يشهد التاريخ لمنطقة الخليج العربي أدواراً ثقافية متنوعة، وحِراكٍ ارتبطت فيه مع أطراف الجزيرة العربية الأخرى، وجوارها في الشام ووادي النيل، أوجد ما نُعَرِّف به أصول الفكر والمعرفة العربية الجامعة في البِطاح الممتدة من الخليج إلى المحيط. هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن ليس لغيرها إسهام غني ووافر الذخيرة الثقافية العربية، لكن لأن ملف هذا العدد من "آراء حول الخليج" ميزها بتغطية كاشفة لخصوصيتها الحضارية، وتجربتها العصرية الراهنة، التي تعانق فيها نهضة ثقافية لافتة. وأحسب أن هذا العدد الخاص سيمكننا من التعرف على أبرز ملامحها وتنوعها الثري والمدهش. ورغم الرغبة الخاصة في التركيز على جانب معين يخص الكويت كجزء من موضوع عريض حول الخليج، وما تقتضيه ضرورات الكتابة المحصورة بقياساتها المهنية؛ بما فيها المساحة وعدد الكلمات، إلا أن الإشارات العامة قد تتيح لنا التوقف أمام صُوَرٍ دالة على هذا التنوع وثرائه. فإلى جانب المطبوعات والدوريات الكويتية، نطالع "الدارة" و"الفيصل" و"المجلة العربية"، ونستمتع بالرواية في السعودية، ونقرأ "الدوحة" في دولة قطر، ونستمتع بالمسرح في الإمارات، ونتطلع لدورات معرض الشارقة للكتاب، ولنا في سلطنة عُمان ومملكة البحرين حواضن ثقافية لا يماثلها مكان آخر في طلاقتها وطاقة استيعابها لكل جديد مفيد. وفي تقديري الخاص، لا يوجد في الخليج مركز وهامش، والحركة النقدية النشطة خير من يعبر عن حقيقة الصوت المُعَبِّر عن جماليات الصور الإبداعية المتماثلة، والمُحَدِّث عن الألفة عند السؤال عن طبيعة التواصل بين مثقفي الخليج فيما بينهم، ومع نُظرائهم في المشرق، ومع المتفاعلين معهم في المغرب العربي.
وبالسؤال عن التفاعل المأمول للحفاظ على وتيرة النهضة الثقافية الخليجية ودفعها قدماً إلى الأمام، حَرِيٌّ بِنَا دائماً أن نتذكر الذين دعموا الروابط العربية الممتدة عبر حدود لا تعرف القسمة بين مشرق ومغرب، وكأني بهم كأسلافهم يصلون الآصرة الوثقى والوشيجة العامرة والرباط السامي بين عقل الإنسان العربي، الذي وهبه الله الإيمان ليكون هادياً مهدياً، وبين الفكر الإنساني العالمي. وما ندوة القرين عام 1974م، التي تشرفت بالمشاركة في تقييمها عام 2014م، إلا مثال دال على النضج القومي لدولة الكويت في حملها لرسالة الأمة الثقافية. وهذا التواصل لا يعني عدم الإقرار بحقيقة أن غير العرب قد أمضوا حياتهم بأكملها في التفكير والبحث والدراسة حول أسئلة فلسفية تُمَكِّن للبشر أن يوازنوا بين الرغبة في التساؤل وضرورة الإيمان. ولأنَّه لا انفصام في المعرفة بين جهود البشر، كانت الجهود الفكرية العربية مُكَمِّلَة لنتاج غيرها، ومُضيفة لها بما يثريها؛ ترجمة، وشرحاً، وتفسيراً، وتعليقاً. فمثلاً، إذا لم يكن "بيت الحكمة" العربي حرزاً للأعمال الكلاسيكية للفلاسفة والعلماء اليونانيين القدامى، لربما يكون قد ضاع أمام الأوروبيين والإنسانية الشيء الكثير. والتاريخ يشهد أن العرب المسلمين قاموا بترجمة الأعمال، وكتابة التعليقات، والتفسيرات، وإضافة أفكارهم الخاصة إليها، مما زادها قيمة وقِوَامَة. فقد علق ابن رشد على أرسطو، وجاراه المفكر اليهودي موسى بن ميمون على نسقه، وكلاهما أبناء جيرة في الأندلس العربية الإسلامية. كما كتب فلاسفة آخرون؛ مثل، الكندي وابن سينا والغزالي، عن الإيمان والعقل، فترجمت أعمالهم إلى اللاتينية، مما شجع العلماء المسيحيين على مناقشة العقل والإيمان. وهكذا يكون التبادل والتراكم المعرفي، إذ أدى التشابه في الفكر والأفكار بين الإسلام واليهودية مع المسيحية إلى إفساح المجال لترجمات وتعليقات ذات مغزى من مفكرين عظماء قدّموا لنا حلولاً مهدت الطريق للثقافة والفكر العلمي، وجعلوا من المقبول استكشاف العالم الطبيعي، واستخلاص استنتاجات حوله، ومحاولة اكتشاف قوانين الطبيعة.
