يدور النقاش في دول مجلس التعاون الست (السعودية، الإمارات، الكويت، البحرين، قطر، وعمان) بشكل متفاوت في كيفية تجسير التنمية من الاعتماد على النفط إلى تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط من أجل الحفاظ على مستوى الرفاه في المجتمع. على الأقل في النصف الثاني من القرن العشرين خطت هذه المجتمعات خطوات لافتة في مسارات التنمية، وتسارعت في العشرية الأولى والثانية من القرن الحادي والعشرين. إلا أن التحدي لا زال قائمًا لسببين على الأقل، الأول تصاعد حجم السكان وأيضًا نسبة الشباب، والثاني التنافس الدولي على الموارد المختلفة. من هنا جاء تخطيط هذه الدول بوضع رؤية للتنمية متوسطة المدى تصل إلى عشر أو خمسة عشر سنة قادمة. المتاح هو كيفية استنباط موارد بعيدة عن النفط في المستقبل باستخدام النفط. في مراحل سابقة نجد أن هذه الدول تشد الهمة في البحث عن بدائل عندما تتدنى أسعار النفط والغاز في العالم ويتراخى الطلب، وتغفل عن ذلك جزئيًا أو حتى كليًا عندما يشتد الطلب على النفط والغاز وترتفع الأسعار. يساعد على (الغفلة) أو السبات النسبي ما قد تداخل في الثقافة المحلية وهي المعروفة على نطاق واسع بـ (ثقافة الاستهلاك) والتي كثيرًا ما تستهلك أي فائض يتولد من ارتفاع الأسعار للسلعة النفطية وينعكس على الأسعار المحلية من خلال ارتفاع في الأسعار للسلع والخدمات. لقد زادت من المعضلة التي تواجه دول الخليج جائحة كوفيد 19 فمن ناحية ارتفعت أسعار السلع والخدمات المستوردة من الخارج كما قلت الأيدي العاملة القادمة للعمل في كل من القطاع المنزلي والخاص والقطاع العام. صحيح أن بعض هذه المجتمعات التجأت إلى التقنية الرقمية لتعويض النقص، إلا أن تلك التقنية لم تحقق الأثر المطلوب كليًا.
لماذا يتوجه الرأسمال الأجنبي للعمل في دول الخليج؟
في أغلب الأحوال عالميًا يتوجه رأس المال الأجنبي للعمل في دولة بسبب رخص اليد العاملة أو اتساع السوق والتدريب المهني العالي لتلك العمالة ومرونة البيروقراطية المتحكمة في آليات السوق. في الخليج (دول مجلس التعاون) لا تتوفر اليد العاملة المدربة الرخيصة، ولا البيروقراطية المرنة، إنما ما يتوفر هو السوق أي القدرة الشرائية العالية بسبب ارتفاع الدخل، لذلك يتوجه كثيرون للقيام بمشاريع مختلفة (كثير منها خدمية) للحصول على مردود مالي عالي تقريبًا دودن ضرائب.
في دول الخليج نسبة كبيرة من اليد العاملة الأجنبية، بعضها واحد إلى اثنين (أي مواطن واحد إلى اثنين من العمالة الأجنبية) وبعضها واحد إلى ثلاثة وبعضها واحد إلى تسعة! وقد استهلك الكثير من النقاش في الفكرة العامة والتي تسمى (تعديل التركيبة السكانية) ولكنها لم تفلح لسبب واضح لحاجة الاقتصاد من جهة والطبيعة الاستهلاكية في الثقافة المجتمعية من جهة أخرى، زد على ذلك أن الكثير من اليد العاملة القادمة من الخارج غير مدربة ولا مؤهلة للقيام بما تدعى للقيام به. في النقطة الأخيرة كان للمرحوم عبد الله الغانم ( وزير سابق للكهرباء في الكويت) مشروع في حينه اعتبر مشروعًا تنمويًا متميزًا بالاشتراك مع الصندوق العربي للتنمية المشروع كان يهدف إلى إنشاء مدارس مهنية في بلدان عربية مصدرة للعمالة كمثل مصر ، وهي مدارس تنشئ يد عاملة في القطاعات التي تحتاجها التنمية مثل السباكين والكهربائية وفنيو البناء و غيرها من المهارات، تستفيد منها الدول المصدرة للعملة والمستوردة لها وهو مشروع للعمالة العربية ، إلا أن المشروع لم يشب عن مرحلة التخطيط، لقد كانت فكرة متميزة و لكنها واجهت صعوبات في التنفيذ . من جهة أخرى فإن الأسرة الخليجية أصبح لها ثقافة استخدام (في المنزل) ضاعفت من الحاجة إلى العمالة المنزلية وهي تقدر بحولي ثلث العمالة القادمة من الخارج.
