إذ نتذكر هذه الأيام مرور 75 عامًا على بداية تدشين العلاقات السعودية ـ الأمريكية في اللقاء التاريخي بين جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ والرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت بقناة السويس في 14/2/1945م، نرصد محطات مضيئة في تاريخ العلاقات الثنائية طيلة هذه المدة منذ بدايتها وحتى الآن، فنجد الكثير من التعاون الإيجابي والبناء الذي حرصت القيادة في الدولتين الصديقتين على استمراره، وتبنيها بالرعاية والدعم لتحقيق الفوائد المشتركة وتجاوز ما يعكر الصفو، إذا ما حدث، وكشأن العلاقات الدولية بين الأصدقاء والحلفاء فإن لها ثوابت ومرتكزات لا تتأثر كثيرًا باختلاف وجهات النظر سواء كانت عابرة أو التي تمثل مصالح كل طرف، فمن الطبيعي ونظرًا لاختلاف المصالح تحدث أحيانًا اختلافات في وجهات النظر حيال بعض قضايا السياسة لكنها لا تصل إلى "الخلافات" بل يتم علاجها في إطار الصداقة والشراكة التي تسمح بذلك، وتفهم كل طرف لظروف ومصالح الطرف الآخر في إطار مفهوم العلاقات الدولية.
من جانب المملكة العربية السعودية، حافظت على هذه العلاقات منذ لقاء الملك المؤسس بالرئيس روزفلت، وسار على دربه أبناؤه الملوك البررة في كل المراحل التاريخية حتى العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ حيث تقوم السياسة الخارجية للمملكة على احترام الآخر وعدم التدخل في شؤون الغير، والحفاظ على التوازن والاعتدال ومراعاة المصالح العليا للمملكة والشعب السعودي دون مغامرة بهذه المصالح أو الزج بها في أتون الصراعات الدولية.
شهد تاريخ العلاقات السعودية ـ الأمريكية، تطور المبادلات التجارية بين البلدين وأصبحت أمريكا من أكبر الشركاء التجاريين للمملكة، وحرصت المملكة على إبقاء الدولار كعملة لتسعير النفط، وتدفقت الودائع والاستثمارات السعودية إلى الولايات المتحدة كسوق كبير وآمن وبما يمثل دعمًا للاقتصاد الأمريكي في الوقت نفسه، كما أن المملكة تتمسك دائمًا باستقرار أسعار النفط وترفض تحويل هذه السلعة الاستراتيجية إلى أداة سياسية من أجل الحفاظ على استقرار الأسواق العالمية والحفاظ على مصالح الدول المنتجة والمستهلكة معًا، سواءً من دول منظمة "أوبك" أو المنتجين من خارج المنظمة خاصة روسيا المنتج الأكبر من خارج أوبك ومازالت المملكة تقوم بذلك وكل ما نتمناه أن تصطف هذه الدول إلى جانب المملكة لتحقيق هذه المقاصد.
وظلت أمريكا محطة رئيسية للابتعاث الخارجي للطلاب السعوديين، وأيضًا استمرت السوق الرئيسي لأنظمة الدفاع التي تحتاجها المملكة، وفي غضون ذلك حافظت الرياض على سياستها الداعمة للدول النامية والفقيرة رغم الأزمات الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم كثيرًا، كما ظلت المملكة متمسكة بثوابتها تجاه واشنطن رغم تغير الإدارات الأمريكية، وفي حال تناوب أيًا من الحزبين الأمريكيين على السلطة في البيت الأبيض سواء الجمهوري أو الديمقراطي لأن تعامل السعودية مع أمريكا يتم وفق آلية مؤسساتية وطبقًا لثوابت ومصالح مشتركة لا وفق أهواء أو التدخل في الشأن الداخلي للدول الأخرى.
وتعمل المملكة العربية السعودية مع أمريكا كشريك فاعل في محاربة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله في كل مكان من مناطق تواجد الإرهاب، مع محاربته بتصحيح المفاهيم والحوار وتقديم الصورة الصحيحة للإسلام وتعاليمه السمحاء وأنشأت لذلك المراكز والمعاهد ونظمت المؤتمرات من أجل تثبيت السلم والأمن الدوليين واستئصال هذه الآفة، كما تعمل المملكة مع أمريكا على تحقيق الاستقرار في منطقة الخليج والإبقاء على ممرات الملاحة الدولية آمنة أمام صادرات النفط وحركة التجارة الدولية سواء في الخليج العربي، أو البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وفي الوقت نفسه ظلت مواقف المملكة ثابتة وراسخة تجاه القضية الفلسطينية وهذه المواقف مستمرة منذ أن أبلغها جلالة الملك المؤسس للرئيس الأمريكي روزفلت في فبراير عام 1945م، وحتى الآن وهو ما يتمسك به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ يحفظه الله ـ باعتبارها ثوابت سعودية لا تتغير.
ما نأمله من الولايات المتحدة الأمريكية هو الاستمرار في نهج الشراكة التي بدأت قبل 75 عامًا، والتوسع في جوانبها خاصة مع تحول المملكة إلى تطبيق رؤية 2030 وما تتضمنه من خطط وسياسات تسعى لتوطين الصناعات الحديثة القائمة على اقتصادات المعرفة والثورة الصناعية الرابعة، وما يتبع ذلك من توطين التكنولوجيا وتأهيل وتدريب الخريجين السعوديين والعمالة الوطنية على إدارة وتشغيل هذه الصناعات التي تطمح من خلالها المملكة إلى تنويع مصادر الدخل، وتوسيع القاعدة الاقتصادية وتوفير فرص العمل الجديدة أمام الشباب الذي يدخل سوق العمل بكثافة سنويًا، كما تتطلع المملكة إلى التعاون مع الولايات المتحدة في تثبيت الأمن والسلم في المنطقة بإعادة الأمور إلى نصابها وإنهاء الصراعات في العديد من دول المنطقة والتصدي للمؤامرات التي تجر دولها إلى حروب داخلية أو مواجهات بين الميليشيات المسلحة ودولها، ما يتطلب تطبيق قرارات الأمم المتحدة وما تقره الشرعية الدولية، ولتحقيق ذلك أيضًا نأمل أن تعمل دول مجلس التعاون الخليجي بصورة جماعية جنبًا إلى جنب مع المملكة والولايات المتحدة لتحقيق هذه الأهداف العليا للمنطقة وتحصينها من محاولات التدخل الخارجي، وذلك يتطلب إعادة ترتيب البيت الخليجي من الداخل حتى يمكن تكثيف الجهود بإرادة خليجية، والعمل كمنظومة متكاملة تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي الذي نجح في تحقيق الكثير من الغايات خلال مسيرته التي تخطت الأربعين عامًا.
كل ذلك يأتي ضمن سياسات المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج التي تسعى للاستقرار واستمرار مسيرة التنمية والبناء، وتجاوز التحديات التي تفرضها المتغيرات العالمية ومنها حرب العالم ضد هجوم فيروس كورونا المستجد ، تلك الجائحة التي تهدد العالم بأسره ولا تستثني منه دولة، وخصوصًا أن المملكة بدأت فترة رئاسة مجموعة العشرين التي سوف تكون خطوة مهمة باتجاه العمل الجماعي لأكبر اقتصاديات العالم لخدمة البشرية.