لم تشهد المنطقة العربية في العصر الحديث حالة من الانكفاء والصراع أكثر مما تشهده الآن، كما لم تعرف تحديات ومخاطر أكثر مما تعيشه في المرحلة الحالية، أي أن المنطقة العربية تمر بمرحلة معادلة متناقضة الطرفين، ففي الوقت الذي تواجه فيه تحديات ومخاطر ضد وجودها نفسه، تشهد خلافات لم تمر بها في أوقات ضعف تأثير المهددات الخارجية.
فرغم المخططات المعلنة والسرية التي تستهدف إضعاف الدول العربية وتقسيمها وشرذمتها، إلا أن الانسياق وراء تنفيذ هذه المخططات يمارسه البعض سواء بقصد أو دون قصد، ودون رادع، أو حتى دون إعادة الحسابات وتصحيح المسار، خاصة من جانب الدول والجماعات التي اعتادت التغريد خارج السرب في السنوات الأخيرة، مع إصرارها على تأخير المصلحة العربية العليا والأمن العربي الجماعي والمشترك، وتقديم المصالح الشخصية والفئوية والطموح الفردي.
وللأسف في الوقت الذي تصعد فيه التكتلات الاقتصادية للدول الصاعدة أو حتى الفقيرة وتحقق قفزات اقتصادية هائلة، نجد أن بعض دول المنطقة تسعى إلى عدم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في اتفاقيات وقرارات اتخذتها دول المنطقة بشكل جماعي عبر مؤتمرات قمم، واجتماعات وزارية وتحت مظلة مؤسسات العمل العربي المشترك سواء منظمته الأم (الجامعة العربية)، أو المجالس والمظلات الإقليمية التي تعد من أهم روافد جامعة الدول العربية. بل كلما اقتربت بعض هذه الدول أو التجمعات من تحقيق قفزة نحو الاتحاد أو الوحدة جاء من يبعثر الأوراق ويخلطها ويعيد المنطقة إلى المربع الأول، والأخطر هو إنهاك المصالح العربية، وانتهاك الأمن العربي الجماعي أو الأمن الإقليمي للدول المتقاربة جغرافيًا مثل دول مجلس التعاون الخليجي، أو دول الاتحاد المغاربي.
ورغم الطعنات التي تلقتها ومازالت تتلقاها الدول العربية منذ بداية موجات الاستعمار التي أتت إلى المنطقة العربية، وما تبعها من حالة التأخر الكبيرة عن الركب العالمي في التقدم التكنولوجي والعلمي والأخذ باقتصادات المعرفة وتوطينها، ثم ما حل بالمنطقة بعد انفجار بركان ما يسمى بالربيع العربي، إضافة إلى هشاشة التوازن الاستراتيجي الإقليمي، وصعود دول كثيرة في المحيط العربي أو بالقرب منه، والسباق على التسلح التقليدي والنووي، ورغم المخططات الواضحة لدول الجوار الإقليمي للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتمويل هذه الدول للميليشيات المسلحة في الدول العربية لتكون شوكة في خاصرة دولها، إضافة إلى تمويل جماعات الإسلام السياسي لشق صف الدولة الأم، واللعب على وتر المذهبيات والعرقيات وتصدير الأزمات إلى منطقتنا بوسائل كثيرة ... إلا أنه مازال بين الدول العربية من لم يقدر هذه المخاطر، أو لا يكترث بما قد تسببه أو تؤول إليه المنطقة.
بل يأتي ذلك والعديد من الدول العربية تخوض حروبًا ضد الإرهاب في المنطقة وتصد الاختراقات الخارجية، كما هو الحال في اليمن حيث مازالت عاصفة الحزم والتحالف العربي يواجه تبعات تمرد وتعنت الانقلاب الحوثي / صالح المدعوم من إيران، وفي سوريا الوضع بلغ أرذله، وكذلك تعقب تنظيم داعش ومحاصرة تمدده، ومواجهة الجماعات الإرهابية المنتشرة في سيناء وليبيا وغيرها، ورغم ذلك لا يبدو أن هذه الأزمات تمثل أجراس إنذار كافية للبعض لكي يشارك بجدية في دعم الأمن العربي والإقليمي، بل يشارك في فتح ثغرات في جدار هذا الأمن.
وفي حال رغبت الدول العربية تثبيت أسس الاحترام المتبادل وتأسيس التكامل الحقيق القائم على درء المخاطر وإغلاق الثغرات، فلابد من تفعيل آليات العمل العربي المشترك وتأطيره مثل آليات التصويت والتمثيل وإقرار عقوبات على المخالفين، و نخص بالذكر إنشاء محكمة العدل العربية المقترحة من قبل لمعاقبة المتجاوز حتى لا تتكرر مآسي الماضي القريب ومنها غزو نظام صدام حسين للكويت، وانقلاب الحوثي/ صالح في اليمن، أو مجازر النظام السوري ضد شعب سوريا الشقيق، إضافة إلى تفعيل القرارات الأخرى مثل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، والسوق العربية المشتركة وغيرها، وكذلك الأمر على مستوى مجلس التعاون الخليجي المنظمة الإقليمية الأكثر التزامًا والأكثر رغبة في التقدم على طريق التكامل، وقبل ذلك لابد من الإرادة القوية لترجمة هذه المقررات وظهور هذه المؤسسات إلى الواقع, أسوة بالتكتلات الأخرى في العالم والتي حققت الكثير في زمن قصير.
وإلا ستظل المواقف والخلافات تراوح، والقرارات دون تطبيق , ويظل مسلسل التردي العربي مستمرًا.