سوف يبقى التحالف الدفاعي الخليجي مع الولايات المتحدةمثالا للعصر الذهبي للأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون. فلم تكن العلاقة بين دول المجلس والولايات المتحدة علاقة تبعية أو علاقة تأثيرمن جانب واحد، بل ليس من قبيل المبالغة القول –بأثر رجعي- بأن المستفيد الأكبر من هذه العلاقة كانت دول مجلس التعاون. فقد كانت منطقة الخليج من أكثر المناطق التي قضى فيها جنود أمريكيون نحبهم بعد حرب فيتنام، ومن أكثر المناطق التي ألحقت خسائر بالاقتصاد الأمريكي (تريليونات الدولارات)، وصحيح أن ذلك كان دفاعا عن المصالح الأمريكية أيضا، إلا أنه ارتبط بأزمات تمس الوجود السياسي الخليجي، على نحو ما برز خلال أزمة الغزو العراقي للكويت.
لقد ظلت دول مجلس التعاون على مدى العقود الماضية مرتكنة إلى ضمانة أمنية من القوة الأعظم، وما أن كان ينشأ تهديد أو يحل خطر بإحداها إلا وكانت الاستجابات الأمريكية فورية، على نحو شكل مبدأ أو عقيدة من عقائد الأمن القومي الأمريكي. وقد جربت دول المجلس ذلك أكثر من مرة، الأمر الذي مكنها من بناء اقتصاداتها والانطلاق بثبات في التنمية على نحو جنبها تاليا ما تعرضت له دول بالإقليم في 2011م، من هزات ثورية عنيفة، ضربت دول عربية استحوذت على ثروات مماثلة من النفط، كما نشأت لدول المجلس وضعية أمنية أشبه بوضعية اليابان وألمانيا، من حيث الضمانة الأمنية الأمريكية و"الناتوية" للبلدين منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن من دون اتفاقات حماية كحالتي اليابان وألمانيا. ومكن ذلك دول المجلس من العيش بأمان بين قوتين إقليميتين طامعتين، ونظامي حكم متهورين وراديكاليين (العراق وإيران).
التحالف الذهبي والتهديدات الجديدة:
مع كل ما سبق، قد لا تفقد دول المجلس الكثير بتراجع الالتزام الأمريكي نحوها، وذلك لأن أشكال التهديدات الأمنية والعسكرية اختلفت كثيرا عن الماضي، بحيث أنه لو استمرت الولايات المتحدة بنفس مستويات التزامها الأمني إزاء دول المجلس، فلن يضيف كثيرا في مواجهة التهديدات الجديدة. وسوف يظل مستوى الشراكة الأمريكية الجديدة مع دول الخليج من 2015م، وصاعدا غير مختبر؛ فلم تعلن الولايات المتحدة تخليها عن أمن الخليج، ولقد حرص البيان المشترك لرؤساء وفود دول التعاون مع الرئيس باراك أوباما في كامب ديفيد (مايو 2015م) على التأكيد على أن: "سياسة الولايات المتحدة باستخدام كافة عناصر القوة لحماية مصالحنا الرئيسية المشتركة في منطقة الخليج وردع ومواجهة أي عدوان خارجي ضد حلفائها وشركائها، كما فعلت في حرب الخليج، هي أمر لا يقبل التشكيك"، وأكد الجانبان: "التزامهم المشترك حيال شراكة استراتيجية بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون لبناء علاقات أوثق في كافة المجالات".
