يساورالقلق كل من أوروبا والاتحاد الأوروبي – سواء كمؤسسة أو كدول أوروبية مستقلة – إلى جانب منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشأن التطورات التي تحدث في منطقة القرن الإفريقي، ولذلك يخصص كل منهم مواردا استراتيجية في المنطقة كتدابير مضادة وكآلية لتحقيق الاستقرار. وينبع قلق الاتحاد الأوروبي والناتو من المشكلات المحلية المتفشية في المنطقة، بدايةً من الراديكالية والمجاعات والقرصنة، إلى المنافسة الدولية والإقليمية الشرسة على القواعد العسكرية في المنطقة، وحتى الاضطراب المحتمل الذي قد يحدث من الناحية الاجتماعية فيما يتعلق بممر باب المندب المائي الدولي الرئيسي، وذلك في ضوء الحرب في اليمن واستخدام المتمردين الحوثيين للقذائف الصاروخية للهجوم على الشحن الدولي.
ولكن في الوقت الذي تركز فيه أوروبا على الأمن الاستراتيجي والاستقرار في القرن الإفريقي، تأتي المشكلات التي تواجه المنطقة لتتنافس على الاستئثار باهتمام أوروبا. وقد بدأ الناتو بالفعل في صرف اهتمامه لمكانٍ آخر، حيث يبحث في نتائج تهديدات روسيا الجديدة وضم القرم ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا وتدخل موسكو المباشر في الأزمة السورية. ويركز الاتحاد الأوروبي بالفعل على القرن الإفريقي، بل كان له دورًا عسكريًا من خلال القوات البحرية الأوروبية وعملية أتلانتا. كما تبحث أوروبا في الصلة بين دول الخليج وبعض البلدان مثل إريتريا وجيبوتي، وتوسع الوجود الفعلي في هذه الدول، مع وجود نوع من الشك في مدى تأثير ذلك على الاستقرار العام في المنطقة ككل. ومن غير المرجح أن تقل حدة هذه المخاوف في ظل استمرار الحرب في اليمن، ولذلك، سيكون من الإيجابي والمفيد أن يضم الاتحاد الأوروبي موضوع القرن الإفريقي في مناقشاته الدورية مع دول الخليج.
دور حلف الناتو
كان لحلف شمال الأطلسي دورًا مباشرًا فعالاً في منطقة القرن الإفريقي من خلال "عملية درع المحيط" لمكافحة القرصنة. وكجزء من تلك العملية، كان دور الناتو هو ردع هجمات القرصنة ووقفها، وتوفير فرق الحراسة البحرية لسفن الشحن الدولية، وتوسيع المساعدة لعمليات مكافحة القرصنة الأخرى في المنطقة. وفي المجمل، امتدت منطقة عمل الناتو من سواحل القرن الإفريقي إلى خليج عدن وغرب المحيط الهندي وحتى مضيق هرمز في الخليج، بمساحة إجمالية امتدت لأكثر من مليونين ميل مربع. وقد بدأ وجود الناتو في المنطقة في بعثة لمكافحة القرصنة في 2008م، بالرغم من انتهائها في ديسمبر 2016 م، بسبب انخفاض عدد هجمات القرصنة بشكل عام، حيث لم يتم القبض على أي سفن على سواحل الصومال منذ مايو 2012م.