في المنهج:
يهدف هذا المقال إلى إلقاء نظرة عامة على دور الحركة الثقافية في الخليج العربي، وما اتصل منها بحركة الثقافية العربية، وما حققته بعض نماذجها من تواصل بين المشرق والمغرب، الذي لم يكن ممكناً بغيرها، أو مُيسَراً بغير مطبوعاتها، قبل عصر الفضائيات والإعلام الإلكتروني. ورغم اختياري لنماذج محصورة، غير أني أزعم أن غيري سيوفر بيانات نوعية مفصلة، في ملف هذا العدد الخاص من مجلة "آراء حول الخليج"، حول الثقافة وتاريخ وعلم اجتماع وسائل الإعلام والاتصال العام والعلاقات العامة في التعبير الثقافي، وتأطير الخلفية التاريخية والاجتماعية للعمليات الإعلامية والتواصلية العامة في دول الخليج، التي ظلت تهدف إلى تعزيز التغيير الاجتماعي والتنمية، وكل ما يُساهم في رسم الصورة العربية لدور الثقافة العربية في العالم. وارتأيت أن ينحصر المقال حول مفاهيم المشاركة والمسؤولية الخليجية الفردية؛ كالكويت، والمشتركة الجماعية؛ كدول مجلس التعاون، تجاه الثقافة العربية؛ آخذاً في الاعتبار عمق الميراث الحضاري العربي الإسلامي في الخليج، وتسارع عمليات التحديث في كل دول المنطقة، والأسباب الموضوعية والمنطقية، التي أدت للتأسيس القَيِّم لوسائل إنتاج المعرفة؛ من دور نشرٍ وعرضٍ ومطابع ومسارح وغيرها، وساعدت على بَث الفكر، وعَمِلت على إطلاق منصات تفاعلية، وأسهمت في خلق منابر جاذبة للتواصل الثقافي العربي.
ومن هنا، يمكن العثور على دليل ملموس على الحافز، الذي قدمته الكويت للحياة الثقافية في الوطن العربي، وذلك بإطلاقها لعشرات المجلات والدوريات والمطبوعات، التي أقيمت تحت رعاية الدولة، ما تزال تقف دليلاً حياً على حيوية "الفكرة الثقافية" للقائمين على أمر صناعة القرار الثقافي في هذا البلد الخليجي المُبادر، التي تفاعل معها المثقفون في العالمين العربي والإسلامي، وساهموا في الحوار والتفاهم والسلام. وأثبتت من جانب آخر، ومهم للغاية، أن تبني الدولة لمشروع ثقافي يُمَكِّن له ويثريه ولا ينتقص منه، طالما أن دور المؤسسات الرسمية اقتصر على المبادرة بصناعة الوسيلة وليس صياغة المحتوى. وسيتفاجأ الكثيرون من أبناء الجيل الجديد عندما يعلمون أنه قبل ظهور الفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل الإلكتروني، على سبيل المثال، كان للمطبوعات الكويتية القدح المعلى في وصل المثقفين والمفكرين العرب ببعضهم البعض، والتعريف العام بنتاجهم الفكري، والترويج للمدن العربية وعطائها الثقافي والاجتماعي. لذا، كان لها تأثير كبير على الثقافات العربية والإسلامية، وغيرها من البلدان الأخرى، التي يوجد بها ناطقون باللغة العربية، الذين كانوا يتشاركون طرقاً متشابهة في التلقي والتعبير عن الذات من خلال القراءة والكتابة الورقية.
