الهند لديها جميع الأسباب التي تجعلها تفتقد دونالد ترامب. ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي السابق يتجاهل حلفاء بلاده القدامى والانتماءات والالتزامات الدولية، تجده قد أولى أهمية قصوى للعلاقات مع الهند، والتي تجلت بشكل دوري في مشاهد غير عادية من العلاقات العامة بين القادة الأمريكيين والهنود.
وانضم ترامب إلى رئيس الوزراء ناريندرا مودي في حدث يسمى "هودي مودي" في هيوستن، تكساس، في سبتمبر 2019م، وحضره 50000 هندي مقيم في أمريكا، إذ حثهم رئيس الوزراء على التصويت لترامب في الانتخابات. وفي المقابل، عقد مودي حدثًا عامًا تكريمًا لترامب في أحمد آباد، بولاية غوجارات مسقط رأسه، في فبراير 2020م، وحضره 100 ألف معجب هندي برئيس الوزراء والرئيس الأمريكي، وبعد كل هذا الحماس، إلى أين ستذهب العلاقات الهندية / الأمريكية في ظل رئاسة بايدن؟
سياسة بايدن الخارجية
في عدد مارس / أبريل 2020م، من مجلة فورين أفيرز، حدد بايدن، رؤيته للسياسة الخارجية خلال فترة رئاسته، وانتقد سياسات ترامب وأظهر كيف أن نهجه هو سيكون أفضل لأمريكا والعالم. ومن وجهة نظره، كانت أوجه القصور الخطيرة التي يعاني منها ترامب هي: تنفير الشركاء والحلفاء والحروب التجارية غير الحكيمة والتنازل عن القيادة الأمريكية والتخلي عن تعزيز القيم الديمقراطية، وكل ذلك "شجع خصومنا" وعزز التحديات الأمنية القادمة من مصادر متنوعة مثل كوريا الشمالية وإيران وسوريا وأفغانستان وفنزويلا.
ووصف الصين بأنها "تحد خاص". وأشار إلى أنها "تلعب لعبة طويلة من خلال توسيع نفوذها العالمي وتعزيز نموذجها السياسي الخاص والاستثمار في تقنيات المستقبل". ومن دون استخدام مصطلح "المحيطين الهندي والهادئ"، تحدث عن إعادة بناء التحالفات مع أستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، والشراكات من الهند إلى إندونيسيا "لتعزيز القيم المشتركة في منطقة ستحدد مستقبل الولايات المتحدة".
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، تعهد بإنهاء "الحروب الأبدية" وإعادة القوات إلى الوطن من أفغانستان والشرق الأوسط، وأن السياسة الأمريكية ستهتم بشكل خاص بهزيمة تنظيم القاعدة وداعش. وأكد أن أمريكا ستعود إلى الاتفاق النووي مع إيران ثم تسعى بعد ذلك إلى "صد أنشطة إيران الأخرى المزعزعة للاستقرار". كما قال إنه في السنة الأولى في ولايته، سيعقد "قمة عالمية من أجل الديمقراطية" لتعبئة الرأي العام العالمي ضد الفساد والاستبداد وتعزيز حقوق الإنسان.
وبعد أسبوعين من أدائه اليمين الدستورية، خاطب بايدن المسؤولين في وزارة الخارجية أنه إلى جانب التركيز على الحاجة إلى إصلاح العلاقات مع الحلفاء، بدا أن تركيزه ينصب على روسيا واحتجاز زعيم المعارضة، أليكسي نافالني. وفيما يتعلق بالصين، أكد من جديد أنها تشكل تحديات كبيرة لبلاده وقيمها. ولكنه شدد على الحاجة إلى بناء القدرات المحلية واستعادة سلطة أمريكا على المسرح العالمي من أجل الدفاع عن مواقفها بشكل أكثر فاعلية، بدلاً من التأكيد على الانقسام الأيديولوجي مع الصين، كما فعلت إدارة ترامب.
لم يتأثر المحللون بشكل خاص حتى الآن بإعلان السياسة الخارجية لبايدن في وزارة الخارجية. ولم يجد الكاتب الهندي، هارش بانت، أي "أجندة متماسكة" للتعامل مع الحقائق العالمية المتغيرة، ويرى في "هوس" بايدن بروسيا عدم القدرة على التعامل مع سيناريو ما بعد الحرب الباردة. وفيما يتعلق بالصين أيضًا، وجد خطابًا طويلًا للرئيس ولكن دون "موقف متسق" لمواجهة "الصين المتزايدة الثقة". ويشير، على سبيل المثال، إلى أن عدم وجود موقف متسق بشأن منطقة المحيطين الهندي والهادئ سيكون مصدر قلق للدول الإقليمية التي يتعين عليها أن تواجه صعود الصين في الوقت الفعلي.