على الرغم من صدور تشريعات في معظم دول الخليج تشترط نسبة معينة من العمالة في أي منشأة لا بد أن تكون من المواطنين، إلا أن أرباب العمل لا يجدوا تلك العمالة المواطنة التي تلبي احتياجات العمل، فيلجأ بعضهم إلى أسماء صورية فقط من أجل تحقيق النسبة في العمل والإنتاج فيقع على عاتق العمالة الأجنبية. يحقق رأس المال المستثمر من قبل شركات أو أفرد من الخارج عائدًا مجزيًا سواء في إنتاج السلع أو الخدمات أو الاثنين معا، والسبب كما أشير سابقًا أن هناك طلب عال على الخدمات والسلع من جهة بسبب توفر دخل عال للمواطنين وأيضاً عدم وجود ضرائب وثقافة استهلاكية عالية.
البنية القانونية
إن أحد أهم عناصر الخلل في أسواق العمل الخليجية هو غلبة العنصر القادم من الخارج، حيث سوق العمل الواسع و كثرة من المواطنين لا يقبلون على هذا النوع من العمل و خاصة اليدوي أو حتى في القطاع الخاص، كما أن "الكفالة" وهي نظام قانوني مختلف عليه تضمن بقاء العامل لدى الشركة أو المستخدم وتبعات هذا النظام سلبية و إيجابية في آن، فالعامل هنا خاصة العامل المنزلي يحظى بعدد من التسهيلات مثل السكن والمأكل و بالتالي يحصل على أجر دون تكلفة كبيرة كما أن قلة الأجر المدفوع للعامل في القطاع الخاص نسبياً تتيح الخدمات والسلع بأثمان معقولة للمستهلكين . موضوع العمالة الوافدة في الخليج لقي ولا زال يلقى الكثير من النقد لدى الكتاب الأجانب و أيضًا لدى بعض كتاب الخليج، إلا أن المبالغات لا يخلو منها ذلك المنحى من النقد .وقد ذهب البعض إلى القول أن حجم علاقات العمل المستترة بالقوانيين السائرة في دول الخليج ،إنها في شكلها الخارجي علاقات عمل قانونية، ولكن في عمقها كما يدعى تكشف مدى عدم التوازن بين صاحب العمل و العامل في المنطقة واستغلال ضعف الإطار القانوني وثغراته في الزج بآلاف من البشر في أسواق العمل دون أن تكون بينهم علاقة عمل حقيقية من خلال مؤسسات وعلاقات عمل بعضها وهمية. كما اكتشفت بعض سلطات دول الخليج أن حجم العمالة المهاجرة التي تعمل في سوق العمل خارج إطار القانون ولسنوات طويلة، إما لانتهاء تصاريح عملها أو لانتهاء مدة إقامتها القانونية، فاقت كل التقديرات الرسمية وشكلت مشكلة صحية و قانونية أثناء تصاعد جائحة كورونا وعمليات التطعيم مما دفع بعض الدول إلى السماح بالتطعيم حتى دون أوراق رسمية . تضخم أعداد العمال المهاجرين، حتى من ذوي الأوضاع القانونية،
لدرجة أن سوق العمل لا يمكن أن يستوعبهم جميعاً، فأصبح الآلاف منهم يمتهنون مهناً ووظائف ليست من تخصصاتهم وتفوق قدراتهم، ويعملون لقاء أجر يومي، في نفس الوقت نجد شكوى متعاظمة من شركات تحتاج إلى عمال ولكن الجهات الرسمية خوفًا من تضخم الأعداد تكون ضنينة على تسهيل معاملات تلك الشركات.
ولحل هذا التحدي، بات من الضروري إعادة النظر في كامل المنظومة القانونية التي تحكم أسواق العمل في دول مجلس التعاون، بما في ذلك سياسات الاستقدام من خلال الوقوف الفعلي على احتياجات النشاطات الاقتصادية لهذا الكم من العمالة وترشيدها إلى أقصى حد وتفعيل العمل بقوانين حديثة، وهو الأمر الذي قامت به بعض دول الخليج بتغيير قانون (الكفالة) والذي كان عليه الكثير من النقد ودفع المؤسسات والشركات من خلال محفّزات على التوجه نحو الأتمتة واستخدام وسائل التكنولوجيا لما لذلك من دور في تقليل عمليات استقدام العمالة المكثفة بجانب خلق وظائف ذات أجر عادل يمكن دمج العاطلين المواطنين فيها. والتحول التقني لأغلب منافذ البيع وتحويلها من مهن تعتمد على الكثافة العمالية إلى مهن تعتمد على التكنولوجيا، إضافة إلى العديد من الخدمات التي نراها في مطارات المنطقة والتي تُدار من قبل عمالة مهاجرة ويمكن تحويلها إلى خدمات ذاتية، ويمكن لهذا النموذج أن يُطبق في أغلب القطاعات الخدمية والتجارية.