مأسسة الثقافة:
إن الكويت مثال مثير بشكل خاص عند الحديث عن الثقافة العربية وتوزيعاتها الجغرافية، والنظر فيها لما يميز الواقع الثقافي الخليجي بشكل عام، وما تتفرد فيه بعض دوله بنموذجها الخاص. فدول الخليج العربية جميعها أعطت، وما تزال تبذل قصارى جهدها في خدمة الثقافة العربية، غير أن كل أبناء الأجيال السابقة؛ خاصة أولئك الذين نهلوا من عطاء الكويت الثقافي بأنفسهم، أو وجدوا متسعاً في منابرها وصفحات مطبوعاتها للتعبير عن آرائهم وأفكارهم سيعرفون ذلك، ويشيدون به. ولتوضيح ما أرمي إليه، سيحتاج الجيل الجديد إلى فهم عميق لأهمية ما كنا نقرأه في مجلات "العربي"، و"عالم الفكر"، و"الثقافة العالمية"، و"المسرح العالمي"، وكتاب "عالم المعرفة"، وغير ذلك من مطبوعات تمثل موائد فكرية "دسمة" للمثقفين والمفكرين العرب وقتها، وإلى الآن. وأهم ما فيها أنها كانت دائماً منهم وإليهم، وفيها يلتقون بأقلامهم، ومنها يتلقون بأفهامهم، ويتعرفون على بعضهم البعض؛ من مغرب العرب إلى مشرقه. وهم يعرفون ويعقلون أنه على طول طريق العطاء الكويتي، ينبغي عليهم اتخاذ خيارات مرنة حول كيفية تحويل النص المصدر إلى اللغة الهدف، لأن ما كانوا يكتبون هو بالفعل منهم وإليهم، وهم القارئ، الذي يعرف النسخة الأصلية، حتى ولو لم يستطع الوصول إليها لأسباب خارجة عن إرادة الناشر.
لهذا، كان هذا هو المثال المفضل لدي، لأنني من جيل يقرأ الورق وتمتعه رؤية الصفحات المنصوب عليه أحرف المعرفة. وميلاد مجلة "العربي" قديم وسبق مولد أكثر من جيلين من المثقفين العرب، إذ انطلقت فكرة إصدارها عندما قررت الحكومة الكويتية نشر مجلة تعنى بالثقافة العربية، وتكون مدعومة مالياً من قبل وزارة الإعلام، ليصدر العدد الأول منها في ديسمبر عام 1958. ولأنها عربية التوجه، جرى اختيار مصري كأول رئيس تحرير لها، وهو الدكتور أحمد زكي، وخلفه أحمد بهاء الدين؛ وأُلْحِقَ بهما أول الأمر عدد من الكتاب والصحفيين العرب، ومن بينهم المصريان أوسكار متري وسليم زبال، اللذين تطوفنا معهما كثيراً في حواري المدن العربية والعالمية، وأخذتنا صورهما وعباراتهما في أجواء الأزمنة والأمكنة النائية. ولم يتسنم رئاسة تحريرها من الكويتيين إلا عام 1982م، عندما تولاها الصديق الدكتور محمد غانم الرميحي، وتلاه الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، عام 1999م، ثم الدكتور عادل سالم العبد الجادر، عام 2013م، ويقف على رأسها، منذ عام 2014م، وحتى الآن، الدكتور إبراهيم المليفي. ومنذ صدورها قبل حوالي ثلاثة وستين عاماً وحتى اليوم، تناولت المجلة أبرز المستجدات العربية والعالمية في كل مناحي الحياة، شكلت "العربي" رمزاً عربياً ثقافياً متميزاً، وقد نجحت بالفعل في طرح صيغة جديدة لمعنى المجلة الثقافية. وشارك في كتابة مقالاتها أبرز الأدباء والشعراء والعلماء والمفكرين العرب؛ مثل أعلام مصر، طه حسين، وعباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور، وجابر عصفور، وفاروق شوشة، ومن سوريا نزار قباني، ومن فلسطين إحسان عباس، ومن المغرب عبد الهادي التازي، وغيرهم كثير من علماء المشرق والمغرب، الذين لولا سعة صفحاتها لما التقاهم معاً القارئ العربي من المحيط إلى الخليج.
