منذ مرحلة تركيا الكمالية كانت تنتهج تركيا نهجًا مختلفًا عن النهج العثماني وكان هدفها الانخراط في النظام الأوروبي ودخول الاتحاد الأوروبي، وأغفلت تركيا في السنوات التالية أية توجه للانتشار والتمدد في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة. ومع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002م، تغيرت الاستراتيجية التركية فقد أبقت على التوجه الاستراتيجي نحو أوروبا، غير أنها أضافت محورًا آخر أكثر تركيزًا للاهتمام بالانتشار في المنطقة العربية ودول الجوار لتلك المنطقة، فيما بدا اتجاهًا لاستعادة الإمبراطورية العثمانية القديمة، ووضح ذلك فيما طرحة النظام السياسي التركي في التسعينيات حول عناصر استراتيجيته التي عبر عنها وزير الخارجية التركي "أحمد داوود أوغلو" آنذاك فيما سمي بــــ "تصفير المشاكل" و"العمق الاستراتيجي أو المجال الحيوي" كإطار للنهج الجديد للنظام السياسي ولحزب العدالة والتنمية والطرح الأردوغاني للاستراتيجية التركية للانتشار والتمدد في المنطقة لتصبح تركيا ليست فقط دولة إقليمية كبرى ولكن دولة عظمى.
تبلور هذا الاتجاه التركي من خلال إقرار حزب العدالة والتنمية عقيدة للحزب وبالتالي للنظام استهدفت بالدرجة الأولى استعادة النفوذ التركي في الدولة العثمانية القديمة، واستهدفت محاور الحركة لتحقيق ذلك في المنطقة على اتساعها، وكذلك المناطق الحيوية المحيطة بها، خاصة المضايق والمنافذ البحرية في الخليج والبحر الأحمر وكذلك الدول العربية الكبرى ذات التأثير مثل: مصر، دول شمال إفريقيا، سوريا، و دول الخليج، ثم تطور التمدد التركي ليستهدف دول القرن الإفريقي وغرب إفريقيا وجنوب الاتحاد السوفيتي السابق التي تنتشر فيه حاليًا تركيا.
أدوات الحركة التركية:
أولا: وجد النظام التركي في التنظيم الدولي للإخوان أحد الأدوات الأساسية التي تسمح له بالتغلغل في قضايا وأزمات المنطقة والدول الإسلامية على اتساعها في المنطقة العربية وجوارها، على اعتبار أن الهدف الرئيسي لهذا التنظيم هو استعادة دولة الخلافة التي هي الخلافة العثمانية القديمة. وبالتالي نجح "أردوغان" في دمج مشروعه الاستراتيجي مع مشروع جماعة الإخوان المسلمين لتحقيق حلم ليس الخلافة الإسلامية ولكن الإمبراطورية التركية العثمانية من خلال روافد للتنظيم الدولي التي تنتشر في المنطقة وترى في النظام السياسي التركي واستراتيجيته مجالًا لتحقيق حلمها.
ثانيًا: الانخراط في أزمات المنطقة خاصة في الدول التي تشهد انقسامًا سياسيًا ومجتمعيًا، ووفرت المتغيرات التي شهدتها دول المنطقة بعد 2011م، فرصة مناسبة للتغلغل التركي استغله النظام التركي واستعد له مسبقًا من خلال حلفائه في المنطقة تحت غطاء جماعة الإخوان ونجح كذلك في استثمار حركة الشباب المطالب بالتغير في كل من تونس، مصر، اليمن، وسوريا لنسج علاقات معها وتطويع مواقفها مستثمرًا الموقف الدولي المواتي في ذلك الوقت.
وبهذا الخصوص يُشار إلى ما يلي:
- إن الولايات المتحدة كانت قد أعدت خطة للتغيير السياسي في المنطقة العربية ورعتها دول أوروبية أخرى وراهنت هذه الخطة على تنظيمات الإسلام السياسي خاصة الإخوان المسلمين لتقود هذا التغيير، وجرت اتصالات متعددة لعدة سنوات بدأت منذ 2006 حتى 2011 م، بين مؤسسات سيادية أمريكية وأوروبية وعناصر وقيادات من تنظيم الإخوان المسلمين في كل من مصر، الجزائر، تونس، وسوريا.