العلاقات الهندية / الأمريكية
كانت العلاقات بين ترامب ومودي تمثل تتويجًا لما تم من تعزيزٍ للعلاقات الثنائية على مدار العشرين عامًا الماضية. ففي أكتوبر 1999م، رفع الرئيس كلينتون العقوبات التي كانت بلاده قد فرضتها على الهند بعد تجاربها النووية في مايو 1998م، وبدأت فترة طويلة من المشاركة الكبيرة بين الجانبين. وفي أثناء رئاسة بوش، قال مسؤول أمريكي إن بلاده "ستساعد الهند على أن تصبح قوة عالمية كبرى"، حتى مع استمرار الإدارة في تنفيذ الاتفاق النووي المدني مع الهند منذ عام 2005م. وقد اكتملت هذه العملية عام 2008م، عندما رتبت واشنطن عقد تنازل من "مجموعة الموردين النووية"، وبالتالي إنهاء العزلة النووية للهند وتمهيد الطريق لتحسين العلاقات الاستراتيجية بشكل كبير.
وخلال إدارة أوباما، أصدر البلدان "رؤية استراتيجية مشتركة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ والمحيط الهندي"، في حين صنفت واشنطن الهند باعتبارها "شريكًا دفاعيًا رئيسيًا". وبعد الهجمات على مومباي في نوفمبر 2008م، زودت واشنطن الهند بمعدات وتكنولوجيا دفاعية، مثل: طائرات النقل الثقيل وطائرات المراقبة البحرية وطائرات الهليكوبتر الهجومية والمدفعية الخفيفة المتحركة. وقد عززت هذه المعدات والتكنولوجيات الدفاعية من قدرات الهند على مكافحة الإرهاب في المرتفعات والمناطق البحرية.
وأشرفت إدارة ترامب على توسع هائل في العلاقات الأمنية والدفاعية، مع التركيز على التشغيل المتبادل للمعدات والتدريب. وشمل ذلك تدريبات برية وبحرية واتفاقيات دفاعية مختلفة -تشمل الخدمات اللوجستية والاتصالات والأمن – والتي جسدت العقائد والممارسات العسكرية للبلدين.
"الهند والمحيط الهادئ"
من الواضح أن العلاقات الأمنية بين الهند وأمريكا تطورت استجابةً للمخاوف المشتركة بين الهند والولايات المتحدة بشأن صعود الصين. وفي عام 2011م، اقترحت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، هيلاري كلينتون، "محور" القوات الأمريكية في غرب المحيط الهادئ، في محاولة لاحتواء توسع القدرات العسكرية للصين، ولا سيما وجودها البحري الذي يدعم مطالبها بالجزر والمساحات المحيطية الأوسع في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي.
كان لتركيز واشنطن على غرب المحيط الهادئ تأثيران على الهند: الأول، أنه جذب الهند تدريجيًا إلى مفهوم "المحيطين الهندي والهادئ" الذي احتضن غرب المحيط الهادئ والمحيط الهندي بوصفه "مسرح جيوسياسي واحد متكامل". وقد استكشفت أستراليا والهند واليابان هذه الفكرة في البداية على المستويين الأكاديمي والسياسي قبل أن يستخدمها المسؤولون الأمريكيون في عام 2017م: ففي ديسمبر 2017م، حددت واشنطن "منطقة المحيطين الهندي والهادئ" باعتبارها مسرح جديد في استراتيجيتها للأمن القومي؛ وفي مايو 2018م، أعادت أمريكا تسمية "قيادة المحيط الهادئ" باسم "قيادة المحيطين الهندي والهادئ".
وكان التأثير الثاني هو أن الهند، التي اتبعت سياسة "النظر شرقًا" لتوسيع علاقاتها الاقتصادية مع دول جنوب شرق آسيا منذ أوائل التسعينيات، واعتبارًا من أغسطس 2014م، بدأت رسميًا في وصف نهجها باسم "العمل شرقًا". وقد وضع هذا التغيير في المصطلحات نهجين جديدين للجغرافيا السياسية الإقليمية: أولاً، تضم المنطقة التي تبناها المفهوم، إلى جانب المحيط الهندي، منطقة غرب وجنوب المحيط الهادئ بأكملها؛ وثانيًا، يشير المصطلح الجديد إلى أن "منطقة المحيطين الهندي والهادئ" ستكون مفهومًا أمنيًا، وليست مجرد منطقة للتعاون الاقتصادي، كما كان نهج "النظر شرقًا".