وربما يحتاج الشروع في تفعيل تلك المقترحات أن يترافق مع فرض رسوم تصاعدية على عمليات الاستقدام يتم تحديدها وفق المهارات ومدى توافرها في سوق العمل المحلي، فكلما كان سوق العمل متشبعاً من مهن ومهارات معينة ترتفع الرسوم. وهذا النوع من الآلية في تحديد الرسوم يتطلب أولاً تدفقاً سريعاً ودائماً في المعلومات والإحصاءات، وثانياً كفاءة ومرونة لدى الجهاز الإداري القائم على تحديد النسب في كل قطاع ومهارة من حيث قدرته على التجاوب المستمر للمتغيرات في أسواق العمل، ومرونة تشريعية تُمكن القائمين على تحديد الرسوم والنسب من تغيير الرسوم تبعاً للمهارات ومدى توافرها في سوق العمل الوطني. وقد يكون من المفيد وتحقيقاً للشراكة الفاعلة بين أطراف الإنتاج أن يكون الجهاز المعني بتحديد المهن والمهارات ثلاثي التكوين، أي الحكومة وأصحاب العمل والعمال.
وفي نفس السياق، ولن يكون لزيادة الرسوم دور فاعل إذا لم يقترن بإلغاء نظام الكفالة الساري في بعض دولنا حتى الآن، بحيث تصبح علاقة دخول أي عامل مهاجر إلى منطقة الخليج، علاقة بين الدولة والعامل ولا يكون لصاحب العمل أي صلاحيات أو التزامات تجاه العامل إلا في ضوء ما يحدده قانون عمل عادل ومساوٍ للعمال وفق قواعد ومبادئ العمل اللائق، فأساس عزوف أصحاب العمل عن توظيف المواطنين هو رخص العمالة أولاً وثانيًا الرخاوة القانونية. فصاحب العمل لن يتوانى عن توظيف المهاجرين حتى في حال تساوت كلفة توظيف المهاجر مع كلفة توظيف المواطن، إذ أن القوة التفاوضية للعامل المهاجر متدنية مقابل صاحب العمل، ناهيك عن الضعف في التشريعات والضعف في إنفاذها ومراقبة تطبيقها، وهذه جميعها عوامل تجعل صاحب العمل يُفضل توظيف من تسهل "السيطرة" عليه.
إن تحقيق علاقات عمل متوازنة تتطلب أيضاً من الدولة أن تتعامل مع طرفي الإنتاج (العمال وأصحاب العمل) بذات القدر من المساواة وضمان الاستقلالية. ويذهب البعض إلى المطالبة بالشروع في إزالة كافة القيود المفروضة على تأسيس المنظمات النقابية والعمالية. فمن باب المقارنة بحجم الدعم والتسهيلات التي يحصل عليها أصحاب العمل من خلال غرفهم التجارية، فلن يكون الإقرار بحق العمال في تأسيس منظماتهم النقابية شيء يذكر. فممارسة العمال لدورهم في المفاوضة والدفاع عن حقوقهم ستعزز من الاستقرار في علاقات العمل، وستكون عوناً لمراقبة ورصد أي خروقات لتشريعات العمل بما يساند الدولة في إنفاذ التشريعات العمالية بأكبر قدر من الكفاءة. هذا لا يعني أن بعض القطاعات العمالية قد استخدمت ما يعرف (بسحب قوة أعملها) أي الإضراب وحتى التظاهر إن شعرت بحيف وخاصة في تأخير صرف مستحقاتها.
نطالب بعض الكتابات في هذا الشأن بالإجراءات التي من شأنها توسيع مساحة الحماية الاجتماعية من حيث شموليتها لجميع العمال بلا استثناء ومن حيث تنويع مزاياها وتعزيز حوكمة الهيئات المشرفة عليها بحيث تتم إدارتها من خلال شراكة حقيقية وفاعلة لجميع أطراف الإنتاج، فضلاً عن وضع سياسات خاصة بالأجور وتحديد حد أدنى للأجر ينطبق على جميع العمال دون استثناء يساهم أطراف الإنتاج في وضعه من خلال مجلس اقتصادي واجتماعي يكون مسؤولاً عن تحديد هذه السياسات ومراجعتها بصفة دورية تبعاً للمتغيرات الاقتصادية.