ومنذ انتهاء دور الناتو رسميًا، تحول اهتمام الحلف إلى مكان آخر، خاصةً إلى البحر الأسود وأنشطة روسيا في هذه المنطقة، وإلى البحر الأبيض المتوسط مع التركيز على الهجرة وتهريب البشر. وصرح ديلان وايت، المتحدث باسم الناتو في بيان قائلاً: "لقد تغيرت بيئة الأمن العالمي بصورة هائلة في السنوات القليلة الماضية، وتأقلمت القوات البحرية التابعة للناتو مع هذا التغير." ومن غير المرجح أن نرى عودة الناتو للمنطقة بصورة حقيقية إلا إذا تغيرت البيئة الاستراتيجية في القرن الإفريقي بصورة جوهرية خلال السنوات القادمة. هذا وخاصةً أن الاتحاد الأوروبي يحافظ على مشاركته البحرية في مكافحة القرصنة. وفي الوقت نفسه، إذا زادت الهجمات المستهدفة الشحن الدولي كنتيجة لحرب اليمن بصورة كبيرة فسيضطر الناتو إلى الاضطلاع بدورٍ أكثر مباشرةً في حماية عمليات الشحن تلك. وأيضَا من التطورات الأخرى الهامة المعني بها الحلف هو دور تركيا وتدخلها المحتمل في المنطقة. ففي ديسمبر 2017م، أعلنت تركيا أنها تعيد بناء ميناء سواكن القديم الذي يرجع إلى عصر الإمبراطورية العثمانية على ساحل السودان بالبحر الأحمر ليكون بمثابة مرفأً بحريا لاستقبال السفن المدنية والعسكرية في خطوة من تركيا لتوسيع الروابط العسكرية والاقتصادية مع الدول الإفريقية. وبالرغم أن هذه الخطوة قد تكون موجهة بشكل رئيسي لمصر ودول الخليج، ولكن بما أن تركيا من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، فإن مثل تلك الخطوة يمكن أن تكون ذات أهمية.
دور الاتحاد الأوروبي
بعيدًا عن حلف شمال الأطلسي، تؤدي أوروبا دورًا أكثر أهمية بدرجة كبيرة في القرن الإفريقي من خلال الاتحاد الأوروبي. فعندما يتعلق الأمر بالقرن الإفريقي، يكون التركيز الرئيسي للاتحاد الأوروبي على الجوانب الإنسانية ودور المعونات المتعلقة بالمجاعات والجوع والتنمية اللازمة لبلدان شرق إفريقيا. وبسبب الجفاف الشديد في المنطقة، خصص الاتحاد الأوروبي 257 مليون يورو كمعونة إنسانية في 2016م، و285 مليون يورو في 2017م. وينصب التركيز في هذه المنطقة على توصيل المعونات الغذائية والرعاية الصحية والغذائية وتوفير المياه النظيفة والنظافة الصحية وحماية موارد كسب الرزق والمأوى.
صرحت فيديريكا موغريني، الممثلة السامية للسياسة الخارجية ونائبة رئيس الاتحاد الأوروبي أن في القرن الإفريقي "توجد أزمتان إنسانيتان متداخلتان، وكلاهما من فعل البشر. وقد تناولنا كلا المستويين. فالأزمة الأولى وليدة صراع أدى إلى نزوح واسع للأفراد، والأزمة الثانية نشأت بسبب أحوال المناخ من الجفاف الشديد الذي أدى إلى عدم تأمين الغذاء في العديد من دول المنطقة. وتشكل الأزمتان معًا خطرًا كبيرًا للغاية على أمن المنطقة وعلى الاستقرار العام في مناطق ومجتمعات بأكملها". وفي سبتمبر 2017، أكدت موغريني مجددًا على مساهمة الاتحاد الأوروبي ودعمه المستمر في أمن واستقرار القرن الإفريقي من خلال الروابط السياسية الوثيقة وتعهدات الاتحاد الأوروبي الأساسية بشأن التعاون والأمن.
ومن المهم التأكيد على حقيقة أن نشاط أوروبا في القرن الإفريقي ليس سياسيًا واقتصاديًا فحسب، بل وعسكريًا أيضًا. فأوروبا عازمةً على الاضطلاع بدور من خلال مؤسساتها وأدواتها المتوفرة تحت تصرفها لتأمين مضيق باب المندب بالوسائل العسكرية. وحتى مع إجراء حلف شمال الأطلسي لعملياته البحرية في المنطقة، بدأ الاتحاد الأوروبي مهمته لمكافحة القرصنة تحت اسم "العملية أتلانتا" قبالة سواحل الصومال منذ عام 2008م، وقد تم تنفيذ هذا الإجراء إلى جانب إطار السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي وفقًا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ووفقًا للقانون الدولي. وفي الوقت الذي اختتم فيه الناتو مهمته حتى يركز موارده على مناطق مثل البحر الأسود، مدد الاتحاد الأوروبي من جانبه عملية أتلانتا في نهاية عام 2016م، لعامين آخرين حتى 31 ديسمبر 2018م. وقد خُصص أكثر من 11 مليون يورو لتمويل تكاليف البعثة.