بعد ذلك، ازدهرت العلاقات الأمنية بين الهند والدول المعنية: على سبيل المثال، من عام 2014م، وسعت الهند واليابان تعاونهما في تبادل المعلومات الاستخباراتية في تكنولوجيا الدفاع وزادا من تدريباتهما البحرية المشتركة. كما تلقت العلاقات الأمنية مع أستراليا دفعة تعزيزية: إذ بدأ البلدان بمناورات بحرية ثنائية، ثم توسعت بعد ذلك لتشمل تدريبات جوية وجيشية، ثم نمت لتشمل الحوار الثلاثي بين اليابان وإندونيسيا.
كان أبرز التفاعلات البحرية هو "الحوار الأمني الرباعي"، الذي يجمع أمريكا والهند واليابان وأستراليا، والتي تجتمع سنويًا على المستوى الوزاري اعتبارًا من عام 2019م. ويُستكمل هذا التفاعل بالعديد من منصات الحوار الإقليمية الثنائية والثلاثية مع هذه البلدان الأربعة، وكذلك دول إقليمية وخارجية أخرى، مثل ميانمار وفيتنام وفرنسا والاتحاد الأوروبي.
الآثار المترتبة على تحالف الهند "منطقة المحيطين الهندي والهادئ"
يشير السرد المتعلق بخيار الهند المشترك في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى أن الهند دخلت في هذا التحالف دون تقدير كامل لتداعياته على المصالح الأمنية الحقيقية للهند، وعلى وجه التحديد، علاقاتها مع الصين، أو أنها رغم استيعابها لتلك التداعيات، لا تزال تقرر المضي قدمًا في توسيع وتعزيز علاقاتها البحرية مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الصين.
وصحيح أنه منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت الهند خطوات توسع الصين المستمر في كل من جوارها في جنوب آسيا وفي منطقة المحيط الهندي الواسعة -وكلتا المساحتين تعتبرهما الهند مركزين لمصالحها الاستراتيجية.
وقد تجمعت مخاوف الهند فيما يتعلق بانتهاكات الصين في جوارها وفي منطقة المحيط الهندي في مبادرة الصين الرئيسية ومبادرة الحزام والطريق. وهي المبادرة التي اعتزمت، من خلال خطابين رئيسيين ألقاهما شي جين بينغ في عامي 2013 و2014م، الربط اللوجستي عبر كل من الكتلة الأرضية الأوروبية الآسيوية والمحيط الهندي على التوالي. ونظرًا لضعف الاتصال الإقليمي ومتطلبات التمويل الهائلة لتطوير البنية التحتية، فقد تم الترحيب بمبادرة الحزام والطريق على نطاق واسع في الميادين البرية والبحرية.
ولقد قرع دخول الصين إلى جنوب آسيا ومنطقة المحيط الهندي، مع سخائها المالي الكبير في ظل مبادرة الحزام والطريق، أجراس الإنذار في الهند. واستجابت الهند لهذه التحديات بجهد من ثلاث محاور لبناء القدرات:
(1) تحسين قدراتها البحرية ومرافق الموانئ بقدر كبير.
(2) تعزيز العلاقات مع الدول المطلة على منطقة المحيط الهندي.
(3) السعي إلى إقامة التحالفات مع القوى الكبرى الأخرى في المنطقة التي تشاطرها مخاوفها فيما يتعلق بتوسع نفوذ الصين في المنطقة.
ومن أجل تحقيق المحور الثالث أعلاه، بدأت الهند، من عام 2015م، في تطوير العلاقات مع اليابان وأستراليا، والولايات المتحدة. وسعت الدول الثلاث الأخيرة، التي كانت بالفعل في تحالف ضد النفوذ المتزايد للصين، إلى إشراك الهند في تحالفها. ولكن الهند، من جانبها، كانت في البداية مترددة.