بالطبع، ما كان يمكن للكويت أن تكون رائدة الثقافة والمعرفة والفكر العربي لولا وعي القيادة السياسية بأهمية "مأسسة" العمل الثقافي في دولة قليلة السكان، لكن حباها الله بثروة مادية فائضة، تستطيع بها خلق مشروع ثقافي يتسع لأكثر من إبداعات مواطنيها، ويتعدى بإشعاعه وتأثيراته حدودها الجغرافية. ورغم أن المبادرات الثقافية الرسمية والشعبية قد سبقت قيام "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب"، إلا أن قيام هذا المجلس، في يوليو 1973م، جعل الكويت تُكَرِّس طاقاتها البشرية ومواردها وامكاناتها المادية، لتحقيق ما وضعته له من أهداف، وما استشرفته له من غايات سامية. وليكون واجهة حضارية لدولة الكويت، والمعبر عن الهوية الوطنية المتسمة بالحرص على نشر الثقافة، والتطلع لمجتمع المعرفة، والانفتاح على عصر تقنيات الاتصال الحديثة، والاستعداد لمجابهة تحديات عصر التحول الرقمي واقتصاد المعرفة والاقتصاد الإبداعي، وبلوغ رؤية كويت جديدة 2035م، التي تهتدي بالخطة الاستراتيجية للمجلس الوطني للثقافة حتى عام 2026م، ورغم ما يبدو من توجهات محلية الطابع فيما يقدم به المجلس نفسه في منشوراته الخاصة، أو موقعه الإلكتروني، إلا أن الحقيقة، التي لا يختلف عليها اثنان، هي أن جهد المجلس ومنابره، ودائرة توزيعه، عربية وإنسانية بامتياز، ولا شبهة احتكار للكويت فيها غير فضل الدعم الوافر لتطور الثقافة العربية الجمعية، وخدمة القيم الإنسانية، التي يؤمن بها كل كويتي وعربي.
الأثر المتعدي:
وتأكيداً على نجاعة فكرة "المأسسة" الخليجية للثقافة، وإقراراً بها، فقد دشَّنت مؤسسة الفكر العربي، ضمن فعاليات مؤتمرها السنوي الخامس عشر، الذي عُقد في أبو ظبي، بين 12 و14 ديسمبر 2016م، الذي شاركت فيه ضمن عشرات آخرين، تقريراً مهماً وموسعاً عن "الثقافة والتكامل الثقافي في دول مجلس التعاون الخليجي"، والذي ساهم في وضعه عشرات الباحثين والمهتمين من أبناء دول الخليج وأشقائهم العرب، خاصة من أولئك المقيمين فيها، والمتابعين لتطورات مشهدها الثقافي من أوجهه المتعددة والمختلفة. وقد اشتملت أبواب التقرير على عدة موضوعات، منها: السياسات والاستراتيجيات الثقافية في دول مجلس التعاون، والمؤسسات الثقافية في هذه الدول، المشهد الإبداعي الخليجي، وغطى كل باب التفاصيل المندرجة فيه في عدة فصول فرعية. وفي تقديري، يشكل هذا التقرير مرجعاً مهماً لكل الباحثين والمهتمين بقضايا الثقافة في بلدان مجلس التعاون الخليجي، كما يمكن لصنّاع السياسات الثقافية من المسؤولين في بلدان المنطقة الإفادة من أوجه التحليل، التي ينطوي عليها والتوصيات، التي خلص إليها من ساهموا في كتابة أبواب التقرير وفصوله. واختتم التقرير أبوابه وفصوله برؤية استشرافية خاتمة، جاءت تحت عنوان: "رؤية مستقبلية -التحديات، التي تواجه الثقافة الجديدة في الخليج"، عالجت بمنهجية ومهنية عالية سياق العلاقات السياسية والاقتصادية، وأبرزت رؤيتها لإطار الوحدة الثقافية للمجتمعات الخليجية، وما يميز كل منها من خصوصيات.
إن هذه الخصوصيات هي ما تُدركه المؤسسات المسؤولة عن وضع السياسات الثقافية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي تعي التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي حدثت خلال العقود الماضية. الأمر الذي قادها إلى مراجعة خطة التنمية الثقافية، التي سبق أن أقرها المجلس الأعلى في دورته الثامنة التي عقدت في الرياض، في ديسمبر عام 1987م، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من المنظومة العربية الثقافية. وبات أمراً حتمياً، كما أبان المجلس، التحقق من بعض الأهداف والتوصيات، التي تضمنتها خطة التنمية الثقافية، إذ لم يعد البعض منها يحتل سلم الأولية، كما بينتها الخطة. وذلك انطلاقاً من مبررات بلوغ دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مستويات تنموية تجعلها بحاجة إلى أدوار وأنشطة ثقافية متقدمة على المستويات المحلية والعربية والعالمية. يدفعها إلى ذلك تطور تقنية الاتصال والمعلومات في العالم، وتنامي التحديات الثقافية، وما أدى إليه ذلك من ارتباط دول المجلس بمجموعة من القوانين والتشريعات الدولية، التي حتمت عليها توسيع آفاق التواصل مع الأخر بشكل أكثر فاعلية. ولم تغفل استراتيجية مجلس التعاون حقيقة بروز القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني كعناصر فاعلة ومؤثرة في مجتمعات دول المجلس، وضرورات التكيف مع هذه الأوضاع المستجدة.
