الاستقرار في الشرق الأوسط لا يمكن عزله عن التركيبة الاجتماعية والعقائدية والثقافية والأيدولوجية والثروات الداخلية لدول المنطقة، والمؤثرات الخارجية بما فيها مصالح الدول الكبرى، وكذلك تأثير الدول الإقليمية ذات التداخل في محيطها الإقليمي، إضافة إلى دور المنظمات الدولية والإقليمية المعنية من حيث النجاح والفشل فيما تشهده منطقة الشرق الأوسط من صراع وتوتر، بل وحروب ممتدة التأثير.
ومن المعروف أن الصراع في الشرق الأوسط حتى العام 1979م، كان يتمحور حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لكن بعد ذلك التاريخ اتسعت رقعته وتعددت مصادره، بل أصبح على حساب القضية الفلسطينية، حيث دخلت أطراف إقليمية إلى المنطقة لتفجر المزيد من الصراعات وتتاجر بالقضية الفلسطينية نفسها وتتخذها غطاءً لاستمالة وخداع الرأي العام العربي والإسلامي وتحرضه ضد دوله تحت شعارات براقة كاذبة لا أساس لها في الواقع، وأضعفت القضية الفلسطينية واستخدمتها للمساومة مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وهذا ما تفعله إيران وتركيا تجاه قضية العرب المركزية. إيران وتركيا، تقفان ضد الاستقرار الإقليمي، وفي المرحلة الحالية أضافت إيران المزيد من التسخين بانتهاج سياسات ومواقف تلهب المنطقة وتثير عدم الاستقرار وتؤشر لمواجهة مع الولايات المتحدة على الأقل نظريًا أو إعلاميًا بعد تشديد العقوبات الاقتصادية على طهران اعتبارًا من أول مايو الجاري.
والأحداث الأخيرة، سواءً في السودان ، أو الجزائر ، وما قبلها وإن كانت على مستوى الصراعات الداخلية، نتيجة لما يسمى بثورات الربيع العربي، أو حتى الصراعات العربية ـ العربية، والنكبات الكبرى من قبل ومنها غزو الكويت، ثم خروج العراق من الحظيرة العربية وقبلها الصومال، وتقسيم السودان ونكبة النكبات القضية الفلسطينية وغيرها مما عصف بالمنطقة العربية، لهو خير دليل على العجز الإقليمي وغياب دور جامعة الدول العربية، هذا الغياب الذي وصفه الدكتور يحيى بن مفرح الزهراني الأستاذ الزائر بجامعة أكسفورد بـ " انهيار المنظمات الإقليمية وعدم قدرتها على تصميم نموذج أمني متفق عليه على مستوى المنطقة، فجامعة الدول العربية لم تصل منذ إنشائها إلى إيجاد صيغة تنفيذية للأمن العربي المشترك".
والغياب شمل كافة المنظمات الإقليمية الأخرى، بل والأممية الكبرى المناط بها تثبيت السلم والأمن الدوليين، فرغم ما يعتري المنطقة العربية من أحداث خطيرة ومصيرية، وتموج بالصراعات، لم نجد للأمم المتحدة ومجلس الأمن ودول الفيتو، أو ما يسمى بالبند السابع في قرارات الأمم المتحدة أي دور في إنهاء الصراعات العربية أوحل مشكلات الشرق الأوسط.
في الوقت نفسه، تظل القوى الكبرى في العالم هي المحرك للأحداث أو المستفيدة منها، لذلك تغض النظر أحيانًا، أو تعمل أحيانًا أخرى على إطالة أمد الصراعات لتثبيت النفوذ في إطار التنافس الدولي والاستقطاب، وهذا النمط هو أحد أهم سمات سياسة الدول الكبرى في المنطقة سواء في ظل الحرب الباردة أو ما بعدها، ولا نجد لهذه الدول أي جهد حقيقي لإيقاف النزاعات سواءً بقواتها أو عتادها العسكري المتطور، أو بالقوة الاقتصادية الكبيرة، وتترك استمرار الصراعات التي تأتي على حساب شعوب المنطقة وتنميتها ورفاهيتها، وكل ما نشاهده على المسرح الدولي تظل تصريحات دون أفعال وينطبق عليه" نسمع جعجعة ولا نرى طحينًا ".
ولتجاوز تحديات المنطقة، من الضروري توحيد جهود ما تبقى من الدول العربية لرسم سياسة جديدة تعتمد على مرتكزات برجماتية للدفاع عن المنطقة بجهود ذاتية لسد الثغرات وإحداث التوازن، خاصة بعد أن خرجت عدة دول فاعلة من العمل العربي الجماعي ما أفسح المجال للتمدد الإقليمي لإيران وتركيا، على أن يكون ذلك في إطار صيغة توافقية عربية لإدارة العمل العربي المشترك بصورة جديدة تختلف عن النهج الذي استمر منذ منتصف الأربعينيات وأثبت فشله وعجزه عن تقديم الحلول للأزمات.
وقد طُرحت أكثر من صيغة للنظام العربي الجديد خلال السنوات التي أعقبت ما يسمى بثورات الربيع العربي، منها من يرتكز على ثلاثية الدول العربية الفاعلة، ومنها ما يدعو لإصلاح النظام القديم، لكن يبدو أن جميعها مؤجل وستظل المنظومة الحالية قائمة لفترة قد تطول أو تقصر على حسب المتغيرات الداخلية والظروف الدولية والإقليمية فهناك الكثير من التشابك والارتباط بين هذه المتغيرات وبزوغ نظام عربي جديد في بيئة مواتية مازالت لم تتشكل بعد، نظرًا للانقسامات العربية وتأثير التدخلات الخارجية، وانشغال بعض الدول العربية في ترتيب أوضاعها الداخلية، ويظل الأمل في مواقف فعالة من الدول التي تتحمل المسؤولية التاريخية في وقف نزيف المنطقة الذي يصب في مصالح القوى الإقليمية ذات الأجندات المعلنة والخفية.