواطن الأمريكي قد يشكل مخرجًا من المشكلات الداخلية. كما وأن هذه الأوضاع قد تفرض على الكونغرس اتخاذ موقف موحد تجاه الأطماع الروسية لأنه لا أحد، وخصوصًا من الحزب الجمهوري، يمكن أن يواجه الناخبين وهو متهم باللين تجاه روسيا.
المواقف الدولية
اختلفت المواقف الدولية من الأزمة بحسب موقع تلك الدول وما يمكن أن تجنيه منها وما يهمنا هنا هو موقف الدول التي يمكن أن تؤثر في الأزمة تأثيرًا مباشرًا ومن أهما:
- موقف أوكرانيا جاء في ظاهره مترددا بعض الشيء حيث أعلن الرئيس الأوكراني زيلنسكي بأن الغزو الروسي ليس متوقعًا، وقد فسر المراقبون ذلك الموقف بأنه نابع من رغبة الرئيس وحكومته بعدم نشر الذعر في المجتمع ومحاولة احتواء الأزمة والتخفيف من حدة طبول الحرب التي بدأت تدق في واشنطن وموسكو وقد فسر البعض الآخر تلك التصريحات بأنها تقييم حقيقي للأوضاع لأن الخطر هو ليس الغزو المباشر وإنما ربما كان التهديد بالغزو هو للتمهيد لتطورات أخرى يعد لها في موسكو وما التهديد بالغزو إلا صرفًا للأنظار لكي تغفل عن الأهداف الحقيقة والتي قد تشمل إما الانقلاب السياسي أو تقسيم البلاد.
- الموقف الأوروبي: كان الموقف في القارة العجوز كعادته متشتتا ومتغايرا بين الدول، ففي حين كان الموقف البريطاني الأقرب إلى الموقف الأمريكي وداعمًا ومؤيدًا للخطوات الأمريكية، فإننا نجد على الطرف الموقف الألماني الذي كان الأكثر تردداً، ربما لأن ألمانيا التي استثمرت كثيرًا في تطوير علاقة تعاون مع روسيا ولأن التصعيد من شأنه أن يفقدها الكثير، ولذلك دعت إلى الوقوف مع أوكرانيا ولكن من دون توفير المعدات العسكرية الهجومية التي قدمتها واشنطن. فرنسا من جانبها حاولت الإمساك بالعصا من الوسط واتخذت موقفًا بين الموقفين البريطاني والألماني.
- موقف الصين: تعتبر الصين من أكثر الدول استفادة من التصعيد في أوكرانيا، ولذلك كان موقفها داعما للموقف الروسي وبقوة وعلى خلاف العادة المتبعة. كذلك عقد الرئيس الصيني لقاء قمة مع الرئيس الروسي بوتين عشية افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. وتأتي أهمية اللقاء، وهو الأول للرئيس الروسي منذ أكثر من عام، الذي يحاول إقامة شراكة روسية-صينية للتصدي لأية محاولة أمريكية لفرض عقوبات على روسيا خصوصًا في مجال النفط والغاز، حيث وقع الرئيسان اتفاقًا لزيادة صادرات الغاز الروسي للصين. وللصين فوائد أخرى حول الأزمة في أوكرانيا من أهمها أنها تشكل استنزافاً لأمريكا وروسيا وتصرف أنظار الولايات المتحدة عن الصين والمشكلات التي لازالت بين الطرفين، وللرد على ذلك فقد عقد رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي كريستوفر راي مؤتمرًا صحفيًا في خضم الأزمة مع روسيا، على غير عادته للتذكير بالخطر الذي تمثله الصين على مكانة الولايات المتحدة وجهودها المستمرة في التجسس على الشركات الأمريكية لسرقة المعلومات الخاصة التي تمنح تلك الشركات قدم سبق في العالم. كذلك فإن الأزمة من شأنها أن تشعر موسكو بالحاجة للصين وأهمية التقارب بينهم، لما لذلك التقارب من فوائد جمة للصين التي ترى بأن مستقبل روسيا هو في الحاضنة الصينية.
احتمالات تطور الموقف
ربما يكون احتمال دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا واجتياحها بصورة مباشرة غير وارد أو ضعيف، بسبب التداعيات التي قد تترتب على حدث بهذا الحجم، والرئيس بوتين يعلم بأن هذا الطريق ليس الأفضل لأنه قد يؤدي إلى قيام جبهة أوروبية-أمريكية أقوى مما كانت في السابق ويعيد الحياة إلى حلف الأطلسي ويدفع بباقي الدول الأوروبية إلى الانضمام إليه خوفًا من المصير الذي قد ينتظرها. لكن الذي يريده بوتين بلا شك استغلال التصعيد لتحقيق مكاسب جيوسياسية في الجبهة الأوروبية، ولعل من أهم القضايا التي يمكن أن يسعى لها هي:
- اعتراف الولايات المتحدة بالمصالح الأمنية الروسية في شرق أوروبا وخصوصا أوكرانيا. هذه الرغبة عبرت عنها الورقة المكتوبة التي تقدمت بها روسيا إلى الولايات المتحدة وحلفائها والتي أصرت أن يكون الرد عليها مكتوبًا والتي من أهمها الاتفاق على عدم ضم أوكرانيا إلى حلف الاطلسي والتي تشكل إعلانًا ضمنياً بالمصالح الروسية هناك.
