تفاجأ الاتحاد الأوروبي بما قامت به إسرائيل من فرض تدابير أمنية جديدة على حرم المسجد الأقصى في يوليو 2017 م، إثر هجومٍ على جنودٍ إسرائيليين. وقد اتضح مرة أخرى فيما تلا ذلك من المناقشات عدم قدرة الاتحاد الأوروبي للدفع بتنفيذ المزيد من التدابير الفعلية بهدف التقليل من هذا التوتر الذي حل في مدينة القدس، وبالأخص بعد إعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قيام السلطة الفلسطينية بتعليق جميع صور التنسيق الأمني مع إسرائيل، وواكب ذلك عدم استجابة إسرائيل إلا ببطء في سحبها لبعض قراراتها. وفي ظل هذا الموقف، لا يزال الوضع متقلبًا مع احتمالية وقوع المزيد من المشاحنات والعنف المخطط مسبقًا.
وأصدر الاتحاد الأوروبي، إلى جانب دول أخرى، بيانًا صحافيًا عقب أحداث العنف المباشرة، ومن خلاله دعا الاتحاد الأوروبي إلى "التزام الجميع بأقصى درجات ضبط النفس وتجنب الأعمال الاستفزازية والعمل على الحد من تصاعد الموقف." ورحب البيان أيضًا بـ "تأكيدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس سيلقى التأييد والاحترام."[1] وقد صرحت ماجا كوسيجانسيك، المتحدثة باسم الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني، أن الاتحاد الأوروبي يدعو أيضًا "جميع الزعماء السياسيين والدينيين بالتصرف بمسؤولية والسعي لاستعادة الهدوء" قائلةً: "سنستمر في مراقبة التطورات عن كثب."[2] كما ناشد الاتحاد الأوروبي المملكة الأردنية بمحاولة المساهمة في تهدئة التوتر. وقالت كوسيجانسيك: "ندعو إسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية بالتعاون وبذل جميع الجهود لإيجاد حلول تضمن الأمن للجميع، وتحترم حرمة ذلك المكان المقدس، وتحافظ على الوضع القائم." وقد ذُكر ذلك مرة أخرى بعد بضعة أيام في بيان للجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط، والذي فيه دعيت الأردن "بالعمل معًا للحفاظ على الوضع القائم، مشيرًا إلى الدور المتميز للمملكة الهاشمية المتمثل في معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل."
وقد كانت البيانات الصادرة عن إسرائيل تتماشى إلى حدٍ كبير مع تلك البيانات المطروحة من دول أخرى والمجتمع الدولي الأوسع نطاقًا. إلا أنه بعيدًا عن صور الشجب اللفظي والدعوات لحل سريع لذلك الوضع المشحون، فلم تُطرح أي خطوات مادية يمكن أن يكون لها تأثير على أرض الواقع. وهو ما يشبه سياسة الاتحاد الأوروبي في عملية السلام في الشرق الأوسط بشكل عام، حيث يمتلك الاتحاد الأوروبي سياسة واضحة، ولكنه لم يحقق نجاحًا كافيًا فيما مضى لخلق الوضع الذي يمهد إلى حل حقيقي للقضية الفلسطينية. كما لا يوجد مؤشر على أن الأزمة الراهنة حول الدخول إلى الأماكن المقدسة في البلدة القديمة من القدس وحولها سيغير من المعادلة أو أن الأوروبيين سيحاولون استغلال التوتر لبدء محاولة جديدة في صنع السلام. ولكن، نظرًا للتحديات العديدة الأخرى التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، فإن قبول الوضع القائم يبدو أنه أفضل حل يمكننا أن نتطلع إليه.