ولكن على الرغم من أن الولايات المتحدة كررت التزامها بأمن الخليج، إلا أنها تركت تحديد قرارها بشأن مستوى التدخل في الأزمات الخليجية دون مبدأ محدد وواضح، وهو ما عكسته بعض فقرات البيان التي جاءت غامضة مثل القول بأن "الولايات المتحدة على استعداد للعمل سويا مع دول مجلس التعاون لردع والتصدي لأي تهديد خارجي .. وفي حال وقوع مثل هذا العدوان أو التهديد به، فإن الولايات المتحدة على استعداد للعمل على وجه السرعة مع شركائها في مجلس التعاون لتحديد الإجراء المناسب الواجب اتخاذه باستخدام كافة السبل المتاحة، بما في ذلك إمكانية استخدام القوة العسكرية". وإلى الآن ليس معروفا درجة الالتزام الأمريكي إزاء التهديدات الأمنية لدول المجلس المماثلة لتلك التي كانت موجودة سلفا، وهل إذا تعرضت دولة خليجية لغزو أجنبي كذلك الذي تعرضت له الكويت عام 1990م، سوف يكون رد الفعل الأمريكي على ذات المستوى. يشير الالتزام اللفظي الأمريكي إلى استمرار ذلك، ولكن ليس هناك ضمانة فعلية تؤكد ذلك لدول المجلس. ولا يمكن لدول المجلس أن ترهن أمنها القومي لالتزام غير مؤكد، أو لا يخضع لمبدأ حاكم وضابط.
مع ذلك سيبقى هناك هامش من المناورة، فالتجربة الأمريكية في العراق تفرض ضغطا معنويا على أي قوة ترغب بتهديد دول مجلس التعاون بغزو مماثل، ومن ثم يتعذر أن تفكر إيران في قرار من هذا القبيل مطلقا، إدراكا منها لـ"غموض" الالتزام الأمريكي بأمن دول المجلس في مواقف من هذا القبيل، والذي يمكن أن يترافق بسوء النوايا أو يرتبط بفكر سياسي جديد لإدارة أمريكية جديدة، تستبطن نوايا عقابية تجاه إيران أو غير إيران، وهو ما يضع عراقيل على أي قوة ترغب بالعدوان على أي من دول المجلس. لكن الأهم -وهو الأمر الغامض تماما- هو الموقف الأمريكي من تلك النوعية الجديدة من التهديدات للأمن الخليجي والتي أصبحت أخطر من التهديد بغزو عسكري تقليدي، وهي الخاصة بالجماعات الجهادية الإرهابية، التي اختطفت مناطق كبرى في دول مركزية كالعراق وسوريا، وتضرب الآن في دول عديدة بالمنطقة وفي دول تقع في قلب الحضارة الغربية، فضلا عن أعمال العنف الداخلية، والناشطين الثوريين والجماعات الحقوقية والتي قد تقلب بتقاريرها استقرار الدول رأسا على عقب، فضلا عن سياسات تستهدف تأليب الأقليات الوطنية وإثارة النزعات الطائفية، وتصدير الأزمات السكانية عبر الحدود، والهجمات الإعلامية، والسعي لقلب أنظمة الحكم ونشر عدم الاستقرار الداخلي. وهي كلها تهديدات لا يبدو أن الولايات المتحدة تعطيها اهتمامها، بل يبدو أنها لا تهتم من الأساس بالاستقرار السياسي والنظامي لدول المجلس. وفي الأغلب جعلت الولايات المتحدة الأولوية للجماعات الإثنية والمصالح الخاصة وتحالفاتها مع القوى التحتية في المجتمعات على حسابالدولة وتكامل المجتمعات ووحدتها الوطنية.