- تنظيم الإخوان استعد للاستفادة من هذا الطرح من خلال إيجاد الأطر التي تكفل انصهار تنظيمات الشباب والمعارضة التي تبلورت في ذلك الوقت لتكون الحاضنة الرئيسية لها والموجهة الأساسية لتحركاتها وكان تنظيم اتحاد الطلاب الإسلاميين العالمي ومقره "أنقرة" والذي كان يرأسه عضو مكتب الإرشاد "أحمد عبد العاطي" الذي تولى فيما بعد منصب مدير مكتب "محمد مرسي" وعضو في مكتب الإرشاد لتنظيم الإخوان في مصر. المؤسسة التي رعت وصاغت التحالفات مع حركة 6 إبريل والمجموعات التي ارتبطت بها في مصر وتنظيمات الشباب في تونس، سوريا وبالتالي امتلك تنظيم الإخوان المسلمين بالتنسيق مع تركيا القدرة على تحريك الأحداث في الدول التي شهدت اضطرابات في ذلك الوقت.
- بالتوازي مع ذلك أُنشئ في لندن عام 2006م، ما يُسمي بـــ "أكاديمية التغيير" التي قامت وأشرفت على تدريب مجموعات كبيرة من شباب الجامعات في عدد من الدول العربية وانتقلت عام 2009م، إلى قطر واستمرت في تخريج مجموعات متتالية من الشباب بتمويل قطري ومشاركة خبراء أتراك وقيادات إخوانية عربية متعددة، ونجحت في ربط قيادات الشباب التي تصدرت المشهد بكل من قطر وتركيا تحت مظلة وغطاء الإخوان المسلمين رغم تعدد انتماءات تلك المجموعات. وكان من الملفت أيضًا ما حدث في زيارة أردوغان إلى مصر عام 2011م، عندما استقبلته كوادر إخوانية في مطار القاهرة وهتفت بشعارات "الخلافة الإسلامية"، وهو ما أكد بوضوح انصهار الاستراتيجية العثمانية لـــ "أردوغان" مع طموحات الإخوان.
ثالثًا: الاستثمار في الأزمات التي ترتبت على الاضطرابات التي جرت في عدد من الدول العربية والموقف الدولي منها لتقديم تركيا كوكيل محلي قادر على ضبط الأوضاع، ويبرز هنا استثمارها لما يُسمي بالحملة الدولية على الإرهاب وداعش بالتمدد في كل من العراق وسوريا. ودون الدخول في تقييم الدور التركي، والذي يحمل الكثير من علامات الاستفهام، فإن تركيا نجحت في اقتطاع جزء من شمال سوريا فرضت سيطرتها عليه وقامت بعمليات تتريك وتغيير ديمغرافي على مرأى من العالم. ونجحت في ابتزاز الاتحاد الأوروبي من خلال قضية اللاجئين التي تزايدت في العراق وسوريا. وانتهى الأمر بأن أصبحت تركيا طرفًا رئيسيًا في الأزمة السورية على وجه الخصوص تتحاور معها الدولتين الأكثر تأثيرًا في الأزمة – روسيا وإيران-وتمتلك أوراق مساومة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وتلتقي جزئيًا مع إسرائيل فيما يتعلق بمصالح كل منهما في الأزمة السورية.
رابعًا: حرص "أردوغان" على محاصرة الدول المنافسة لتركيا والرافضة للاستراتيجية الإخوانية التي تبنتها مصر ودول التحالف الخليجي خاصة بعد ثورة 30 يونيو 2013م، التي اجتثت النظام الإخواني في مصر وإعلان تنظيم الإخوان تنظيمًا إرهابيًا ومحاصرة نفوذه في السودان والإمارات والبحرين وهو ما دفعه إلى السعي لاختراق التحالف الخليجي من خلال قطر التي انصهرت تمامًا في الاستراتيجية التركية والإخوانية، ونسج علاقات قوية مع الكويت مستثمرًا مواقفه التي تبدو متميزة عن باقي دول مجلس التعاون الخليجي في محاولة لضرب تماسك مجلس التعاون الخليجي.