خطة إرابيا:
على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، سعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" لطرح خطة شبه الجزيرة العربية، التي تضم دول الخليج العربية، والتي تُعرف بـ"خطة إرابيا"، إلى زيادة المعرفة بالثقافة العربية في جميع أنحاء العالم، ومن ثم تعزيز الحوار الهادف البناء بين الثقافة العربية الإسلامية وبقية ثقافات العالم. ففي عام 1989م، بدأت "اليونسكو" والدول الأعضاء فيها؛ والمجموعة العربية، على وجه الخصوص، مناقشة المسودات الأولى لـ"خطة إرابيا". إذ تم تَصَوُّرَها، في البداية، على أنها مبادرة ثقافية متعددة الأبعاد، تهتم بشكل أساس بالفنون التقليدية، والتراث الثقافي، والتاريخ، والأدب. فقد ظل النموذج الثقافي، الذي تطرحه دول الخليج مُثيراً للكثير من الإعجاب، إذ تجمع دول الخليج في مجتمعاتها بين الأصالة والمعاصرة، وبين التقاليد والحداثة، وهذا ما يدفع العديد من الكتاب والمفكرين إلى البحث في عطائها للثقافة العربية الأشمل. في هذا الصدد، سلط كتاب "ميريام كوك"، الباحثة المتخصصة في دراسات الشرق الأوسط بجامعة ديوك الأمريكية، الذي جاء تحت عنوان: "الحداثة القبلية: صناعة نماذج جديدة لدول الخليج العربي"، الضوء على النموذج الثقافي لدول الخليج ومدى تفرده عن غيره، إذ تتبعت كيف انتقل هذا النموذج من القبلية إلى الدولة المعاصرة، وكيف استطاع في نفس الوقت الحفاظ على ثقافة القبيلة وعاداتها، بما جعله يخلق هُوية خاصة به، ميَّزته عن سائر المجتمعات الأخرى العربية والعالمية.
لهذا، استندت "خطة أرابيا" على فهم أن الثقافة العربية في دول الخليج تجعل التنمية في هذه الدول مستقرة وصاعدة ومستدامة. وبالتالي، فهي يمكن أن تُشكل أساساً رئيساً لسلام الشرق الأوسط والعالم. فالخطة تؤكد على الدور المهم، الذي لعبه العالم العربي تاريخياً في التبادل الثقافي والمعرفي؛ على سبيل المثال، الترجمة إلى العربية والحفاظ على أعمال الفلاسفة اليونانيين القدماء والعلماء الرومان، أو من خلال تفاعله مع الحضارات الأخرى في إفريقيا وآسيا وأوروبا. وكان للخطة، التي وُضِعَ الأساس لها عام 1991م، ثلاثة مجالات استراتيجية للتركيز. المجال الأول هو " الاستمرارية والتغيير"، أي فهم التراث الثقافي والهوية الثقافية كعوامل للتنمية. والثاني، هو "الابتكار والحداثة"، ويتمثل في تعزيز الإبداع والإبداع العربي المعاصر. أما المحور الثالث والأخير فيركز على الحوار بين "الثقافات العالمية"، ويتناول دور الثقافة العربية في التفاعل مع ثقافات العالم الأخرى. وخلال السنوات العشر الأولى من تنفيذ الخطة، كانت هناك بعض الإنجازات الرائعة. ومن الأمثلة على ذلك نشر كتاب "تاريخ الدول العربية في الأرشيف الدبلوماسي"، وهو عمل بحثي تاريخي وأرشيفي يغطي الفترة من 1523 إلى 1945، وحرره السفير عادل إسماعيل باقتدار وافر ظاهر.