الاتحاد الأوروبي وعملية السلام في الشرق الأوسط
نجد سياسة الاتحاد الأوروبي بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط مسطورة بإيجاز في موقع الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية: "إن حل الصراع العربي الإسرائيلي هو محور اهتمام أساسي لدى الاتحاد الأوروبي. ويهدف الاتحاد الأوروبي إلى تطبيق حل الدولتين، وذلك من خلال دولة فلسطينية مستقلة ديموقراطية فعالة ومتصلة جغرافيًا، تعيش جنبًا إلى جنب في سلام وأمن مع إسرائيل والدول المجاورة لها."[3]
إن الأسلوب القائم على السياسة هو نتاج لعملية امتدت لعقد من الزمن، بدايةً من "إعلان البندقية" عام 1980م، والتي أكدت فيها المفوضية الأوروبية وقتها على الحاجة إلى الوفاء بالحقوق "الشرعية" للفلسطينيين، مرورًا بإعلان برلين عام 1999م، حيث أعرب الاتحاد الأوروبي عن التزامه الصريح بإقامة دولة فلسطينية. وفيما بعد، أصبح الاتحاد الأوروبي الراعي المشترك لما يسمى "خارطة الطريق نحو السلام" في 2002م، والتي أسست اللجنة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وفي نوفمبر 2007م، أصدر الاتحاد الأوروبي "استراتيجية العمل لتحقيق السلام في الشرق الأوسط"، والتي حددت مجموعة من الأنشطة التي كانت مستعدة لتنفيذها، مثل تقديم الدعم الواسع للسلطة الفلسطينية لبناء الدولة، وذلك بهدف تأييد الاتجاه الذي يرمي إلى حل إقامة دولتين. ونظرًا لعدم إحراز تقدم من قِبل اللجنة الرباعية أو لقلة النتائج التي قدمتها "استراتيجية العمل" التي وضعها الاتحاد الأوروبي في دفع عملية السلام، فقد أعلن الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2014م، بأنه على استعداد لتنفيذ "دعم سياسي واقتصادي وأمني غير مسبوق" لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين، إذا اشترك الجانبان في إحراز تقدم جوهري للوصول إلى حل نهائي.[4] وقد تضمن ذلك عرض "شراكة خاصة ومتميزة" لكل من فلسطين وإسرائيل كما ذُكر مجددًا في المجلس الأوروبي في اجتماعه شهر يناير 2016.[5]
وبالإضافة إلى مبادرات الاتحاد الأوروبي الخاصة، رحب الاتحاد أيضًا بمبادرة السلام العربية كأساس لمزيد من النقاش، ولكنه أعرب عن خيبة أمله لأن إسرائيل لم تتعامل مع الخطة بجدية. وكجزء من السياسية الأوروبية للجوار، يجب الإشارة إلى أن الشراكة الأوروبية المتوسطية الخاصة بالاتحاد الأوروبي أو إطار العمل الخاص بالاتحاد من أجل المتوسط لا يزالان في الوقت الحالي السياق متعدد الأطراف الوحيد خارج الأمم المتحدة، والذي يمكن أن يلتقي فيه أطراف النزاع وأن يتناقشوا حول مواقفهم المختلفة. وعلى هذا النحو، يوفر الاتحاد الأوروبي مستويات مختلفة يمكن من خلالها المساهمة في محاولة دفع عملية السلام في الشرق الأوسط إلى الأمام.
فضلاً عن ذلك، يفتخر الاتحاد الأوروبي بما يقدمه من مساعدة إلى الفلسطينيين فيما يتعلق بالمعونة الإنسانية ودعم الحوكمة السليمة. ولا يزال الاتحاد الأوروبي هو أكبر المانحين في الجهود الفلسطينية المتعددة لبناء الدولة، والتي تقدر الآن بحوالي مليار يورو سنويًا. ويتضمن ذلك خطوات لبناء المؤسسات في مناطق خدمات الأمن والقضاء ونظام المحاكم الفلسطيني، وكذلك فيما يتعلق بجوانب تنمية الأراضي والمياه. وقد تم مؤخرًا تمديد التكليف الخاص بإصلاح وتجديد عناصر المؤسسة الأمنية الفلسطينية في إطار عمل بعثة الشرطة التابعة للاتحاد الأوروبي إلى الأراضي الفلسطينية إلى يونيو 2018، وهناك تعهدات مستمرة من الاتحاد الأوروبي للحفاظ على دعمه للبنية التحتية في شتى المجالات.