خامسًا: حرصت تركيا على الانتشار العسكري في الدول التي استهدفت الاستراتيجية التركية التمركز فيها، وتكشف خريطة هذا الانتشار المحاور الرئيسية التي سعت إليها تركيا حيث تعددت هذه المحاور ويكشف عن طبيعة المصالح التركية انتشار القواعد العسكرية بين قطر، ليبيا الصومال ومحاولة إنشاء قاعدة في سواكن السودانية، فضلًا عن اتفاقيات دفاعية مع كل من قطر والكويت وليبيا والصومال وجنوب إفريقيا. وانتشر الخبراء العسكريون الأتراك في معظم هذه الدول ليزيد في النهاية من حجم الانتشار التركي ويرتب مواقف سياسية لصالح تركيا.
سادسًا: استغلال العلاقات التجارية والتغلغل الاقتصادي، حيث حرص نظام حزب العدالة والتنمية منذ بدايته على تحقيق نمو اقتصادي ورفع مستوى المواطن؛ ليكفل له ذلك شعبية واسعة استثمرها في مواجهة أحزاب المعارضة على اتساعها، ومارس نوعًا من الانتهازية السياسية في التعامل مع بعض الحلفاء الذين ساندوا "أردوغان"، خاصة حركة الخدمة "فتح الله جولن" التي تمثل الإسلام الاجتماعي، وكانت تخشى الانخراط السياسي وساندتها بقوة في مواجهة المؤسسة العسكرية صاحبة النفوذ الكبير، ومع تحقيق "أردوغان" أغلبية نجح في محاصرة المؤسسة العسكرية ولم يتوانى عن تصفية حركة الخدمة بزعم أنها حاولت الانقلاب عليه عام 2016م، فشرد قواعدها على اتساعها ولجأ لمحاصرتها في كل الدول ذات العلاقة مع تركيا. وانطلق "أردوغان" بعد تحقيق هيمنته على القرار السياسي إلى الانتشار الاقتصادي، من خلال الشركات التركية خاصة في الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية في المنطقة حيث انتشر الحضور الاقتصادي في مصر وليبيا والجزائر والمغرب وتونس ودول الخليج، كما انتشر في عدد من دول غرب إفريقيا والقرن الافريقي ونجح هذا التغلغل في نسج مصالح اقتصادية متبادلة، وزاد من حجم الاستثمارات التركية والعائد الاقتصادي لتركيا مما انعكس على مواقف سياسية إيجابية لتركيا في بعض هذه الدول.
سابعًا: وظفت تركيا -وبصفة خاصة أجهزتها الأمنية-الحملة الدولية على الإرهاب لتحقيق العديد من المكاسب، وتؤكد العديد من المصادر الاستخباراتية الأوروبية والأمريكية أن المخابرات التركية كانت لها علاقات قوية بتنظيمات الإرهاب خاصة تنظيم داعش وفتح الشام "القاعدة" في كل من سوريا والعراق؛ مستفيدة في ذلك من العلاقات القطرية مع تلك التنظيمات والتمويل القطري لها والفصائل الارهابية في سوريا. ويظهر تحكم تركيا في كافة التنظيمات الإرهابية المسلحة التي انتشرت في سوريا، وتركزت في الشمال بعد خروجها من مناطق الصراع وسط وجنوب سوريا وقامت بتوظيفها سواء للهيمنة على مناطق تعتبرها جزء من تركيا القديمة – إدلب، شمال حلب، شمال حماه-والمنطقة الكردية وكذلك محاصرة التمدد الكردي في شمال وشرق سوريا. وأخيرًا نجحت في نقل هذه التنظيمات إلى ليبيا لتنفيذ أجندتها للتغلغل فيها، فضلَا عما يُثار مؤخرًا حول احتمال نقل عناصرها إلى اليمن لمساندة جناح حزب الإصلاح الإخواني ضد قوات الشرعية لإثارة القلق والاضطرابات في خاصرة المملكة العربية السعودية.
ملاحظات عامة حول الانتشار التركي:
- لم يحدث أية تصادم حقيقي بين تركيا وإسرائيل فيما يتعلق بالانتشار التركي في المنطقة، وهو ما يوحي أن هناك سقف للتفاهم وحدود للحركة لم تتجاوزها تركيا وتقبلها إسرائيل في كافة الميادين، بل أن هناك أرضية مشتركة بينهما خاصة في سوريا. وفي كافة الأحوال التي تبلورت فيها توترات بين الطرفين فإن العلاقة بين المخابرات التركية والإسرائيلية لم تتأثر بذلك.