وفيما بعد، جاء إطلاق مشروع "أكلابي -"ACALAPI، كمساهمة عربية ضمن "خطة إرابيا"، لِيُعْنَى بتتبع رفد الثقافة العربية للثقافات الأيبيرية الأمريكية عبر إسبانيا والبرتغال. وقد أثبت المشروع نجاحه لدرجة أنه تطور إلى مشروع مستقل منفصل عن "خطة إرابيا" الأم. وبحلول عام 2001م، كان من الواضح لليونسكو وللمجموعة العربية وللدول الأعضاء في المنظمة الدولية أنه يجب تحديث الخطة للاستجابة بنجاح لتحديات القرن الجديد، مثل العولمة والإنترنت واتجاهات الاتصال الجديدة وحركات الهجرة والإرهاب والصراعات الجديدة. أصبح تعزيز الحوار بين الثقافات أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، والاستفادة من الفرص، التي توفرها التكنولوجيا الجديدة. وبالتالي، تم اقتراح مجموعة من المبادرات الجديدة. من بينها، تعزيز التعاون بين المكتبات في العالم العربي وخارجه، واستخدام الإنترنت لمشاركة الأعمال الرئيسة للثقافة العربية، أو الترويج للمصنفات السمعية والبصرية، التي تصور التراث الثقافي العربي. وبهذا لم تفقد مهمة الخطة العربية أياً من ضرورتها، أو إلحاحها، منذ إطلاق الخطة في عام 1991م، الإنسانية بحاجة إلى الحوار وطرق جديدة لبناء سلام دائم ودائم؛ وللثقافة العربية دور مهم ومساهمة ثمينة. تلتزم اليونسكو والمجموعة العربية للدول الأعضاء بالحفاظ على هذا المشروع وتعزيز المعرفة بالثقافة العربية وخلق حوار حقيقي بين الثقافات. وهذا هو الطريق، الذي سيؤدي إلى التفاهم المتبادل بين الشعوب، وفي النهاية، السبيل إلى تحقيق الهدف الأساس لليونسكو المتمثل في قيمة السلام، وإمكان تعزيزه واستدامته.
وفي هذا الصدد لا بد من ذكر مشروع "كتاب في جريدة" الثقافي العربي، الذي أطلقته "اليونسكو"، في عام 1995م، ليكون الثاني من نوعه في العالم بعد المشروع الناطق بالإسبانية "بريوليبروس- Périolibros"، التي تعني "الكتاب الدوري". وكانت المنظمة قد أطلقته، عام 1991م، في جميع دول أمريكا اللاتينية وإسبانيا والبرتغال، لكنه توقف بعد ست سنوات من إصداره عند العدد رقم (66) في حين ظل "كتاب في جريدة" يواصل إصداراته لأكثر من عشرة أعوام، شهدت صدور العديد من روائع الأدب العربي قديمه وحديثه. وما كان ذلك ليحدث لولا السخاء الخليجي، والتبرع الكبير للشيخ محمد بن عيسى الجابر، الذي دعم المشروع بكل ما استلزمه من نفقات. وفي مشاركتنا في احتفالات "اليونسكو" بعيد تأسيسها الستين، الذي صادف يوم الأربعاء 16 نوفمبر 2005م، تشرفت بمقابلة الشيخ الجابر، مع ثلة من المثقفين والمفكرين العرب، الذين جاءوا للاحتفاء بمشروع "كتاب في جريدة" كأحد الفعاليات الرئيسة لـ"اليونسكو" في عيد ميلادها. وأعلن الجابر حينها عن رصد عشرة ملايين دولار كجوائز لتحفيز النشر العربي، إضافة لاستمرار دعمه لمشروع "كتاب في جريدة"، قبل توقفه يا للأسف. ومثل الدعم الخليجي؛ الفردي والجماعي، للعمل الثقافي عين ما تدعو له "اليونسكو"، وما تسعى إليه من جهود نقل المعرفة، التي تدعو للتحضر والتسامح والسلام واحترام التنوع.
