تعيش منطقة الشرق الأوسط بأكملها فترة غير مسبوقة من تاريخها، حيث تشهد أحداثاً ستغير بالتأكيد المشهد السياسي في المنطقة لعدة عقود مقبلة، كما ستترتب عليها آثار بعيدة المدى تتجاوز نطاقها الحالي. كما سبق أن ذُكر من قبل، فإن ما من دولة من دول الشرق الأوسط في مأمن من موجة التغيير الحالية،وتأكد هذا مجدداً في 23 نوفمبر الماضي عندما أصبح الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الرئيس الرابع الذي تمت الإطاحة به فعلياً بعد إسقاط الأنظمة في كل من تونس ومصر وليبيا.
في إطار الاضطرابات السياسية التي تشهدها المنطقة، كان الطابع العام لدول الخليج العربية أنها مناهضة للنهج الثوري، وتسعى جاهدة إلى تحصين نفسها ضد دعوات التغيير والإصلاح.هذا المفهوم تجسد عندما عقدت دول مجلس التعاون الخليجي العزم على منع انتشار الفوضى إلى بلادها بشتى الوسائل والطرق، ودعم نظام الحكم الملكي ومساندة الأنظمة القائمة ضد معارضيها الحاليين.ومن الأمثلة البارزة على تأكيد هذا التوجه تدخل دول مجلس التعاون الخليجي في البحرين، وإعلان عدد من الحكومات المختلفة عن حزم إنفاق مالي كبيرة بهدف تهدئة المطالب السياسية لشعوبها، علاوة على الإعلان عن توجيه الدعوة لكل من الأردن والمغرب للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي في مايو 2011 كوسيلة لدعم وتعزيز التضامن بين الأنظمة الملكية.
لكن الاعتقاد بأن الأنظمة الحاكمة في دول مجلس التعاون الخليجي بطبيعتها مناهضة للنهج الثوري، ليس صحيحاً ضمن السياق الأوسع والأعم.بل على العكس، تقتضي سياسات دول مجلس التعاون الخليجي أن ينظر إليها باعتبارها غير راغبة في الانزلاق إلى فوضى عارمة كالتي شهدها العراق في الفترة ما بين عام 2005 - 2008، وما جرى في ليبيا هذا العام وما حدث مؤخراً في سوريا وما زال مستمراً حتى اللحظة.ويمثل الفرق بين الحفاظ على الوضع الراهن من ناحية وتعزيز الاستقرار من ناحية أخرى أحد التحديات المهمة،حيث تدعم التطورات الأخيرة الرأي القائل بأن دول مجلس التعاون الخليجي ليست بالضرورة ضد الإصلاح.
ففي ليبيا، كانت قطر وهي إحدى دول مجلس التعاون الخليجي تقود تنظيم المعارضة من الجانب العربي ضد نظام القذافي، علاوة على الدور الداعم الذي لعبته دولة الإمارات العربية المتحدة.هذا التأييد والدعم الواضح أضفيا الشرعية العربية على العمليات العسكرية التي كانت تهدف بشكل أساسي إلى تغيير النظام وقد أدت إلى ذلك بالفعل.وفي سوريا، دعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز عاهل المملكة العربية السعودية في شهر أغسطس 2011 إلى وقف العنف وإراقة الدماء، كما قام باستدعاء السفير السعودي في سوريا رداً على تعنت النظام السوري. ومع زيادة تدهور الأوضاع، اتخذ مجلس التعاون الخليجي زمام المبادرة من جديد مما حثَّ بقية الدول داخل الجامعة العربية على فرض عقوبات على سوريا وعزل نظام الأسد،مما أدى إلى مهاجمة وحرق سفارات دول مجلس التعاون الخليجي في دمشق.