- ـ رغم ما يعلنه الإخوان ونظام حزب العدالة والتنمية بأنه راعي للسُنة على اتساع العالم، إلا أن ذلك لم يرتب أية حساسية مع إيران التي تعتبر نفسها الراعي للشيعة، بل أن تركيا استثمرت ذلك جيدًا في الدول التي عبرت عن استيائها من التشيع؛ إذ ذهبت تركيا واستثمرت هذا المناخ لتحقيق مزيد من الحضور كما هو الحال في المغرب والسنغال ودول جنوب إفريقيا، بل أن التفاهمات رغم تباين مواقف البلدين من النظام السوري لم ترتب أيضًا توترات بين البلدين.
3 ـ دولة كبرى وكذلك بالدرجة الأولى للانتشار في الدول ذات التأثير على مصر خاصة دول منابع النيل واعتبرت تركيا أن ذلك العام عام إفريقيا. كما نجحت تركيا في أن تصبح مراقبًا في الاتحاد الأوروبي، وزادت سفاراتها في إفريقيا منذ ذلك الوقت من12 سفارة إلى 48، كما انتشرت وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" في 28 دولة، كما فتحت جامعاتها للطلاب من الشمال الافريقي والسودان والقرن الافريقي؛ حيث تخرج من تلك الدول نحو 10 آلاف طالب خلال السنوات العشرة الأخيرة، كما زاد التبادل التجاري حوالي 4 مليار دولار عام 2019 مقارنة بالعام السابق عليه.
- ـ ركزت تركيا على كل من الجزائر والمغرب ووقعت اتفاقيات للتجارة الحرة، وانتشرت الشركات التركية في كل من البلدين ووصل عددها في الجزائر إلى نحو 800 شركة وزاد حجم التبادل التجاري بينهما إلى 4 مليار دولار، فضلًا عما حققه من مكاسب في تونس بعد تولي النهضة الإخوانية للحكم، وإن كانت قد فشلت في توقيع اتفاقية للتجارة الحرة معها بسبب رفضه من قبل أحزاب في البرلمان ولا تزال تونس هدفًا للهيمنة التركية بهدف حضورها في ليبيا.
إجمالًا يمكن القول، الانتشار التركي على النحو السابق انطلق من هدف استراتيجي أساسي هو رغبة "أردوغان" وحزب العدالة التركي في استعادة الإمبراطورية العثمانية والدولة التركية الكبرى، من خلال الاندماج مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي انصهر ضمن هذا الهدف الاستراتيجي التركي. وكما سبق الايضاح فإن من ضمن عناصر هذا الهدف هو محاصرة الدول المنافسة للدور الإقليمي لتركيا (مصر، السعودية، الإمارات)، وإقامة خطوط اتصال ومصالح مشتركة مع القوى الإقليمية المنافسة (إسرائيل، إيران). وتعددت أدوات الانتشار في الإقليم فهناك 8 مناطق انتشار عسكري من بينها 4 تشهد نوعًا من الاشتباك، مع الحرص على خلق مصالح وتبادل أوراق تأثير مع روسيا في العديد من الملفات التي تشهد نوعًا من التشابك بينهما خاصة في سوريا وليبيا وتجنب أية مواجهات بينهما.
من الضروري الإشارة هنا أن ما يساعد على تحقيق الاستراتيجية التركية للانتشار في الإقليم وجواره، هو غياب الاستراتيجية المضادة وعدم تبلور موقف عربي موحد للمواجهة أو سياسة استباقية؛ نظرًا لتباين المواقف بين الدول العربية بخصوص الاستراتيجية التركية، وعجز الجامعة العربية عن صياغة مواقف أو سياسات أكثر جدية في المواجهة.
وقد يكون في دعم التحالف الرباعي المصري الخليجي أحد مجالات الحركة التي تكفل مواجهة هذه الاستراتيجية والمحافظة على المصالح العربية، واتخاذ سياسات استباقية لتحقيق ذلك وأن يتم إجراء حوارات استراتيجية مع الدول العربية الأخرى بحثًا عن حد أدنى من التفاهم لصياغة موقف عربي أكثر تماسكًا.