وفيما يلي إنجازات العملية حتى يومنا هذا وفقًا للموقع الالكتروني للقوة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي:
o تحقيق معدل نجاح بنسبة 100% في توفير الحماية للسفن في برنامج الأغذية العالمي لتوصيل الغذاء والمعونة إلى الشعب الصومالي، بالإضافة إلى حماية شحنات بعثة الاتحاد الإفريقي إلى الصومال، وهو أمر ضروري لنجاح عملية الاتحاد الإفريقي في الصومال.
o توفير احتياجات حماية عمليات الشحن الأخرى المعرضة للخطر داخل المنطقة شديدة الخطورة.
o المساهمة في ردع أنشطة القرصنة والسرقة المسلحة في البحار ومنعها ووقفها قبالة سواحل الصومال.
o نقل القراصنة المشتبه بهم للسلطات المختصة لمحاكمتهم وإدانتهم، في إطار التعاون الوثيق مع الحكومات الإقليمية، مثل حكومة جمهورية سيشل وموريشيوس وكينيا.
وقالت الممثلة السامية موغريني مؤكدة على أن: "عملية أتلانتا التابعة للاتحاد الأوروبي قد ساعدت بشكل كبير في التقليل من القرصنة على سواحل الصومال. وعلينا أن نستمر في الضغط على القراصنة لضمان الأمن في القرن الإفريقي. فهذا يصب في مصلحة كل منّا." وأضافت موغريني عقب تمديد مدة العملية قائلة: "إن القوة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي ستساهم أيضًا في معالجة جذور مشكلة القرصنة"، وبالتالي ذلك سيضع نشاط الاتحاد الأوروبي في سياق أوسع.
وعلى عكس مهمة الناتو بهذا الشأن، تبنى الاتحاد الأوروبي أسلوبًا أكثر شمولاً تجاه القضايا في القرن الإفريقي، والذي يتضمن أيضًا المساهمة في إدارة الصراع وحله ومنعه، إلى جانب تشجيع النمو الاقتصادي والتعاون الاقتصادي الإقليمي. وبالإضافة إلى القوة البحرية، يتضمن منهج الاتحاد الأوروبي أيضًا بعثة مدنية لدعم بناء القدرات البحرية الإقليمية، تحت اسم " البعثة الأوروبية لبناء القدرات البحرية في دول منطقة القرن الأفريقي والمحيط الهندي EUCAP Somalia “، إلى جانب بعثة تدريبية باسم "بعثة الاتحاد الأوروبي للتدريب في الصومال EUTM Somalia “لتعزيز مؤسسات حكومة الصومال وقواتها المسلحة. وتندرج كل من المبادرات الثلاث تحت نطاق "الإطار الاستراتيجي للقرن الإفريقي". وفي يناير 2012م، عُين ألكسندر روندوس اليوناني الجنسية كممثل خاص للاتحاد الأوروبي في القرن الإفريقي من أجل تحسين تنسيق منهج الاتحاد الأوروبي متعدد الجوانب في المنطقة.
وفيما يتعلق بالموقع الاستراتيجي للقرن الإفريقي والتنافس المتزايد بين القوى للحصول على النفوذ والسلطة، حذر ألكسندر روندوس، الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي في المنطقة من أن الأطراف الذين لا يولون اهتمامًا لأهمية القرن الإفريقي الاستراتيجية سيدفعون ثمن هذا التجاهل يومًا ما. وأكد روندوس أن المنطقة بأكملها التي تضم جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا والسودان وجنوب السودان والصومال قد دخلت في نطاق اهتمام القوى الخارجية، ولهذا فمن الضروري أن يولي الاتحاد الأوروبي المزيد من الاهتمام بمجريات الأمور. وعلى الرغم من إقرار روندوس بالمساهمة الخليجية في هذه الجهود، إلا أنه وصف هذه الخطوة بأنها نوع من حماية الجبهة الجنوبية من العالم الإسلامي. كما صرح بأن السعي للوصول إلى أرضية مشتركة بين المصالح الأمنية لدول الخليج وتركيز الاتحاد الأوروبي على مكافحة الإرهاب، والحوكمة الرشيدة، والنمو الاقتصادي ستشكل تحديًا لا يمكن التغلب عليه إلا بالتعاون بين الجميع.