في الوقت نفسه، تأثرت الجهود العديدة المقدمة من الاتحاد الأوروبي بعدة عوائق يمكن توضيحها من خلال قضيتين رئيسيتين. أولهما هي المشكلة المزمنة داخل الاتحاد الأوروبي المتعلقة بتشكيل سياسة خارجية وأمنية مشتركة تلتزم بها جميع الدول الأعضاء. وعلى غرار العديد من مشكلات السياسة الخارجية الأخرى، لا يتوفر لدى الاتحاد الأوروبي منهجًا متكاملاً عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، حيث تتخذ بعض الدول الأعضاء المبادرات بصورة فردية ولا تبدي استعدادًا لتقديم الجهد الكافي لدعم سياسات الاتحاد الأوروبي المتفق عليها بالفعل. ففي يوليو 2007م، على سبيل المثال، أعلنت 10 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي على نحوٍ صريح إخفاق خطة خارطة الطريق نحو السلام الخاصة باللجنة الرباعية في 2003م، بالرغم من حفاظ الاتحاد الأوروبي على موقفه ودوره داخل اللجنة الرباعية. وفي 2010م، طرحت فرنسا تحت حكم الرئيس ساركوزي خططها الخاصة للشرق الأوسط، والتي لم يتم تنسيقها مع الاتحاد الأوروبي. وعلى غرار قضية ليبيا وأزمة اللاجئين، لم يتغلب الاتحاد الأوروبي على ما يعانيه من الانقسامات الثنائية والمتعددة الأطراف، وذلك عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية والأمنية.
العائق الآخر الرئيسي هو أن إسرائيل لا تنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه شريك ذو كفاءة وتوازن يمكن التعاون معه لمحاولة الدفع بعملية السلام. فإسرائيل تعتبِر أن الاتحاد الأوروبي لديه انحياز تجاه الجانب العربي، ويُظهر درجة من اللامبالاة عندما يتعلق الأمر بقضية المخاوف الأمنية في إسرائيل. كما أن إسرائيل لا ترفض أن تتعاون مع الاتحاد الأوروبي على الوصول إلى نتائج بشأن مفاوضات السلام فحسب، بل يمكن القول إنها تقوض بشدة من العملية من خلال التصدي باستمرار للدعم المادي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي إلى الفلسطينيين بل وتدميره أيضًا، فالكثير من الدعم المتعلق بالبنية التحتية المقدم من الاتحاد الأوروبي إلى الأراضي الفلسطينية قد دُمر في أعقاب الانتفاضة الثانية. وقد تسبب إحجام الاتحاد الأوروبي في الرد بقوة أكبر على الأفعال الإسرائيلية بظهور اتهامات من الجانب الفلسطيني بأن الاتحاد الأوروبي في الحقيقة يدعم إسرائيل من خلال الاستمرار في الاحتلال ولكن بصورة أخرى. ونظرًا لرؤية الاتحاد الأوروبي ودوره في القطاع الأمني لدى الفلسطينيين، فقد أدى ذلك إلى الجدال بأن الاتحاد الأوروبي نفسه متورط في ترسيخ الوضع القائم في المنطقة، وبذلك فهو مسؤول عن الإخفاق في إحراز تقدم في عملية السلام.
لا مجال لإحراز تقدم
بالرغم من احتدام التوتر الذي حدث مؤخرًا في البلدة القديمة للقدس، إلا أنه فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي فلا يوجد مؤشر من بروكسل على تصدر إحياء عملية السلام من جديد لقائمة الأولويات. وبالرغم من أنه كانت هناك محاولات لطرح منهج متسق من خلال وثائق مثل الاستراتيجية الأمنية الأوروبية في 2003م، أو الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي المعلنة مؤخرًا في 2016م، تبقى المسألة الأساسية وهي أن الاتحاد الأوروبي يفتقد إلى استراتيجية سياسية شاملة جامعة بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط يكون لها الدعم المطلق والمستمر من جميع الدول الأعضاء. هذا وتتضمن المجالات الأساسية ذات الأولوية في الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي الأمن والدفاع الأوروبي، ومكافحة الإرهاب والتطرف، ووقف تدفق الهجرة والتعامل مع أزمة اللاجئين، وقضية البلقان في جنوب شرق أوروبا، وعرض اقتراحات حول الحوكمة العالمية. وبالرغم من أن المناطق المجاورة لأوروبا – والتي يعد الشرق الأوسط فيها أحد الأجزاء المحورية – يرد ذكرها بوضوح في وثيقة الاستراتيجية، إلا أن الوثيقة افتقدت بصورة ملحوظة للإشارة إلى عملية السلام في الشرق الأوسط بالمقارنة مع الوثائق أو البيانات السابقة.