والخلاصة أنه لا مجال لعودة الضمانة الأمنية الأمريكية بشكلها السابق، وأنه لا إدارة أوباما ولا غيرها من إدارات ديمقراطية أو جمهورية سوف تعيد العمل بصيغة التحالف الأمني السابقة مع دول الخليج، وأنها لن تلتزم مبدأ محدد يسري على علاقاتها بكل دول المجلس، وإنما سوف تبقى التزاماتها واستعدادها للتدخل مرتبطا بنوعية الهدف ومدى استشعار الخطر على المصالح، ومقدار ارتباطها أو التزامها إزاء الدولة أو النظام، وارتباط كل ذلك بأولوياتها الدولية الأخرى. وعلى الأجدر لن ترسل الولايات المتحدة جنودها لمقاتلة الجماعات المسلحة في سوريا والعراق إذا فكرت أي من تلك الجماعات أو بعضها في توجيه ضرباتها لإحدى دول المجلس، ومن غير المعروف السلوك الأمريكي لو استخدمت إحدى القوى الإقليمية هذه الجماعات وتعاملت معها ووظفتها ضد مصالح دول المجلس. لذلك فإن التفكير الأكثر أمانا أن تعتبر دول المجلس الالتزام الدفاعي والأمني الأمريكي نحوها كأنه غير موجود، وأن تستعد للرد على التهديدات ومواجهتها في ظل افتراض غياب دور الحليف الأمريكي، وذلك لن يمكنها فقط من توفير "الخطة ب" لمواجهة التهديدات، بل قد يدفع تاليا الولايات المتحدة لمعاودة تجديد التزاماتها الأمنية تجاهها، وذلك حين تتأكد من أن حلفاءها لديهم القدرة على مواجهة التهديدات منفردين.
الخيارات الدفاعية البديلة:
سواء تغيرت مواقف الإدارة الأمريكية الراهنة خلال عام 2016م، أو أجبرتها متغيرات المنطقة وأزماتها على العودة مجددا، ومهما كانت توجهات الإدارة المقبلة (جمهورية أو ديمقراطية)، فإن دول المجلس سوف يتعين عليها أن تتعامل مع عصر جديد، وأمريكا جديدة، ومنذ الآن وصاعدا لن تطمئن للتعهدات الأمنية الأمريكية، بعدما تبين لها أن الإدارة يمكن أن تتركها منفردة وفجأة في مواجهة مواقف وتهديدات حرجة، قبل أن تكون قد استعدت لهذه التهديدات أو تهيأت لها، وذلك ما تكشف لدول المجلس مع الثورات العربية منذ 2011.
إزاء كل ذلك، أمام دول المجلس خيارات عديدة، وهي ليست بدائل لبعضها البعض، وجميع هذه الخيارات يتجه إلى تعزيز وضعية ومكانة دول مجلس التعاون بالداخل والخارج. ومن المهم أن يتجه التفكير الخليجي إلى مقترحات غير تقليدية، تتحدد بالأساس وفق نوعية التهديدات الجديدة. وفي ظل ذلك، يمكن تحديد الموجات المتوقعة من التحديات والتهديدات الأمنية على دول المجلس في ثلاث أساسية، وهي: أولا: التهديد القادم من اليمن، والذي سيستمر لفترة على دول مجلس التعاون (خصوصا السعودية)، ترتبط بمدى استمرار الحرب والاضطراب الداخلي في اليمن ومدى النجاح في عملية إعادة بناء الدولة فيما بعد الحرب، وثانيا: خطر الجماعات الجهادية العابرة للحدود التي لديها قدرات على ممارسة العنف واسع النطاق، وتحديدا أخطار جماعات داعش والنصرة والقاعدة بعد أن تفرغ من مهماتها "المقدسة" في العراق وسوريا، وثالثا: الخطر الإيراني بالتشابك مع احتمالات التماهي الداخلي من جماعات عابرة الولاء للمرجعية الشيعية وللمرشد الإيراني. ومن المرجح ألا يتخذ الخطر الإيراني شكل العدوان العسكري المباشر، وإنما أن يتستر بنفس ما تستر به في العقود الماضية، وهي تصدير الثورة وتثوير الجماعات الشيعية ذات الولاء المزدوج أو الوحيد للمرشد، وفي مواجهة ذلك تقترح الورقة ثلاثة بدائل لتعزيز الأمن الخليجي، على النحو الآتي:
الأول: تعزيز القدرات الناعمة للأمن القومي:
أشارت خبرة الثورات العربية إلى أن الأخطار والتهديدات لم تعد تأتي من قوىالاستعمار والتهديد بالاحتلال أو الغزو، أو التبعية التقليدية ممثلة في تبعية القرار السياسي، وإنما تتحدد بالأساس بحالة ووضعية المواطن في أقاصي المدن والريف والبوادي والحواضر، والفئات الوطنية (القومية والاثنية والقوى السياسية المهمشة)، والمناطق والمدن والبلدات المظلومة أو محل التجاهل والإقصاء، وهي القوى التي يستغلها الخارج تحت شعارات براقة للحقوق والحريات، هؤلاء هم الذين يمكن أن يتجهوا في لحظة عنف جماعي غير مخططة لإزاحة ما يعتقدون أنه سدود وأسوار بينهم وبين تحقيق الذات ورفع المظالم ونيل الحريات. هذه القوى إذا لم يجر السيطرة عليها وترشيدها، وإدماجها في المسار الوطني، وإعادة استئناسها وتدريبها لتكون قوى للتطوير والبناء، يمكنها أن تطلق مقذوفات صاروخية تلحق دمارا أشد خطرا من القنبلة النووية. وفي ظل ذلك لم يعد من مصلحة السلطات في أي دولة الإبقاء على حالة كسل جماعي لبعض فئاتها، وإنما عليها تنشيط كل القوى بها فيها القوى الخاملة والكسولة لتكون حصونا للدفاع والوعي ضد قوى التخريب والهدم.
هنا تبدو أهمية الخطوات التي أقدمت عليها دولة الإمارات وسلطنة عمان (في أكتوبر 2015 م، بعقد انتخابات برلمانية)، والسعودية (في ديسمبر 2015م، بعقد انتخابات بلدية)، في تمتين الشراكة والأمن الداخلي. فهذه الخطوات التي قد تبدو صغيرة وبسيطة، هي كبيرة بمنظور التطور التدريجي لمجتمعات الخليج، وتقدم عليها دول المجلس مختارة لا مجبرة، وتشكل جرعة مهمة لانتعاش الحياة السياسية، وتمتين الشراكة الوطنية.
إن المدرسة التقليدية التي تعتبر الأمن القومي يتعزز بمخزونات السلاح والقدرة على مواجهة تهديدات الخارج والأطماع الإقليمية لم تعد هي الأساس إزاء الأخطار الجديدة من الفاعلين من غير الدول. والتي لم يعد يجدي إزاءها التسلح بأحدث ما في الترسانة العسكرية في ظل ما تطرحه من حروب لا متماثلة، وإنما التسلح بالقوى الناعمة والثقافة والعلم، وبحشد طاقات البناء والتوافق في الداخل. لذلك يجب التأسيس لـ"مدرسة جديدة للأمن القومي الخليجي" مستفيدة من تجارب الثورات العربية، تقوم على تعزيز الشراكة الداخلية وتأكيد قدسية الدولة الوطنية، وسواء كانت منظمات حقوقية أو جمعيات أهلية تتبنى ثقافة الحريات والحقوق، أو جماعات اثنية أو طائفية مذهبية تمتد في عمق ميراث الصراعات والماضي، أو قوى دينية لها رؤية خاصة للخلافة الإسلامية، فإن جميع هذه الأشكال للولاءات والانتماءات يمكن أن تصبح في لحظة ما مهددات للأمن القومي، بينما يجعل حسن إدارتها والتعامل معها عوامل إثراء وتنوع وطني لا غنى عنه. فضلا عن ذلك فإن قرارات الخدمة الوطنية والتجنيد في الخدمة العسكرية للشباب هي قرارات مهمة أيضا لتحقيق الانصهار القومي في الداخل، واستيعاب الشباب والمرأة، وهو ما ينتهي بشعوب دول المجلس بأن تصبح رقما مهما في معادلة الأمن القومي.