وقد شهدت منطقة الخليج أواخر شهر نوفمبر حدثين في كل من البحرين واليمن أبرزا ملامح سياسات دول مجلس التعاون الخليجي بشكل كبير. ففي اليمن، تمسك مجلس التعاون الخليجي بالمبادرة الخليجية القاضية بتنحي الرئيس علي عبدالله صالح عن السلطة وهي الخطوة التي وافق عليها أخيراً مما فتح الباب على الأقل أمام إيجاد حل ممكن للأزمة السياسية في البلاد.فمن دون ضغط مجلس التعاون الخليجي على الرئيس صالح من أجل تخليه عن منصبه وسلطته، كان اليمن سيدخل بالتأكيد في حرب أهلية بكل عواقبها الشاملة والمدمرة. ومن الواضح أن هذه الخطوة لم تنجح وحدها في حل مشكلات اليمن، لكن أيضاً لا يمكن القول إن دول مجلس التعاون الخليجي كان هدفها ونيتها الحفاظ على الوضع الراهن من خلال حماية نظام الرئيس صالح.فعندما اتضح أن الأوضاع داخل اليمن لن تتحسن مع استمرار الرئيس صالح في السلطة، كثَّفت دول مجلس التعاون الخليجي جهودها من أجل التغيير،كما ازداد تمسكهم بالمبادرة التي طرحوها على الرغم من رفض الرئيس صالح الموافقة عليها مرات عدة.
كان اليمن سيدخل بالتأكيد في حرب أهلية بكل عواقبها الشاملة والمدمرة لولا التدخل الخليجي
والوضع نفسه يمكن أن ينطبق نوعاً ما بالنسبة للبحرين،فقوات (درع الجزيرة) التي دخلت البلاد في شهر مارس الماضي لم تشارك بشكل فاعل في أعمال القمع التي مارستها قوات الأمن البحرينية ضد المعارضة، كما أوضح التقرير الصادر مؤخراً عن لجنة التحقيق المستقلة في البحرين، وإنما التزمت القوات بالهدف المعلن من دخولها وهو المساعدة على حماية عدد من المنشآت الحيوية للبنية التحتية في البحرين كوسيلة لمنع انتشار وإشاعة الفوضى في البلاد.علاوة على ذلك، فإنه لا توجد أي أدلة تشير إلى معارضة دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى وخاصة المملكة العربية السعودية لقرار ملك البحرين في تشكيل لجنة مستقلة والتعاون معها في إجراءات التحقيق.وكان ذلك بمثابة خطوة غير مسبوقة فتحت الباب مجدداً أمام إمكانية إقامة حوار سياسي للتغلب على الانقسام الموجود حالياً في البلاد. وقد أبرز التقرير انتهاكات حقوقية خطيرة، وتتجه أنظار الرأي العام حالياً إلى الحكومة البحرينية وقياداتها للضغط من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة والشروع بعمليات الإصلاح.وهذا بدوره يقتضي تغييرات على المستوى السياسي.وقد أشاد الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي بتقرير اللجنة عقب صدوره بشكل معلن وصريح، بدلاً من توجيه النقد إلى اللجنة والضغط على البحرين لتجاهل توصياتها.
كل ما سبق لا يعني القول إن السياسات التي تنتهجها دول مجلس التعاون الخليجي حيال أحداث وتطورات (الربيع العربي) لا تشوبها شائبة أو بعيدة عن النقد.فبطبيعة الحال، هذه الحكومات تعمل من منظور حماية أنظمتها والحفاظ على الحكم القائم فيها ومن ثم هم يقيِّمون الأحداث الجارية في الشرق الأوسط من هذا المنطلق. لكن، من غير المنصف قصور النظر إلى الأنظمة الملكية في الخليج العربي على أنهم يقاومون التغيير بكل ما أوتوا من قوة.بل حتى داخل بلادهم، تم تطبيق عدد من الإصلاحات بما يعتبر إقراراً منهم بأن الساحة السياسية تتغير من تحت أقدامهم، مثل، الإعلان عن منح المرأة في المملكة العربية السعودية حقوقها السياسية أو قرار دولة قطر بإجراء انتخابات تشريعية في عام 2013، وعلى الرغم من كونها خطوات صغيرة، لكنها مجرد خطوات على أية حال.
وتفتخر دول مجلس التعاون الخليجي بالاستقرار النسبي التي استطاعت تحقيقه لشعوبها خلال العقود الماضية،وهو الاستقرار الذي يراد حمايته بكل الطرق والوسائل، لكن لا يقتضي هذا بالضرورة الإبقاء على الوضع الراهن.