مسألة أخرى وهي التباين المستمر بين الأهداف المحددة للاتحاد الأوروبي على مستوى الطرح، والوسائل الفعلية لتنفيذ تلك الأهداف على أرض الواقع بجانب الاستعداد اللازم لرؤية الأمور مطبقة فعليًا حتى في مواجهة المعارضة المنظمة. فبدلاً من الدخول مع إسرائيل في حوار صريح يظهر من خلاله الثمن الحقيقي لاستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، أو الرد بصورة أقوى على تدمير المشاريع الممولة من الاتحاد الأوروبي في تلك الأراضي، أو استنكار أعمال الاستيطان الإسرائيلي بما يتجاوز مجرد البيانات الشكلية، هناك تردد واضح من جانب الاتحاد الأوروبي في استخدام نفوذه لمواجهة إسرائيل. فبمجرد محاولة الاتحاد الأوروبي التصرف على نحو أكثر صرامة إلا وتجد إسرائيل تسرع إلى التهديد بخفض مستوى علاقتها أو منع زيارة وفد الاتحاد الأوروبي. وأقرب مثال على ذلك هو تهديد إسرائيل بمقاطعة المبعوث الخاص لعملية السلام التابع للاتحاد الأوروبي فرناندو جينتيليني في مارس 2017.[6]
إن قضية القدس قد أكدت على عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على سد الفجوة التي تسبب فيها انسحاب الولايات المتحدة كما تبين خلال السنوات الأخيرة. ففي المرحلة الراهنة، لا يوجد ما يشير– بعيدًا عن مجرد بيانات عامة لإعلان النوايا – على أن الولايات المتحدة سيكون لها مرة أخرى دور قوى بما يكفي لإعطاء عملية السلام الدَفعة اللازمة، وبما يمكن اعتباره جهود فعلية بارزة. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن هذا العجز يعزز من النظرة إلى الاتحاد الأوروبي بوصفه جهة 'مانحة' وليست 'فاعلة' على صعيد الشرق الأوسط.[7] وما يعنيه كل ذلك أن الوضع، فيما يتعلق بالقضية الأخيرة، سيظل مستمرًا في التدهور إلى أن يصبح حل إقامة دولتين بديلا غير مجدٍ. فبعيدًا عن عبارات التحذير والدعوات لكافة الأطراف بضبط النفس، لم يقدم الاتحاد الأوروبي ما يذكر لتمهيد الطريق نحو ظهور عملية سلام جوهرية، الأمر الذي سيثبت ضرره على جميع الأطراف المعنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مدير مؤسسة كز الخليج للأبحاث ـ جنيف
[1] انظر: https://eeas.europa.eu/delegations/israel/30257/statement-middle-east-quartet-envoys_en
[2] متاح على الرابط:
[3] انظر: https://eeas.europa.eu/topics/middle-east-peace-process_en
[4] انظر: https://eeas.europa.eu/delegations/israel/337/middle-east-peace-process_he
[5] انظر نتائج المجلس بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط
http://www.consilium.europa.eu/en/press/press-releases/2016/01/18-fac-conclusions-mepp/
[6] انظر: http://www.haaretz.com/israel-news/.premium-1.776193
[7] انظر (جوست هلترمن) "قصر نظر أوروبا تجاه الشرق الأوسط" 12 أغسطس 2015 – متاح على الرابط:
https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/europe-s-middle-east-myopia