يبدو أن تلويح أمريكا بالتوجه شرقًا إلى بحر الصين منذ العقد الماضي، وما يُثار حاليًا عن بناء حلف من كوريا الجنوبية، والهند، وأستراليا لمواجهة التمدد الصيني وتعطيل بروزها كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة، وبدأ عصر عالم ثنائي القيادة، بمثابة محاولات أمريكية للتلويح بأنها ما زالت القوة الأعظم في العالم، لكن واشنطن تدرك حقيقة الصعود الصيني وترى أنه واقع لا محال، في المقابل تعلم الصين أنها وصلت لمرحلة ما بعد تعادل القوة مع أمريكا، وبدأت في التخلي عن سياسة الحذر والانطواء، وبدأت التكشير عن الأنياب وإظهار المخالب، وهو ما قابله الرئيس بايدن بدعم التحالف المناوئ لبكين في شرق آسيا والمكون من الهند، وكوريا، وأستراليا، وفي أثناء ذلك ظهرت مخاوف بايدن من انضمام إيران إلى التكتل الصيني/ الروسي لذلك لجأ إلى مهادنة طهران بإعلانه التفاوض حول البرنامج النووي ورفع العقوبات الاقتصادية، وغض النظر عن الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران في المنطقة كميليشيا الحوثي في اليمن وحزب الله في لبنان.
لكن يبدو أن التحركات الأمريكية تجاه الصين مغلولة، وأن المعادلة فعلاً تغيرت ولا تستطيع واشنطن تنفيذ كل ما تريد لأسباب كثيرة منها الوضع الأمريكي الداخلي الذي كشفته الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما أظهرته من انقسامات مجتمعية، وتراجع في القيم الليبرالية التي وضعتها واشطن لنفسها وأرادت تصديرها للخارج، إضافة إلى تداعيات جائحة كورونا التي أماطت اللثام عن حالة الضعف في الداخل الأمريكي حيث بدت واشنطن مترنحة أمام هذه الجائحة مع عجز كدولة من دول العالم الثالث.
في السياسة الخارجية، تبدو معاناة أمريكا من عدم دقة البوصلة التي ترسم سياساتها ، ففي الوقت الذي يتحدث فيه الرئيس بايدن عن إدارة المفاوضات مع إيران بشأن ملفها النووي، لم تضيع طهران الفرصة للضغط على الإدارة الأمريكية وابتزازها، وكلما تقدمت واشنطن خطوة، هجمت إيران بشراسة لانتزاع المزيد من المكاسب لأنها تدرك رغبة واشنطن، وأيضًا قوتها والتحديات التي تواجهها والأوراق التي تلعب بها، وتدرك أن لدول الاتحاد الأوروبي علاقات اقتصادية مع طهران ولن ترهن قرارها بيد واشنطن المتراجعة أمام الصين، وأيضًا تعلم أن بكين لن تضيع فرصة التعاون مع طهران الشريك الاقتصادي الكبير وأحد أهم مصادرها النفطية، وكذلك ارتفاع نبرة الانتقادات الروسية على لسان بوتين للرد على تصريحات بايدن بالتهديد والوعيد وكأن موسكو تستعد لحرب باردة جديدة.
كل هذا التكالب الدولي على واشنطن يأتي في ظل غياب إرادة أمريكية واضحة و رؤية دخلت مرحلة رمادية في النظر إلى حلفائها القدامى وفي مقدمتهم دول مجلس التعاون الخليجي، ويبدو أنها تحاول إرضاء إيران لتحييدها في قضية الصراع مع الصين، لكن هذا الخيار متعثر وستمضي إيران نحو الصين وروسيا فالدولتان هما وراء البرنامج النووي الإيراني والتعاون الاقتصادي، وأخيرًا جاءت الاتفاقية التي وقعتها طهران وبكين يوم السبت 26 مارس الماضي، بمثابة ضربة قاسمة للمحاولات الأمريكية لاحتواء إيران، وهي اتفاقية تعاون استراتيجية لمدة 25 سنة بين البلدين يتم بموجبها استثمار الصين 400 مليار دولار في عشر مجالات بإيران، وفي المقابل ستحصل الصين على إمدادات نفط إيرانية بصفة منتظمة وبأسعار منخفضة للغاية، وشملت الاتفاقية تعميق التعاون العسكري بين بكين وطهران بما في ذلك البحوث المشتركة وتطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
الإعلان عن هذه الاتفاقية وإن لم يكن مفاجأة لواشنطن، لكن يبدو التوقيت هو المفاجئ حيث جاء ذلك مواكبًا لسياسة التحدي المعلنة التي تمارسها بكين وغير المعتادة تجاه واشنطن ولعل أحد مظاهرها وفي عقر الدار الأمريكي هو تراشق وفدان أمريكي وصيني بألفاظ تجاوزت حد الدبلوماسية ، ففي اجتماع مشترك رفيع يوم الخميس 18 مارس 2021م، بمدينة أنكوراج بولاية ألاسكا الأمريكية، حيث انتقد الوفد الصيني ما وصفه بالديموقراطية الأمريكية المتعثرة وسوء معاملة الأقليات وسياسات واشنطن الخارجية والتجارية، وأن أمريكا تستغل قوتها العسكرية وسطوتها المالية لفرض وصاية طويلة الأمد وقمع الدول الأخرى، وأنها تسيء استخدام ما يسمى بمفاهيم الأمن القومي لعرقلة التعاملات التجارية الطبيعية وتحريض بعض الدول على مهاجمة الصين.
أمريكا مطالبة بوضع استراتيجية خارجية جديدة تجاه الشرق الأوسط ومنطقة الخليج وأن تتمسك بحلفائها التقليديين وأن تقرأ طبيعة التغيرات في موازين القوى الجديدة حتى لا تخرج من قمرة قيادة العالم بدلاً من البقاء في نصفها.