وكان هناك سببين لهذا التردد: يتمثل أحدهما، في أن المخاوف الأمنية الرئيسية والملزمة للهند كانت واقعة فعلياً على الأرض – خط حدودي غير مرسم مع الصين يبلغ 4000 كم، والمشار إليه بخط التحكم الفعلي (LAC)، وخط التحكم الفاصل مع باكستان الذي يبلغ طوله 1200 كم. وتضم هذه الحدود الجزء الأكبر من القوات المسلحة الهندية المتمركزة هناك وشهدت صراعًا فعليًا بشكل دوري.
ثانيًا، فيما يتعلق بالمجال البحري، تمثلت المنطقة ذات الأهمية للهند في المحيط الهندي، وليس غرب المحيط الهادئ، حيث شعرت أمريكا واليابان وأستراليا بالتحدي بسبب مطالبات الصين المتعلقة المحيطات. وبينما كانت الهند على استعداد للنظر في إنشاء التحالفات والشراكات الفضفاضة في المنطقة، إلا أنها لم تكن مهتمة بـ "تحالفات الاحتواء" ضد الصين. وفي الواقع، أشار رئيس الوزراء، مودي، في خطابه في حوار شانغريلا في عام 2018م، إلى "التحولات في القوى العالمية"، وأصر على أن يكون النظام الجديد "حرًا ومنفتحًا وشاملًا"، وكرر دعم الهند لنظام عالمي متعدد الأقطاب. والتي ستكون الهند ركيزة أساسية له.
ويبدو الآن أنه بين عامي 2017 و2020م، انخفضت مقاومة الهند للانضمام إلى جبهة بحرية معادية للصين تدريجيًا: ففي عام 2017م، رفضت الهند الدعوة الصينية لحضور منتدى الحزام والطريق وأصرت رسميًا على أن "مبادرات الاتصال يجب أن تستند إلى القواعد الدولية المعترف بها عالميًا، والحكم الرشيد وسيادة القانون والانفتاح والشفافية والمساواة ".
ومنذ عام 2018م، بدأت الهند في بناء شراكات مع الفاعلين من منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بحيث أصبحت الولايات المتحدة واليابان وأستراليا وفرنسا "شركاء طبيعيين" لها في المنطقة. وبحلول عام 2020م، كما يقول بارواه، كان لرؤية الهند للمحيط الهادئ -الهندي "إطار عمل وأولوية واضحين باعتبارهما مسرحًا للفرص" وشعرت الهند بالثقة الكافية للبحث عن "دور أكبر لنفسها في المنطقة الأوسع".
ولكن، كما ستكشف الأحداث قريبًا، تجاهلت الهند، بالانضمام إلى تحالف المحيط بقيادة الولايات المتحدة، المجالات الرئيسية لمخاوفها الأمنية؛ كما أشار مستشار الأمن القومي الهندي السابق، شيفشانكار مينون، في مقالته عن الشؤون الخارجية في عدد سبتمبر / أكتوبر 2020م "من غير المرجح أن تقدم الولايات المتحدة حلولًا كاملة لمشكلتي الأمن الرئيسيتين في الهند، الصين وباكستان. وتتفق نيودلهي وواشنطن في التعامل مع الاستراتيجية البحرية، ولكن ليس بشأن ما يتعين القيام به في البر الرئيسي الآسيوي ".
المواجهة الصينية الهندية في لاداخ
اعتبارًا من أبريل 2020م، شهدت القوات الهندية والصينية آخر مواجهة حدودية، هذه المرة في لاداخ، غرب إقليم لاداخ الاتحادي، في شمال الهند. وفي اشتباك بين القوتين في يونيو، قُتل نحو عشرين جنديًا هنديًا، إلى جانب عدد غير معروف من الصينيين. وعلى الرغم من وجود مواجهات أصغر على الحدود في وقت سابق -في 2013 و2014 و2017م -إلا أنها كانت الأخطر منذ حرب 1962م.
أدت هذه المواجهة إلى نهاية مفاجئة لفترة طويلة نسبيًا من العلاقات الثنائية الدافئة والمثمرة، والتي ظهرت بشكل خاص خلال التفاعلات العديدة على مستوى القمة بين مودي والرئيس شي جين بينغ.
يبدو أن هذه المواجهة تمثل رد الصين الحاد على التحول المطرد في الموقف الإقليمي للهند لصالح الاصطفاف مع الولايات المتحدة وحلفائها ضد الصين. وعلى وجه التحديد، نظرت الصين بقلق عميق إلى العلاقات الأمنية والدفاعية القوية والمتوسعة بسرعة بين الهند والولايات المتحدة، ولا سيما قابلية التشغيل البيني بين القوات المعنية بعد شراء الهند لمعدات دفاعية أمريكية، واتفاقيات الدفاع الثنائية، وانتشار التدريبات المشتركة. وحدثت هذه التطورات بالتزامن مع ارتباط الهند رفيع المستوى مع "الخطة الرباعية" المناهضة للصين وغيرها من المفاوضات البحرية الأخرى على مدى السنوات القليلة الماضية.