وفي هذا السياق، حدد الاتحاد الأوروبي ثلاث قضايا يعتبرها هامة عندما يتعلق الأمر باستقرار القرن الإفريقي. القضية الأولى هي أن انتشار الإرهاب والتطرف لا يُنظر إليه على أنه يمثل تهديد على الاستقرار الاجتماعي بين شعوب المنطقة وحسب، بل إنه يشكل خطرًا أيضًا من حيث إمكانية تحول القرن الإفريقي إلى ملاذ آمن لخطط الجماعات الإرهابية حول شن هجمات في أوروبا. أما القضية الثانية فهي تزايد علاقة الاتحاد الأوروبي بالحرب في اليمن، والتهديد المباشر ضد الشحن الدولي عبر باب المندب، والخوف من احتمالية انتشار الاضطرابات إلى المنطقة المجاورة. وأخيرًا، تتمثل القضية الثالثة في الضغط الزائد على تدفقات الهجرة باتجاه الشمال، وذلك في ظل عدم الاستقرار في المنطقة. وبالنسبة لأوروبا، جميع هذه الجوانب الثلاثة مترابطة للغاية، ومن ثمَّ كان لابد من تبني منهجًا شاملاً.
المضي قدمًا
بالنسبة إلى أوروبا، من الضروري عقد نقاش واسع النطاق بين مجموعة من الأطراف المهتمة وذات الصلة، مثل دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين لبحث أمن القرن الإفريقي واستقراره، انطلاقًا من أهمية موقعه الاستراتيجي وبداية ظهور التنافس المتزايد على المنطقة. ويساور أوروبا القلق على وجه الخصوص بشأن استمرار الحرب في اليمن وتداعياتها المحتملة في منطقة القرن الإفريقي ككل، حيث يساهم الصراع في تدفق الهجرة وتوسيع المناطق الخارجة عن القانون والتي يمكن أن تنتشر فيها الميليشيات والجماعات المتطرفة وتوسع نفوذها، إلى جانب خطرها الدائم على الشحن الدولي بسبب هجمات القذائف الصاروخية في المضيق من الجانب الحوثي. وفي ظل الأولويات الأخرى، سيجد الاتحاد الأوروبي نفسه تحت ضغط كبير للحفاظ على الوجود متعدد المستويات في القرن الإفريقي، على أساس أن المنطقة في حد ذاتها ليست مجاورة بصورة مباشرة لأوروبا، وأن الاتحاد الأوروبي – مثله مثل حلف شمال الأطلسي – عليه أن يركز على تطورات المناطق الأكثر قربًا مثل البحر الأبيض المتوسط. كما أن التوتر الحالي في العلاقات مع حكومة ترامب في واشنطن، وسياسات روسيا تحت حكم الرئيس بوتن، والخروج الوشيك للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي كلها تعني أن الاتحاد الأوروبي ليس لديه حليف طبيعي لتنسيق السياسات وتحمل جزء من العبء. وما يعنيه ذلك في نهاية المطاف أن الاتحاد الأوروبي سيحاول أن يحافظ على مستوى من الاهتمام بالتطورات في القرن الإفريقي، وسيدعو من وقتٍ إلى آخر للانخراط والاهتمام بصورة أكبر من جانب المجتمع الدولي الأوسع، ولكنه سيعتبر نفسه أيضًا ملزمًا بالتفاعل مع الأحداث بشكلٍ كبير على أرض الواقع. ومن هذا المنطلق، تواجه سياسة الاتحاد الأوروبي في القرن الإفريقي التحديات والتناقضات نفسها التي تواجهها السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي بوجه عام في أماكن أخرى في العالم.