الثاني: تعزيز الأمن الوقائي الإقليمي:
لم يعد الأساس في نظريات الأمن انتظار مواجهة الأزمات بعد نشوبها، وإنما تعزيز قدرات التنبؤ بها، ودرء إمكانات وقوعها واستباقها، قبل أن تتشكل في الأفق، وهو ما لا يكون إلا من خلال بناء مراصد وطنية متخصصة وعميقة في رصد نذر الأزمات الإقليمية والداخلية، وذلك أقل كلفة من خيار مواجهة الأزمات بعد وقوعها. وصحيح أنه لا تزال فرص التنبؤ بالأزمات السياسية ضعيفة، في ظل محدودية القدرة على التنبؤ بالظاهرة الاجتماعية، لكن تبقى الأزمات السياسية والمهددات الأمنية أكثر قدرة على الإخضاع للدراسة العلمية من الكوارث الطبيعية، كالزلازل أو البراكين. فلكل عمل سياسي أو تحرك أو عصيان مدني أو عدوان عسكري نذره ومؤشراته القبلية، وتتكثف الخيوط التي تشير إلى قرب حدث ما، وتراها الأعين البحثية في حزم معلوماتية وأحداثية دون حاجة لعدسات مكبرة أو تلسكوبات.
صحيح أنه كان من الصعب التنبؤ بالغزو العراقي للكويت رغم توافر النذر والمخاطر، إلا أن ذلك كان في تسعينيات القرن الماضي، بينما أصبح الآن لدول الخليج خبرات هائلة في مواجهة الأزمات الإقليمية على مدى يقارب النصف قرن، وذلك يمكنها من استقراء نذر الخطر في الأفق البعيد، وتحليل الغيوم القريبة، بدءا من هجوم عنيف وشيك، إلى خلية تجسس تسعى لهز الاستقرار الداخلي، إلى احتمالات عدوان أو غزو. كل هذه التجارب مرت بها دول الخليج، وهي تعرف مؤشراتها، ويبقى الأهم هو بناء محطات للتحليل والرصد والمتابعة، وتحديد خيارات الفعل والحركة. وفي سياق ذلك تأتي أهمية الخطوات التي أقرتها دول المجلس في القمم الخليجية الأخيرة الخاصة بإنشاء مقر للشرطة الخليجية، وتفعيل القيادة العسكرية الموحدة، والاستفادة من العسكريين المتقاعدين من دول مجلس التعاون.
الثالث: "ناتو خليجي".. بروافع دفاعية متعددة:
يصعب على دول مجلس التعاون ترتيب أوضاعها الأمنية على نحو مستقل أو الحصول على نفس مستوى الضمانات الأمنية التي استقرت في ظل الشراكة الأمريكية، وسوف تمر دول المجلس بفترة انتقالية سيكون عليها فيها ترتيب شؤونها الدفاعية اعتمادا على ذاتها بالأساس، مع استمرار التعامل مع وضعية خفض الالتزام الأمني والدفاعي الأمريكي، وفي الوقت نفسه الانخراط في مسار طويل لبناء شراكات بديلة وتعويضية، تجعلها بعد سنوات عند مستوى الضمانة الأمنية التي كانت متوفرة في ظل المظلة الأمريكية.
وقاعدة الانطلاق الأساس هي أن تعزيز الدفاع المشترك بين دول مجلس التعاون، يظل هو الخيار الأساسي أمامها، مع ذلك فإن دول المجلس ينبغي عليها الاحتفاظ بالالتزامات الأمريكية إزائها حتى في حدها الأدنى، فلا يكون الخيار أمامها هو إما التزام استراتيجي أمريكي كامل، أو تحلل وفك ارتباط استراتيجي كامل، وإنما بين التزام في حده الأقصى والتزام الحد الأدنى، وبين التزام أخلاقي وسياسي لفظي وعدم التزام على الإطلاق. وعلى سبيل المثال فإن نمط العمل محل الاتفاق الذي جرى بين دول المجلس والولايات المتحدة في اليمن، على الرغم من ضعفه، إلا أنه وفر لدول المجلس غطاء قانونيا مهما مكنها من إمرار قرارات في مجلس الأمن الدولي لم تكن لتمر لولا الاتفاق المسبق مع الولايات المتحدة واستمرار التوافق الدفاعي في الحد الأدنى.