- إعلان استقلال إقليم دونباس الذي يضم مقاطعتي لوهانسك ودونتسك في شرق أوكرانيا وعلى الحدود مع روسيا. وقد تعالت الصيحات في مجلس النواب الروسي (الدوما) مطالبة بالاعتراف باستقلال المقاطعتين. بالطبع لا يمكن تصور أن تكون النداءات القادمة من مجلس النواب الروسي عفوية أو بعيدة عن توجهات الحكومة ورئيسها بوتين.
- قيام نظام سياسي مقرب من موسكو في أوكرانيا: تسعى روسيا من خلال الأزمة للضغط على النظام السياسي في أوكرانيا لإفراز حكومة تكون أقرب إلى موسكو منها إلى دول أوروبا والولايات المتحدة، وذلك باستخدام أوراق عديدة منها التلويح بتقسيم البلاد وكذلك باستخدام ورقة اللاجئين الذين جاؤوا إلى روسيا البيضاء من دول المنطقة وخصوصًا العراق وسوريا والذين دفعت بهم الحكومة البيلاروسية إلى الحدود الأوكرانية، كذلك يتم الضغط على أوكرانيا من خلال استخدام عامل الغاز الطبيعي الذي تعتمد فيه أوكرانيا على الواردات الروسية خصوصًا في فصل الشتاء القارس. لذلك فإن التوقيت ربما جاء ليعطي روسيا قوة إضافية في هذه الناحية.
انعكاسات الأزمة على المنطقة
المنطقة جزء مهم من العالم وتتأثر بالأحداث الكبيرة التي تؤثر فيه بصورة عامة، لكن من المتوقع أن تؤثر الأزمة بشكل مباشر على المنطقة وخصوصًا في القضايا التالية:
- هنالك قضايا مهمة في المنطقة تتطلب نوعاً من التفاهم الأمريكي-الروسي وخصوصًا فيما يتعلق بالمفاوضات على البرنامج النووي الإيراني لأن روسيا هي إحدى الدول الست التي تتفاوض مع إيران حول برنامجها النووي وقد قامت في السابق بدور مهم وهو أنها كانت الجهة التي تستلم من إيران اليورانيوم المخصب الذي تفوق نسبة نقاوته الحدود المتفق عليها، فهل يا ترى سوف يقوم الطرفان بالتواصل حول المفاوضات أم أن الأزمة على الساحة الأوكرانية سوف تلقي بظلالها على المفاوضات وتؤدي إلى تأخير الوصول إلى اتفاق؟ ثم هناك ما يسمى بالحرب على الإرهاب والتي من أهم جبهاتها الأزمة السورية التي يحتفظ فيها الطرفان بقوات محاربة على ساحتها وهناك قنوات اتصال أمنية بينهما لتجنب الصدام. فهل سوف ينعكس الوضع في أوكرانيا سلبًا على ذلك؟
- ملف توفير الطاقة لدول أوروبا: الأزمات السياسية والأمنية بين الدول الأوروبية ووسيا دائما تؤدي إلى فتح حوار حول مسألة اعتماد الدول الأوروبية وخصوصًا الشرقية منها على النفط والغاز الطبيعي القادم من روسيا وهذه المرة ليست استثناء من ذلك فقد تعالت الصحيات في الدول الأوروبية وأوكرانيا بالذات لدراسة سبل التقليل من الاعتماد على روسيا بسبب عدم الاستقرار الأمني والضغوط السياسية التي تمارسها روسيا على تلك الدول. هذه القضية من شأنها أن تركز الضوء على دول المنطقة بوصفها البديل الأقرب لأوروبا. بالفعل فقد كان محور توفير قطر الغاز الطبيعي لأوروبا، وهي البلد الثالث عالميًا في احتياطي الغاز بعد روسيا وإيران، في حال فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا أو في حال نشوب أزمة تؤثر سلبًا على إمدادات الغاز الروسية لأوروبا والتي تبلغ حوالي 40% من حاجتها، من أهم القضايا التي طرحت في القمة الأخيرة في واشنطن التي جمعت بين بايدن وأمير قطر الشيخ تميم آل ثاني الشهر الماضي.
- التفاهم حول أسعار النفط الخام: يتم التأثير على أسعار النفط من خلال السيطرة على مستويات النفط الخام المعروض في السوق ومحاولة الوصول إلى تفاهم بين الدول المصدرة للنفط والتي من أهمها دول أوبك وروسيا، والتي تسمى أوبك بلس. هذه الدول قامت في الآونة الأخيرة بزيادة المعروض بسبب الارتفاع الكبير في أسعار النفط الخام عالميًا استجابة لطلب الولايات المتحدة والدول الصناعية المستهلكة للنفط. هذا التفاهم أدى إلى استقرار الأسعار في الأشهر الماضية. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو هل سوف تنعكس الأزمة على التزام روسيا باتفاقها مع أوبك؟ أم أنها سوف تستخدم ذلك كوسيلة للضغط على القرار الأمريكي؟
الآثار المحتملة للتقارب الروسي-الصيني في مجال النفط والغاز على العلاقات الصينية-الخليجية.