كان الإعلان عن اتفاقية أمنية جديدة بين الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأستراليا (والتي يشار إليها باسم "أوكوس" AUKUS) مفاجأة كبيرة لأوروبا، حيث كان التفاوض على الاتفاق سريًا، ولم يتم إبلاغ الحلفاء الأوروبيين بأي بنود تخص التحالف الجديد إلا عند الإعلان عنه، وهو ما أثار على الفور التساؤلات حول استمرار العلاقات بين الدول عبر المحيط الأطلسي، ومستقبل العلاقات الأمنية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والأضرار المحتملة التي قد يُلحقها الاتفاق الجديد بحلف الناتو. وبالنسبة لأوروبا، لم تكن هذه هي الطريقة التي تتصورها القارة العجوز لإعادة بدء العلاقات مع إدارة بايدن الجديدة بالولايات المتحدة بعد سنوات من الأزمات التي شهدتها العلاقة بين الجانبين في ظل إدارة الرئيس ترامب.
وكان رد الفعل الأوروبي المبدئي سريعًا وقويًا، نظرًا لأن الإعلان عن الاتفاقية كان يشمل أيضًا فسخ استراليا عقد شراء غواصات بحرية من فرنسا. ولذلك، قال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان: "أنا غاضب وأشعر بالمرارة، لأن هذا لا يتم بين الحلفاء، إنها حقًا طعنة في الظهر".
وأكد وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لو مير، أن اتفاقية "أوكوس" في كوسوفو أظهرت بوضوح أن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة. وعقب الاتفاق، قررت فرنسا سحب سفيريها من كل من الولايات المتحدة وأستراليا، وهي المرة الأولى التي تتخذ فيها فرنسا مثل هذه الخطوة الجذرية في التاريخ الدبلوماسي الطويل مع الدولتين.
لم تقتصر ردود الفعل على المسؤولين الفرنسيين وحدهم، فقد كان التصور الأساسي المشترك المتداول بين مسؤولي السياسة في الاتحاد الأوروبي هو أن الولايات المتحدة ترى أن بريطانيا وأستراليا شريكين استراتيجيين أكثر أهمية لواشنطن من الاتحاد الأوروبي في مواجهتها مع الصين. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، فالاتحاد الأوروبي ببساطة لم يتبن النهج القوي المطلوب الذي تريده الإدارة الأمريكية تجاه الصين. وبالإضافة إلى ذلك، يُنظر إلى إعلان "أوكوس" على أنه دليل إضافي على عدم اعتقاد الولايات المتحدة بأن أوروبا ستعمل على التصعيد عندما يتعلق الأمر بقضايا الدفاع في المحيطين الهندي والهادئ. وتعليقًا على الاتفاق، أكد الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن اتفاقية أوكوس" تعتبر بمثابة "جرس إنذار"، مشددًا على حاجة أوروبا "للتكيف مع هذا الوضع الجديد وتحمل دورها في عبء الحفاظ على السلام والأمن العالمي. " ولكنه أكد، في الوقت نفسه، أن أوروبا تعتبر الاتفاق كسراً للثقة، متوقعًا أن يكون هناك قدرًا كبيرًا من الحساسية الدبلوماسية من واشنطن ولندن وكانبيرا في هذا الصدد.
التوترات بين دول المحيط الأطلسي
يُنظر إلى حقيقة أن الولايات المتحدة قد تفاوضت سراً مع كل من أستراليا والمملكة المتحدة على أنها إشكالية كبيرة في أوروبا، خاصةً أنها تأتي في أعقاب التزام الرئيس بايدن الذي تم تقديمه في قمة الناتو في يونيو 2021م، بأن الولايات المتحدة سوف تتشاور مع حلفائها في جميع القرارات الاستراتيجية الأمريكية الرئيسية. وعلاوة على ذلك، جاء إعلان "أوكوس" في أعقاب الانسحاب المفاجئ والفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان حيث شعرت أوروبا مرة أخرى أنه لم يتم التشاور معها وإبلاغها بالشكل الملائم. وفي وقت لاحق، تركت واشنطن الدول الأوروبية تتدافع في الحصول على مواطنيها ورعاياها الأفغان، مما أثار بدوره الكثير من الأسئلة غير المريحة لمسؤولي السياسة الأوروبية للإجابة حول سبب وجود الدول الأوروبية في أفغانستان من البداية.