من المحتمل جدًا أن تكون الصين قد خلصت في أواخر عام 2019م، أو أوائل عام 2020م، إلى أن العلاقات الهندية الأمريكية قد “تجاوزت نقطة اللاعودة" وأن الهند سوف تؤيد الولايات المتحدة في المنافسة الصينية الأمريكية المستمرة. ومن ثم، مع المواجهة الأخيرة، ربما سعت الصين إلى تذكير الهند بأن "الولايات المتحدة ليست الحل لمشكلة الصين في الهند عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الصين على الأرض".
في حين أن العديد من المعلقين الهنود قد رأوا في هذه المواجهة خطة صينية أكبر لتقليص مكانة الهند الإقليمية، فمن المحتمل أن المواجهة ربما لم يكن لها أي أجندة جيوسياسية أكبر، ولكن كان من المفترض بل كان من المقصود منها فقط تقديم درسًا فظاً للهند بشأن حقائق الجغرافيا وتذكيرًا بمخاوفها الأساسية. وتم اقتراح ذلك من خلال المبادرة الصينية اعتبارًا من أوائل فبراير 2021 للعمل مع الهند للحد من التوترات في لاداخ وبدء فك اشتباك القوات في "خط التحكم الفعلي".
العلاقات الهندية-الأمريكية في ظل إدارة بايدن
حتى هذه اللحظة، كانت معظم المؤشرات من واشنطن إيجابية فيما يتعلق بالعلاقات الهندية الأمريكية تحت إدارة بايدن؛ ففي أغسطس من العام الماضي، أكد بايدن خلال مخاطبته الجالية الهندية-الأمريكية في خضم المواجهة الجارية على الحدود، أنه سيقف مع الهند في "مواجهة التهديدات التي تواجهها على طول حدودها"، مضيفًا أنه من خلال العلاقات الهندية-الأمريكية "سيكون العالم مكانًا أكثر أمانًا". وفي أوائل فبراير من هذا العام، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية أن الحكومة الأمريكية كانت "تشعر بالقلق إزاء أسلوب بكين المتمثل في المحاولات المستمرة لترويع جيرانها" وأكد "أننا سنقف بجانب الشركاء".
وفي نفس الوقت، فإن هنالك مؤشرات على أن العلاقات الهندية-الأمريكية في عهد بايدن قد لا تشهد نفس الازدهار والتوفيق المتبادل الذي شهدته في عهد ترامب؛ فبعد أن تحدث كلا من بايدن ومودي إلى بعضهما البعض هاتفيًا في الثامن من فبراير، أصدرت الحكومتان بيانات رسمية مختلفة للغاية حول المحادثة؛ مما دفع المعلق الهندي للتساؤل "عما ما إذا كنتم تقرأون تقريرًا عن نفس المحادثة."
ولقد تحدثت قراءات البيت الأبيض عن الحاجة إلى "التعاون الوثيق من أجل تعزيز حرية وانفتاح المحيط الهندي-الهادي" وحرية الملاحة وتعزيز الساحة؛ واختتمت بالقول إن بايدن "أكد على رغبته في الدفاع عن المؤسسات والقواعد الديموقراطية حول العالم" وأن "الالتزام المشترك بالقيم الديمقراطية هو حجر الأساس للعلاقات الأمريكية-الهندية."
كما أكد البيان الهندي على الحاجة إلى "ضمان النظام الدولي القائم على القواعد إلى جانب منطقة المحيط الهندي الحرة والمنفتحة والشاملة"؛ ولقد صيغت هذه العبارة لإرضاء الولايات المتحدة وفي نفس الوقت عدم عزل الصين، وهو تلميح إلى أن الهند يمكنها بمرور الوقت أن تراجع دعمها التام لجدول أعمال الولايات المتحدة في "المحيط الهندي-الهادي" من خلال التركيز على منطقة المحيط الهندي-الهادي "الحرة والمنفتحة والشاملة.
