يمر الملف النووي الإيراني بمنعطف جديد منذ أن تولى الرئيس جو بايدن الرئاسة في العشرين من يناير الماضي، حيث كان من قراراته الأولى بعد أداء اليمين الرئاسي، العودة إلى التفاوض حول البرنامج النووي الإيراني الذي ألغاه سلفه الرئيس ترامب، ورغم أن البيت الأبيض يتحدث عن عدم تقديم تنازلات لإيران في هذه المفاوضات، إلا أن طهران فهمت المبادرة أو الرسالة الأمريكية على طريقتها المعتادة فزادت من التخندق ورفع سقف المطالب وساعدها على ذلك مواقف الدول المناوئة لأمريكا مثل الصين وروسيا وكذلك موقف دول الاتحاد الأوروبي المؤيدة لإعادة المفاوضات بدافع المصالح التجارية التي تعود بمنافع اقتصادية على دول الاتحاد.
إيران تستخدم عدة أوراق في آن واحد، ومنها السرعة في زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي في المفاعلات النووية المعلنة أو السرية، مع زيادة كمية اليورانيوم ونسبة تخصيبها التي وصلت إلى 20%، وكذلك برنامجها الصاروخي الباليستي بعيد ومتوسط المدى، إضافة إلى دعم الميلشيات التي هي أذرعها المسلحة في المنطقة ومنها ميليشيات الحوثي في اليمن، و حزب الله في لبنان، وتظن طهران أن المسارعة في هذا التصعيد متعدد الأوجه سوف تعزز موقفها في التفاوض على البرنامج النووي مع أمريكا، وكذلك تشتيت اهتمامات الجانب الأمريكي وإشغال منطقة الخليج بقضايا متفرقة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في التفاوض مع الولايات المتحدة.
يقابل ذلك إشارات غامضة وبطيئة من جانب الولايات المتحدة وقد يكون ذلك له أسباب متعددة سواء كانت مقصودة، أو نتيجة لانشغال إدارة بايدن في تأخر ترتيب أولوياتها الخارجية إلى ما بعد الانتهاء من ترتيب البيت الأمريكي من الداخل حيث مازال من المبكر التفرغ للسياسة الخارجية والانكفاء على الشأن الأمريكي الداخلي على حسب ما يرى المحللون، لكن نحن في دول مجلس التعاون الخليجي لدينا عدم ارتياح لتوجهات الإدارة الأمريكية نحو منطقة الخليج، حيث مازالت الإشارة الواردة من واشنطن بطيئة ومترددة وغير حاسمة وربما متناقضة، ففي الوقت الذي أعلنت فيه المملكة العربية السعودية مبادرتها لوقف إطلاق النار في اليمن، مازالت ميليشيات الحوثي مستمرة في إطلاق الطائرات المسيرة المفخخة والصواريخ الباليستية صوب الأهداف المدنية في المملكة، كما يأتي الرد الحوثي على المبادرة بتلكؤ ومراوغة على حساب بؤس الشعب اليمني الذي اتخذته رهينة وأملاً في المزيد من المرونة السعودية بما يحقق لها الاعتراف كقوة حاكمة في اليمن مع أنها مغتصبة للسلطة بالقوة باعتراف المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن، وذلك في الوقت الذي تهدف فيه المبادرة السعودية إلى تخفيف معاناة الشعب اليمني الذي فرضها الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران، كما لا يخفى على الولايات المتحدة وكل دول العالم أن الأسلحة التي تستخدمها الميلشيات الحوثية ضد المملكة هي أسلحة إيرانية، وللأسف يأتي ذلك في الوقت الذي عطلت فيه واشنطن صفقة أسلحة للسعودية والإمارات كانت قد أبرمتها الإدارة السابقة.
موقف الإدارة الأمريكية الحالية تجاه المملكة العربية السعودية ودول الخليج، لا ينسجم مع طبيعة العلاقات التاريخية والاستراتيجية التي تربط الجانبين منذ اللقاء التاريخي بين جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ــ طيب الله ثراه ــ والرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت عام 1945م، بقناة السويس، وعزز هذه العلاقات ما يشهده حجم وقيمة التبادل التجاري والعسكري والتنسيق المشترك في مجالات كثيرة بين دول مجلس التعاون والإدارات الأمريكية المتعاقبة.
ورغم التصريحات الإيجابية التي تصدر عن المسؤولين الأمريكيين تجاه المملكة ودول مجلس التعاون، فإن ما تريده دول المجلس في هذه المرحلة الضبابية، هو مواقف واضحة وقرارات حاسمة تحقق الأمن والاستقرار للمنطقة، وألا تكون هذه مجرد أوراق في مفاوضات سرية أو علنية بين واشنطن وطهران دون مشاركتها، وألا تكون مجرد مساومات بين أطراف دولية وإقليمية، وألا تحقق لإيران غايتها في إشغال دول الخليج وانكفائها على أزمات مختلقة بقصد إبعادها عن المشاركة الفاعلة في تقرير مصير المنطقة، خصوصًا أن مطالب دول الخليج واضحة وموضوعية وتؤسس لعلاقات جوار طبيعية مع إيران دون ابتزاز أو مساومات وتدخل في الشؤون الداخلية، مع ضرورة إنهاء الصراعات الداخلية في دول المنطقة التي تستخدمها إيران كأوراق سياسية، ومنصات عسكرية لتهديد دول الجوار كما تفعل في اليمن حاليًا.
في اعتقادي أن المرحلة الحالية يجب ألا تطول، وألا تغض واشنطن الطرف عما يحدث في المنطقة أكثر من ذلك لأن سياسة الاسترخاء تعطي إيران الفرصة لتحولها إلى قوة عسكرية نووية وتلتحق بدول النادي النووي وتفرض سياسة الأمر الواقع، وهذا ما يؤسس إلى سباق نووي عسكري ظلت ترفضه دول مجلس التعاون الخليجي لسنوات طوال ، ولكن ربما ضرورات التوازن الاستراتيجي وإرساء مبدأ الردع النووي يفتح المجال واسعًا ويصعب السيطرة عليه خاصة أن النووي الإيراني والصواريخ الباليستية في يد نظام توسعي وغير عاقل ويتعامل مع الميليشيات غير المنضبطة.
استرخاء الإدارة الأمريكية ومحاولة إرضاء إيران وانتزاعها من التقارب مع الصين وروسيا على حساب دول الخليج، ليس في مصلحة أمريكا من الناحية الاستراتيجية، أو على استقرار منطقة الشرق الأوسط، أو على العلاقات الخليجية ـ الأمريكية، حيث سيؤدي ذلك إلى تغير التحالفات التقليدية التي استمرت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما يؤدي أيضًا إلى تنويع مصادر التسليح، وعدم الاعتماد على دولة واحدة، وكذلك انخراط دول المنطقة في تكتلات اقتصادية جديدة وهذا ما ينعكس على أسواق الطاقة واتجاهات تسويق هذه السلعة الاستراتيجية، وفي اعتقادي أن المملكة العربية السعودية قدمت كل ما يمكن أن تقدمه وكان أخرها مبادرة وقف إطلاق النار في اليمن وتنتظر الرد الإيجابي من الولايات المتحدة، ونتمنى ألا يطول هذا الانتظار.