يتعلق جوهر اتفاقية "أوكوس" بمستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فمن ناحية، يمكن القول إن إدارة بايدن فشلت في الأخذ في الاعتبار المخاوف والمصالح الأمنية الأوروبية عند بلورة النهج الخاص بالاتفاق. فبدلاً من تنشيط التعاون وتعزيز التعددية بين دول المحيط الأطلسي، والتي من شأنها أن توفر أساسًا مشتركًا يمكن من خلاله معالجة العديد من القضايا العالمية المهمة التي تم تهميشها في ظل إدارة ترامب السابقة، سواء فيما يتعلق بالتغير المناخي أو التعاون الصحي العالمي أو التجارة الدولية، ومستقبل المؤسسات متعددة الأطراف، أو التعامل مع التهديدات المتزايدة القادمة من روسيا والصين. وعلاوة على ذلك، هناك خيبة أمل كبيرة وشعور متزايد بأن واشنطن والعواصم الأوروبية أصبحت تسير في مسارات مختلفة.
ومن وجهة نظر واشنطن، قد يمثل الأمر مشكلة متزايدة الصعوبة، فلم تقتصر قضيتي أفغانستان واتفاقية "أوكوس" على إثارة التساؤلات حول إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة ومستقبل العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وأوروبا، بل أثارت الولايات المتحدة حيرة بين حلفائها الأكثر قوة في أوروبا الشرقية عندما ضمت ألمانيا في مشروع خط أنابيب نوردستريم (الذي سيقوم بتوصيل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر خط أنابيب في بحر البلطيق)، وهو المشروع الذي عارضته بلدان شرق أوروبا بشدة. ولذلك فإن الإدارة السليمة للعلاقات عبر دول المحيط الأطلسي تركت الكثير مما هو مرغوب فيه في هذه المرحلة.
ومن ناحية أخرى، يزداد الخلاف بين دول المحيط الأطلسي. وفي الواقع، هناك اعتراف متزايد في أوروبا بأن شعار واشنطن "أمريكا أولا" لم يتغير كثيرًا في إدارة بايدن عن إدارة ترامب، وعلى الرغم من أن الخطابات الرنانة قد هدأت بالتأكيد في ظل الإدارة الجديدة، فإن جوهر نهج السياسة الأمريكية العامة لم يتغير. وكان الإعلان عن اتفاقية "أوكوس" ببساطة آخر ما حدث في سلسلة من الوقائع التي أكدت على أن سياسات التحالف الأوروبية لا تعني الكثير لواشنطن، عندما يتعلق الأمر بالمصالح الوطنية الأمريكية.
وتجد أوروبا نفسها أمام سؤال كبير: وهو كيف لها أن تضمن أن التوجهات الأوروبية ستجد آذاناً صاغية داخل حكومة الولايات المتحدة الحالية، أو ما إذا كانت هناك عملية إعادة توجيه استراتيجية أساسية في واشنطن تشكك في الأهمية المركزية العامة لعلاقات الدول في المحيط الأطلسي، والتي حددها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية.
الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي ومستقبل الناتو
وقد سلطت اتفاقية "أوكوس" الضوء على حالة الجدل طويل الأمد حول الحاجة إلى الاستقلال الذاتي الاستراتيجي لأوروبا وتعزيز الكفاءة الأوروبية على مسرح الأمن العالمي. وقد قاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المعركة عقب الاتفاقية لتصبح أوروبا أكثر استقلالية وأكثر ثقة، ولأن تكون قادرة بمفردها على مواجهة الولايات المتحدة أو الصين. وقد دعا الاتحاد الأوروبي إلى تطوير استراتيجية مستقلة وإنشاء جيش أوروبي منفصل عن الناتو. وفي ظل الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، والتي بدأت في يناير 2022م، دعت فرنسا بالفعل إلى عقد اجتماع قمة حول قضية الدفاع الأوروبي. وتم اختيار العديد من الأفكار التي طرحها الرئيس الفرنسي من قبل دوائر السياسة الأوروبية الأوسع نطاقًا، حيث أعرب الممثل السامي بوريل عن دعمه لإنشاء قوة رد سريع أوروبية قوامها 5000 جندي. كما كانت فكرة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي أيضًا موضوعًا مهمًا في الاجتماع الأخير لمجلس وزراء الاتحاد الأوروبي في سلوفينيا في بداية سبتمبر 2021م.
ومن الغريب، أن أزمة اتفاقية "أوكوس" اندلعت في نفس الوقت الذي كشف فيه الاتحاد الأوروبي عن استراتيجيته للتعاون في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي هذا الصدد، ذكر الاتحاد الأوروبي في بيان له بأنه "ينوي زيادة مشاركته مع المنطقة" بما في ذلك توسيع وجوده البحري، وتعزيز بناء القدرات الأمنية البحرية، والمساهمة في تعزيز بنية أمن رابطة دول جنوب شرق آسيا. ويؤكد هذا التصور أن الاتحاد الأوروبي كان قلقًا بشكل كبير بشأن التطورات الاستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، نظرًا لمصالحه الخاصة المتنامية في تلك المنطقة. ومع ذلك، ومع إعلان اتفاق "أوكوس"، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه مرة أخرى في موقف دفاعي مع نهجه الواسع والمتوازن الذي تم إلغاؤه من خلال نهج القوة العسكرية الذي تعتبره الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا ضروريًا.