بيد أن الإشكالية بالنسبة للعلاقات الهندية-الأمريكية تكمن في التزام بايدن بالقيم الديمقراطية وتأكيده الواضح على أن هذا الالتزام المشترك سيكون "حجر الأساس" للعلاقات مع الهند. ففي أوائل فبراير، أشار المعلق "كونستانتينو تشافير" إلى أن "نيو دلهي متخوفة بشأن الوقوع تحت وطأة نظام كشف الحريات الأمريكي، ومثال على هذا ما يخص كشمير وحرية الصحافة وحقوق الأقليات". وعلى غرار ذلك، صرح تي بي سرينيفاسان بأن الحكومة الهندية ستكون قلقة بشأن "مناصرة بايدن لحقوق الإنسان والحرية الدينية والممارسات الديمقراطية؛ حيث كان ترامب يتجاهل تلك الأمور".
توقعات سياسة الهند الخارجية
إن الحكمة التقليدية في الهند في الوقت الحالي هي أنه عقب مواجهات لاداخ، ستلجأ الهند إلى الولايات المتحدة بهدف تعزيز قدراتها الدفاعية؛ ومن شأن هذا أن يعزز القدرة على التشغيل المتبادل وتوثيق الشراكة في المحيط الهادي الهندي. ولقد وجه الكاتب الهندي، براهما شيلاني، نداءً قويًا إلى بايدن للحفاظ على العلاقات مع الهند على صعيد الجوهر والتنوع المكتسبين خلال إدارة ترامب، بيد أن ما عجز شيلاني عن تناوله هو كيف أن هذه "المواءمة الأساسية" مع الولايات المتحدة ستساعد الهند في صدامها العسكري مع الصين في لاداخ، وعلى الأرجح في الحدود غير المرسمة.
وتتضح بالفعل بعض الجوانب العامة من سياسة الهند الخارجية بعد شهر من دخول بايدن البيت الأبيض، حيث كانت المواجهة في لاداخ تجربة مريرة بالنسبة للهند؛ فلقد أكدت على حدود العلاقات الأمنية بين الهند والولايات المتحدة وحماقة التدخل الهندي في غرب المحيط الهادي والحاجة إلى تركيز الاهتمام الوطني والموارد في المجالات التي تهم بايدن بخصوص الهند وهي: الحدود والجيران والمحيط الهندي.
ومن هذا المنطلق، فإن إعادة بناء العلاقات مع الصين ستكون اهتمامًا ذي أولوية، وبالرغم من أن استعادة الثقة ستستغرق وقتًا، فما يمكن أن يساعد هو أن تخف الهند من تركيزها الكبير على "المحيط الهندي-الهادي" والاعتراف بأن المحيط الهندي هو الذي تكمن فيه مصالحها بالفعل. ولقد صرح وزير الخارجية الهندي السابق، فيجاى جوكهيل، بأنه يتعين على الهند مقاومة التورط في التنافس الصيني-الأمريكي في المحيط الهندي و"خلق توازن بين هذين البلدين؛ ومن شأن هذا أن يسمح للهند باستعادة مركزها باعتبارها الدولة المركزية في المحيط الهندي من حيث الاقتصاد والأمن".
وثمة توافق على هذه الرؤية في الكتابات الصينية كذلك، ولهذا أشار الدبلوماسي والمعلق العسكري الصيني، شاي يانج، إلى ما يلي:
لا تزال الاهتمامات الجوهرية الصينية منصبة على الساحل الجنوبي الشرقي وبحر الصين الجنوبي، ومن شأن العملية العسكرية المتسرعة أن تشتت القوات العسكرية وتحول "الخصوم" "المحتملين" الحاليين من الناحية الجغرافية الاستراتيجية إلى "أعداء واضحين"، كما ستفتح المجال للقوى خارج الإقليم للتدخل. وفي مثل هذا الموقف، سيساعد وقف التصعيد المؤقت للوضع من خلال الوسائل السلمية في التعامل بشكل أفضل مع المسائل الأمنية الرئيسية في تلك اللحظات.
والدرس الآخر المستفاد من تجربة لاداخ هو الحاجة إلى تعزيز الروابط السياسية والعسكرية مع روسيا؛ إذ يبدو أن أهميتها قد تراجعت خلال المراحل الأخيرة مع سعي صناع السياسة الهنديين لأوجه التعاون مع الولايات المتحدة، ويبدو أن هذا الأمر قيد التصحيح بالفعل.