ملاحظات خاتمة:
مثلما تضمنت الخطط المعلنة للـ"المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب"، وما اشتملت عليه الإستراتيجية الثقافية لـ"مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، والمبادرات الخليجية مع "اليونسكو"، من الأهداف الكلية، التي تُعْنَى بإغناء شخصية المواطن الخليجي والعربي، وبناء وعيه وقدراته على مواكبة التطور الإنساني. فقد انتبهت أيضاً، وبنصوص جَلِيَّة، لتطوير البنى الفكرية لهما، بوصف الثقافة أساساً لتماسك الأمة وحضارتها، وتنمية العطاء الحضاري، متمسكة بضرورة التشبع بالهوية الحضارية العربية الإسلامية والحفاظ عليها، وتوطيد المضمون القومي الإسلامي، والتصدي لمحاولات الاستلاب الثقافي. وكل هذه المضامين أقرتها مجموعة من المبادئ الموجهة، التي ترتكز على دور الثقافة العربية الإسلامية في التخطيط الثقافي لمجتمعات دول المجلس، كجزء من بناء أمتها المتماسك، والبعد التنموي للثقافة، وأهمية المشاركة الثقافية، واعتبار التراث روحاً ونبع إلهام وليس مجرد نصوص جامدة. ولأن اللغة العربية هي ديوان العرب والمُعَبِّرَة بفصيحها عن هويتهم، فقد أكـدت المبادئ علـى دورها، وأهمية استيعاب حقائق العصر، وضرورة الحوار مع الثقافات الأخرى لإقرار القيم الإنسانية. لذا، فإن دولة مثل الكويت لا تستنكف أن تقول إنها تسترشد بالتقرير العربي للتنمية الثقافية، وبِبَساطة لأنهم يعملون "في مجال الصناعة الثقافية"، ولأن هذه الصناعة تفرض عليهم "التحول إلى مجتمع المعرفة"، تقديراً على أنه "هو المطلب العالمي اليوم." مُدرِكين أنه "ينطوي على أبعاد اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ومؤسسية وغيرها". لذلك، يستوجب "التغيير توجيه اهتمام أكبر لكلٍ من الإبداع وثقافته واستثماره في مختلف القطاعات وبخاصة قطاع الثقافة"، لأمةٍ سادت العالم بلغتها وثقافتها.
إننا عندما نقرأ كلمة "ثقافة"، في كل ما تقدم موجهات واستراتيجيات، نجد أنها لم تأت مرتبطة بدولة، أو منظمة ما، وإنما هي دائماً جامعة للكل العربي، ومتعدية له وبه إلى الحاضنة الإسلامية والإنسانية الأوسع. وهذه الملاحظة تتأتى من تجربة تعاملنا مع مثيلاتها من موجهات واستراتيجيات الدول والمنظمات القُطْرِّيَة، التي تستميت في التركيز على الخصوصية، والإيحاء بما يشبه الاحتكار أن التخطيط الثقافي هو عمل داخل يطل من شُرفة "السيادة" الوطنية إلى الخارج. وتخطر ببالنا صور كثيرة لعمليات "الصناعة" في هذا التخطيط الثقافي، التي قد لا تكون إيجابية في كثير من الأحيان. وقد ترمز، في أذهان بعض الناس، إلى "التسويق"، وما يصحبه عادة من دعاية تجانب في غالب تفاصيلها مقتضيات الحقيقة. والحقيقة المقصودة هنا هي أن العديد من الخطط الثقافية أصبحت تجارية لدرجة أن تقاليدنا، التي نفخر بها صارت معرضة لخطر الاستهانة بها. غير أننا، والحق يُقال، لا يستطيع الكثير مِنَّا حتى تذكر روجت منابر الثقافة في الخليج لدول بعينها بمعزل عن جِمَاع روابطها العربية، أو علائقها الإنسانية. وما اختياري لنموذج الكويت إلا محض اعتراف بإنجازات العمل المنظم الممتدة عبر فضائنا الثقافي العربي. وصار ما تنتجه، مع غيرها من دول الخليج، جزءاً هاماً من ثقافتنا، إنهم يساعدوننا، كما فعلت مصر ولبنان وسوريا والمغرب، وغيرها، في تشكيل هيكل وأساس مجتمعنا، إنهم يساهمون بتذكيرنا بأننا جزء من تاريخ يحدد بالتشارك قسمات ماضينا، ويشكل سمات من نحن اليوم، ومَنْ مِن المحتمل أن نصبح، وبمجرد أن نتجاهل معنى ثقافتنا الجامعة، فإننا في خطر الإضرار بأساس هويتنا العربية. تمكننا الثقافة من عرض مبادئ تقاليدنا، والاحتفاء بالتنوع، والتوحد كدول، وتقدم سياقاً ممتازاً للنظر والتصور والتفكير الهادف.