تجد أوروبا نفسها في موقف صعب لعدد من الأسباب؛ أولاً: بالنسبة للصين، تعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر للاتحاد الأوروبي، ولذلك فإن الحفاظ على سبل الوصول إلى السوق الصينية والحفاظ على خطوط الإمداد مفتوحة أمرًا مهمًا للغاية لتعزيز الانتعاش الاقتصادي للاتحاد الأوروبي عقب جائحة كورونا. ومع ذلك، فإن محاولة تبني مسار وسطي عندما يتعلق الأمر بالصين تزداد صعوبة عند تغيير التوازن إلى الشق العسكري، حيث يبدو أن الصين مصممة على تعزيز نفوذها بصفة عامة، وإبراز قوتها. وفي هذه الحالة، تتوقع الولايات المتحدة أن تتخذ أوروبا خيارًا واضحًا وأن تقف إلى جانب واشنطن. فببساطة، لا يوجد حل وسط في هذا الأمر.
ثانيًا، إن الخيارات السياسية لأوروبا محدودة جدًا، نظرًا لعدم وجود خطوات حقيقية لتفعيل النقاش العام حول الاستقلال الاستراتيجي للدول الأوروبية، والذي يدور حول بناء القدرات العسكرية والالتزام بالاستثمار الضروري لتحقيق هذا المسعى؛ فكل الحديث حول دور أوروبي مستقل ضمن المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو أو الحاجة إلى تعاون منظم دائم (وهو جزء من سياسة الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي)، حيث يسعى 25 من 27 من الجيوش الوطنية لتحقيق التكامل الهيكلي للاستقلال الاستراتيجي، بيد أنه لا توجد خطوات تنفيذية حقيقة لهذا المسعى. لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن أولويات الدفاع الأوروبية لم تأخذها الولايات المتحدة على محمل الجد.
ويعزو الكثير مما ذكر أعلاه إلى حقيقة أن قضية الاستقلال الاستراتيجي لا تخلو من الجدل داخل أوروبا، حيث تعارض دول أوروبا الشرقية هذه الفكرة بشكل عام. وأعرب بعض المسؤولين مثل رئيس الوزراء الدنماركي فريدريكسن عن معارضتهم للفكرة. ولذلك فإن التحرك نحو مزيد من الاستقلال أوروبياً يثير التساؤلات حول إمكانية انفصال أوروبا عن واشنطن. وسلطت وزيرة الدفاع الألمانية أنجريت كرامب-كارينباور الضوء على هذه المعضلة في نوفمبر 2020م، عندما صرحت: "أن فكرة الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا غير ممكنة إذا توهمنا بأنه يمكننا ضمان الأمن والاستقرار والازدهار في أوروبا بدون الناتو وبدون الولايات المتحدة الأمريكية." ومؤخراً في خطابها السنوي عن تقييم وضع الاتحاد في سبتمبر 2021م، قامت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بالتشديد على المعضلة الأساسية، وهي أنه "قد يمكنك امتلاك أكثر القوى تقدمًا في العالم -ولكن إذا لم تكن مستعدًا لاستخدامها -فما هي فائدتها؟ "
ما لم تبدأ أوروبا في حل الانقسام في أولوياتها بين الاهتمامات المحلية والإقليمية والأمور المتعلقة بالعلاقات الخارجية واعتبارات القوة، فمن المرجح أن تظل التوترات عبر المحيط الأطلسي دون حل. ولكن الأمر الجيد في هذه المرحلة أن التلميحات حول حدوث شرخ في حلف الناتو أو إضعافه لا تزال مبالغ فيها. فحتى في أعقاب الدعوات إلى انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية المتكاملة لحلف الناتو، قامت فرنسا في الواقع بترشيح قائد أعلى جديد للتحالف، والذي تولى منصبه في نهاية سبتمبر 2021م. كما دعا الرئيس ماكرون إلى تعزيز التعاون الدفاعي الأنجلو-فرنسي، والتأكيد بشكل عام على الانخراط في السيطرة على الأضرار المحتملة وحل الخلافات في نهاية المطاف. كما شدد الممثل السامي بوريل على أهمية العلاقات عبر الأطلسي خلال زيارته لواشنطن في أكتوبر 2021م.
وهكذا تلاشت الصدمة الأولية لإعلان اتفاقية "أوكوس" حول مستقبل النظام الأمني العالمي ودور الولايات المتحدة وأوروبا داخله، بيد أن الأيام القادمة لا تزال تحمل الكثير.