وعقب بداية فض الاشتباك على الحدود الصينية-الهندية، هناك تقارير في وسائل الإعلام الهندية حول الأهمية التي توليها دلهي إلى تعميق العلاقات مع روسيا، والتي تشمل زيارة بوتين إلى الهند هذا العام، وسيقترن هذا بالتشغيل التجريبي لممر فلاديفوستوك - تشيناي البحري وتفعيل التسهيلات الائتمانية الهندية بقيمة 1 مليار دولار أمريكي من أجل تطوير الشرق الأقصى الروسي، فضلًا عن إعادة إحياء الحوار الثلاثي الهندي-الياباني-الروسي لمناقشة التعاون في استغلال الإمكانات المعدنية والهيدروكربونية للشرق الأقصى الروسي. كما ستبدأ الهند في إنتاج لقاح سبوتنيك-5 الروسي في مارس-أبريل.
ومع ذلك، تتجلى أهمية روسيا للهند ليس فقط كمصدر للمعدات العسكرية والتكنولوجيا وكونها شريكًا للطاقة، بل لأنها أيضًا تعتبر قوة إقليمية رئيسية لديها روابط استراتيجية جوهرية مع الصين، كما أن الاثنتين ليستا فقط شركاء في مجموعة البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا ومنظمة شانغهاي للتعاون، بل هما يتشاركان أيضًا رؤية "الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى".
الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى
أعلن الرئيس بوتين في يونيو 2016 م، عن نيته تأسيس " الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى" التي ستتضمن رابطة الدول المستقلة والصين والهند وباكستان وإيران، كما تضم اليابان ودول رابطة أمم جنوب شرق آسيا. وخلال بيان مشترك مستقل، أيد الزعيمان الروسي والصيني "تأسيس شراكة أوروبية آسيوية شاملة على أساس الانفتاح والشفافية ومراعاة مصالح بعضهم البعض"، حيث من شأنها أن تجمع بين الاتحاد الاقتصادي للمنطقة الأوروبية الآسيوية ومنظمة شانغهاي للتعاون ورابطة أمم جنوب شرق آسيا. وفي يوليو 2017م، أبرمت كلا من روسيا والصين "الشراكة الشاملة وعلاقة التعاون الاستراتيجي" الثنائية، فيما أعدت وزارات الاقتصاد التابعة لهما فريق عمل للمضي بفكرة الشراكة الاقتصادية الأوروبية الآسيوية المشتركة.
ومن شأن المشاركة الهندية الفعالة في الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى أن تخدم المصالح الهندية بطرق عدة، أولها: سيوفر الحضور الروسي "تقييد الأطراف الثالثة" الذي لا يوجد في الوقت الحالي في النشاط الثنائي بين الجارين الآسيويين الرئيسيين. ولهذا، فعلى الرغم من رفض كل من الهند والصين لتوسط أحد الأطراف الثالثة، ستستفيد كل منهما من دبلوماسية روسيا الهادئة وراء الكواليس من أجل الحفاظ على علاقاتهما على نحو مستقر.
ثانيًا: من شأن الحضور الهندي في الشراكة الأوروبية/ الآسيوية الكبرى أن يعطي كذلك قيمة استراتيجية كبيرة للشراكة الروسية-الهندية-الصينية الثلاثية في الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى؛ فحتى مع اقتراب روسيا من الصين، شعر المعلقون الروسيون بالقلق إزاء احتفاظ بلدهم بدرجة معقولة من الاستقلالية في المعادلة الثنائية، ويتمثل حل هذه المعضلة في الروابط الهندية-الروسية الوثيقة. ولتأكيد ذلك، أشار المعلق الروسي، ديمتري ترينين، إلى أن "الهدف الاستراتيجي لروسيا يتمثل في تحسين علاقاتها مع الهند بما يصل إلى مستوى علاقاتها مع الصين"، كما أن التواجد الهندي يوفر التوازن الداخلي الضروري للعلاقة الثلاثية ويعزز الاستقرار الإقليمي ويزيد من تأثير الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى في السياسات الإقليمية والزمنية والدولية.
ثالثًا، ستعمل الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى على الجمع بين العديد من المساحات الجغرافية المهمة بالنسبة للهند في مجموعة واحدة؛ فعلى مدار السنوات القليلة الماضية، قامت كلا من روسيا والصين بضم جمهوريات آسيا الوسطى كإيران وتركيا وباكستان وأفغانستان والعراق إلى النطاق الأوروبي الآسيوي، كما أنهما يعملان بشكل دؤوب على بناء الروابط السياسية والاقتصادية مع دول الخليج العربي.