إن شمول العمالة المهاجرة بأنظمة التأمينات والضمان الاجتماعي لها فوائد، نظرية على الأقل، عديدة. أولها إنها تزيد من نسبة التأكد بأن علاقة العمل بين العامل وصاحب العمل حقيقية وليست وهمية، وذلك عن طريق التزام صاحب العمل بتوريد الاشتراك الشهري للعامل لصناديق التأمينات، لاسيما إذا ارتبط ذلك ببرامج حماية الأجور التي بدأت أكثر من دولة خليجية تطبيقه. ثانياً زيادة الملاءة المالية لتلك الصناديق. وثالثاً تعزيز سمعة الدول الخليجية الدولية من حيث تغطيتها الاجتماعية لهذه الفئة من العمال وضمان نوع من الدخل الذي يغطي احتياجات العامل بعد انتهاء مدة عمله في المنطقة إضافة إلى مكافأة نهاية الخدمة التي تُقرها قوانين العمل في المنطقة. رابعاً، استخدام تلك الاشتراكات لتغطية بعض النفقات التي قد تتحملها الدولة في فترات الأزمات. ولقد رأينا خلال الأيام الماضية حجم العمالة المهاجرة المتضررة من فقدان وظائفها وأجورها، وباتوا عالقين بدون دخل ولا سبيل لعودتهم إلى بلدانهم بسبب الإجراءات التي قامت بها مختلف دول العالم حينما أغلقت حدودها كأحد الإجراءات الاحترازية لمواجهة الجائحة، إذ كان بالإمكان أن تلعب برامج الحماية الاجتماعية دوراً كبيراً في توفير نوع من الضمان المادي لهذه الفئة من العمال، كما كان بالإمكان أن تتحمل دول الخليج أعباءً أقل بكثير لو كان هذا النوع من التغطية التأمينية موجوداً في ظل الأزمة. ولا يتطلب هذا النوع من التغطية التأمينية أن يكون هناك معاش تقاعدي مستمر، لاسيما وأن أغلب المهاجرين يغادرون إلى دولهم بعد انتهاء فترة عملهم، وبالتالي يمكن اعتماد نظام الدفعة الواحدة للمستحقات التأمينية وفق إطار قانوني عادل.
بيئة جاذبة للاستثمار
من الصعب الحديث بشكل عام أن المشهد الاقتصادي/ القانوني في كل دول الخليج هو جاذب للاستثمار، فهناك معادلة صعبة يتوجب حلها وهي (توظيف اليد العاملة أم توظيف اليد الماهرة من أي جنسية) بإصرار القوانين المحلية في الغالب بتفضيل اليد العاملة المحلية وذلك مفهوم من الجانب الاجتماعي / السياسي، في أغلب دول الخلج، عدى ربما الإمارات وخاصة إمارة دبي والتي قدمت تسهيلات وربما أيضًا ضحت جزيئًا بالتشغيل الكامل للمواطنين بسبب صغر حجم السكان. أما بلاد مثل المملكة العربية السعودية أو عمان أو البحرين ذات الكثافة السكانية الأكبر فإن الطلب المحلي يضغط على سوق العمل، طبعًا الحل لهذه المعادلة هو ترقية التأهيل والتدريب لليد العاملة المحلية من جهة، وتقديم بعض الامتيازات للشركات الأجنبية مع مرونة في شروط العمالة وربما وضع محفزات للشركات الأجنبية من أجل تدريب وتشغيل العمالة المحلية. هناك إذن حزمة مطلوبة في قطاعات التشريع والتدريب والتعليم متضافرة من أجل تسهيل التحاق العمالة المحلية بقطاعات اقتصادية منتجة يقوم بها القطاع الاستثماري الخارجي، رغم أن سوق العمل في دول الخليج قاطبة يمكن المواطن من مزايا ومرتبات أعلى ربما من سوق العمل في دول أخرى في ظل منافسة دولية متسارعة تشتكي منها حتى الدول الصناعية الكبرى.
الخلاصة
يواجه الاستثمار الأجنبي في الخليج معركة صاعدة Uphill battle ليست سهلة و قد تتركز قطاعات الاستثمار في التعدين والصناعات التحويلية وقد تدخل الأتمتة كحل مهم وناجح في اجتذاب الاستثمارات المختلفة، إلا أن ذلك يحتاج إلى تعزيز التعاون وتقليل التنافس الضار بين دول الخليج، وربما أيضًا استخدام الميزة النسبية لكل اقتصاد بدعم قطاعات في الاقتصاد الآخر ، فإن كان ثمة زيادة في اليد العاملة المحلية توجب أن تعطى أفضلية في العمل في الدول التي تحتاج تلك العمالة مع ميزات نسبية لها، وهذا قد وقع في تاريخ الخليج المعاصر، فحتى في الاقتصاد التقليدي نزحت العمالة الخليجية من بلد إلى آخر لسد النقص في قطاعات معينة . ولعل الكثير من الاتفاقات الموقعة بين دول الخليج مؤخرًا قد انتبهت لهذا الأمر وحاولت تجسير الفجوة، ومع ذلك فإن الجهد الذي يجب أن يقوم به الباحثون والمهتمون وحتى المشرعون جهد قد آن أوانه.