من الثابت أن العلاقات العربية ـ الأمريكية قديمة، وزادت قوتها بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وخروج واشنطن من عزلتها وفرض نفسها كقوة عظمى، وما تبع ذلك من ظهور قوتها العسكرية الهائلة، ومكانتها الاقتصادية المرموقة وتبوؤها المركز الأول في العالم، وتفوقها في تطوير القدرات والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، فبلا شك أنها القوى العظمى الأولى في العالم خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو وتفرد واشنطن بقيادة العالم، ومازالت متفردة رغم ما ُيقال عن تقدم الصين أو الهند لمنافسة العملاق العالمي أو القطب الأوحد.
خلال الحرب الباردة انحاز أكثر العرب إلى أمريكا كونها لم تكن قوة استعمارية تقليدية مثل الدول الأوروبية، وكانت الذاكرة العربية لا تحتفظ بعداء للعملاق الجديد، كما كان هناك حاجزًا نفسيًا وأيديولوجيًا مع الاتحاد السوفيتي كون المجتمعات العربية محافظة ومتدينة، والاتحاد السوفيتي شيوعيًا ملحدًا وضد الأديان السماوية، كما أن أكثر الدول العربية كانت رأسمالية وتلتقي مع التوجهات الاقتصادية الغربية، وكانت أمريكا في ذلك الوقت تتزعم العالم الحر وتتبني مبدأ العدالة والدفاع عن الدول المقهورة، ونشأت لذلك الأمم المتحدة التي اتخذت مقرها في أمريكا، ومن ثم تفاءلت الدول العربية التي ظلت لعقود ترزح تحت نير الاستعمار الأوروبي والظلم والتخلف والجهل .
وفي تلك المرحلة كان العرب يأملون في إزاحة الاستعمار الأوروبي وإزالة مخلفات سايكس ـ بيكو، والتقسيم واحتلال فلسطين، لكن سرعان ما انخرطت الولايات المتحدة في حرب النفوذ مع الاتحاد السوفيتي، أو ما يسمى بالحرب الباردة التي استمرت حتى انهيار الأخير مع مطلع تسعينيات القرن العشرين، وهنا اعتمدت البرجماتية الأمريكية سياسة العدو الوهمي، فكان هذا العدو الجديد من أتباع العالم الإسلامي والعربي ودخلت في حرب ضروس مع دول في المنطقة لمحاربة هذا العدو المسمى الإرهاب الذي هو بالأساس عدو المنطقة العربية نفسها.
منذ مطلع الألفية الثالثة وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، انهمكت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في سياسات جديدة غير التي كانت تتبعها سابقاتها والتي كانت ترى في منطقة الشرق الأوسط مجالها الحيوي وأصدرت آنذاك عدة مبادئ رئاسية تعكس الاهتمام بالمنطقة منذ مبدأ أيزنهاور ، ثم مبدأ نيكسون، ومبدأ كارتر ، وجميعها أكدت على ضمان أمن المنطقة خاصة أمام المد الشيوعي، ثم أمام مخاطر الثورة الإيرانية، لكن الإدارات التي جاءت منذ مطلع الألفية اتخذت نهجًا جديدًا تجاه الشرق الأوسط ؛ جزء منه ارتبط بتفكير عقائدي حيث تلاقت فيه أيدولوجية المحافظين الجدد مع ما تروجه الصهيونية العالمية، أو نتيجة للنظرة الضيقة لتحقيق المكاسب والمنافع المادية على حساب القيم الأمريكية التي قادت العالم الحر بعد حربين عالميتين خسر فيهما العالم الكثير .
مازالت الدول العربية على المستوى الرسمي تحافظ على علاقاتها بأمريكا، وترى فيها القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية الأهم في العالم، وترى أن بقاء هذه العلاقات مفيد لاستقرار المنطقة والعالم، وأن أمريكا القوية مكسب للعالم ووجودها أفضل من أفولها، لكن على مستوى النخب العربية وفئة المفكرين والعاملين في مجالات الدراسات الاستراتيجية فهم عاتبون على الإدارة الأمريكية ويرون أنها تخلت عن الإرث الأمريكي الذي كان معهودًا، وخرجت عن السياسة التي بدأت مع منتصف الأربعينيات، ثم عندما ملأت واشنطن الفراغ الذي أحدثه انسحاب بريطانيا من شرق السويس، وأنها تحولت من قوة كبرى معنية باستقرار العالم وحفظ أمنه ، إلى قوة تجارية تقدم الربح والخسارة على منطق العلاقات الدولية، وأصبحت تُخضع سياساتها لمنطق مادي قصير الأجل ولحظي المردود ، وأنها سريعة التنقل من مساندة طرف إلى آخر نقيضه دون ثوابت، وتستغرب انحيازها إلى جماعات الإسلام السياسي ضد دولها ودعمها للوصول إلى السلطة بالقوة، وكذلك انحيازها المطلق لإسرائيل واعترافها بالقدس عاصمة للدولة العبرية، ثم مبادرة صفقة القرن التي وجدت تحفظًا عربيًا كبيرًا، وأيضًا انتهاج واشنطن سياسة ازدواج المعايير التي لا تليق بدولة عظمى راعية لقيم العدالة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهم في النهاية يعتبرون أن الإدارات الأمريكية تخسر من رصيد دولتها وسمعتها ومكانتها لدى الشعوب العربية .
تتمنى الشعوب والنخب العربية أن تنظر الإدارات الأمريكية إلى إرثها الأخلاقي السابق، وأن تضع معايير لمخاطبة الرأي العام العربي والشعوب العربية حتى لا تخسر ما تبقى لها من رصيد في المنطقة.