ولطالما تمتعت الشعوب العربية الخليجية بأقرب العلاقات الممكنة مع الهند على مدى عدة قرون؛ ففي الأعوام الأخيرة، تلاقت كل من الهند ودول مجلس التعاون الخليجي في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمارات والمشاريع المشتركة، ودُعمت العلاقات بتواجد مجتمع هندي قوي ومقيم يُقدر بثمانية ملايين نسمة. ولقد ارتقت تلك الروابط إلى مستوى الشراكات الاستراتيجية التي تشمل الروابط السياسية والأمنية والدفاعية والاقتصادية والثقافية الجوهرية. إن الهند في وضع جيد يسمح لها بتمديد النطاق الأوروبي الآسيوي من خلال ضم دول مجلس التعاون الخليجي كشركاء، وبالتالي تعزيز قيمة الرابطة الأوروبية الآسيوية بصورة أكبر.
وبينما تنحصر شدة الجائحة، ظهرت فرص جديدة للتعاون بين الشركاء الأوروبيين الآسيويين؛ ويرجع ذلك إلى أن الجائحة عملت على تسريع العديد من الاتجاهات في عالم الاقتصاد والتي كانت في مراحلها الأولى في وقت سابق، ومثال على ذلك: التحول لصالح الطاقة النظيفة والرقمنة وما تستدعيه من حاجة إلى قوة عاملة مؤهلة، فضلًا عن الأهمية القصوى للترابط، على الصعيد المادي، لاستكشاف روابط تجارية جديدة، وعلى الصعيد الرقمي، لتشكيل سلاسل قيمة إقليمية جديدة.
وسيكون القطاع الأكثر أهمية في حقبة ما بعد الجائحة هو التكنولوجيا الرقمية؛ فلقد سرعت الجائحة من دور التكنولوجيا الرقمية في الحياة اليومية، كالعمل من المنزل والتعليم الدراسي والجامعي الإلكتروني والاستشارات الإلكترونية مع الأطباء والعاملين في المجال الصحي واستخدام البرامج في التشخيص الطبي والجراحة والعلاج والتعافي، من خلال ربط الأجهزة بالشخص لتعقب الوظائف الحيوية ونقل البيانات إلى الخدمة السحابية ليحللها المختصون.
لقد سرعت الجائحة بالفعل من الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا الرقمية في دول مجلس التعاون الخليجي. ونظرًا لتقيدها بسلامة العمال، تقوم شركات النفط الإقليمية الكبرى بمتابعة العمليات المعقدة من مركز أوامر رقمية تقع في المقرات الرئيسية، وتلعب التكنولوجيا الرقمية في دول مجلس التعاون الخليجي دورًا مركزيًا في تشكيل مستقبل ما بعد النفط لتلك الدول، فبالنسبة إلى دبي على سبيل المثال، فإنها تعزز سلامة الغذاء من خلال إجراء الأبحاث وطرق الانتاج وعمليات التحسين وحفظ المياه. فيما يتمثل القطاع الآخر في التمويل، حيث تتطلع دبي إلى احراز مكانة دولية.
ولهذا فإن الشراكة الأوروبية/ الآسيوية الكبرى التي تجمع بين جيران الهند في ظل احتواء تعاوني تعد الموطن الطبيعي للهند بعيدًا عن "المحيط الهندي-الهادي الخاضع للحماية. وبينما تسعى الأخيرة لبناء تحالف عسكري لاحتواء تصاعد الصين، فإن الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى تمثل مبادرة تضم الترابط المادي لعموم المنطقة الأوروبية الآسيوية والمصالح المتعلقة بالطاقة والروابط الرقمية في توجه واحد سلس بحيث يمكن أن ترتقي إلى موائمة سياسية حميدة من أجل المنافع المشتركة.
وبالتالي فإن الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى تعتبر إطارًا تصوريًا بعيد المدى يتبنى الفكر الجغرافي-السياسي والجغرافي-الاقتصادي والجغرافي-الفكري، الذي بمرور الوقت يمكن أن يحقق نهضة اقتصادية وسياسية وثقافية بين دول المنطقة الأوروبية الآسيوية؛ ومن شأن ذلك أن يحول المنطقة الأوروبية الآسيوية إلى مركز اقتصادي وسياسي دولي، ويضع أسس نظام عالمي جديد.