وخلال الفترة الانتقالية للأمن الخليجي، من المهم أن تتجه دول المجلس لتعزيز صيغة "ناتو مصغر" خفيف الحركة وذكي بالخليج، مستفيدة من أدوات واستراتيجيات الحروب الذكية، التي لم تعد تعتمد بالأساس على الآلة العسكرية الضخمة، وإنما على القدرات العسكرية الذكية والفاعلة، مع تعزيز قدرات هذا "الناتو الخليجي" بروافع إسناد ودعامات متعددة ومختلفة بحسب كل قضية من ائتلافات الراغبين، وتبقى الدعامة الأمنية الدفاعية الأمريكية قابلة للفعل في حالة الأخطار الكبرى التي حافظت الولايات المتحدة على التزاماتها إزائها تجاه دول الخليج في تعهداتها الجديدة، بينما يمكن لصيغ الشراكات الأمنية والدفاعية أن تعزز دعامة أمنية خليجية مع الصين والهند في مجال تأمين ممرات الطاقة من النفط والغاز، وممرات التجارة من صادرات وتصدير بين دول الخليج وآسيا. وأيضا يمكن تعزيز دعامة أمنية عربية فيما يتعلق بخطر الهلال الشيعي واحتمالات تطور المحور الإيراني عربيا، مع قدرات التحرك في الساحة العربية من خلال مشروع القوة العربية المشتركة، ومع روسيا فيما يتعلق بالجهاديين وقوى الإرهاب.
وعلى مستوى الحلف العسكري الإسلامي، تعزيز فرق العمليات الخاصة الإسلامية في قواعد عسكرية تستضيفها دول المجلس، مع إمكان التفكير في مشروعات للتصنيع العسكري الإسلامي، عبر قوات حفظ السلام الإسلامية، وقوات مواجهة الإرهاب الإسلامية، وهي أفكار قد تجدد ماضي وشباب حركة عدم الانحياز في الواقع الدولي، عبر بناء كتلة إسلامية بين الكتل الدولية، وربما كان أحد أهم عوامل التأييد للمبادرة السعودية بهذا الشأن هو عامل التوقيت، فلم تكن هذه المبادرة لتحظى بما حظيت به من ترحيب، لو كانت قد طرحت في عقود سابقة، أما الآن فإن العالم مهيأ لاستقبال كتلة دفاعية إسلامية لن يجري التشكيك في نواياها، لأنها ستتجه بالأساس إلى ضبط المسارات والظواهر السلبية والإرهابية التي خرجت من عباءة العالم الإسلامي.
خلاصة:
بذلك تتمكن دول المجلس من مواجهة التهديدات غير المتوازية والحروب اللامتماثلة لجماعات الإرهاب والعنف، التي هي أخطر ما يهدد دول المجلس في العصر الجديد. وإذا تمكنت دول المجلس من ذلك، فإنها تكون قد وضعت اللبنات الأساسية التي تفوق أي دعم يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة أو حلف الناتو إزاء أي خطر إقليمي من إيران.
والمؤكد أنه، لفترة مقبلة، لن تستطيع دول مجلس التعاون التخلي تماما عن الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة، وعلى الجانب الآخر، لم تتأكد رغبة الولايات المتحدة في تخليها تماما عن علاقاتها بدول الخليج، ولكن على الأقل لا زال التزامها قائما، ولو على المستوى اللفظي، وخلال فترة قد تصل إلى عقد أو عقدين، ستكون دول الخليج في مرحلة انتقالية، فلا زالت شراكاتها الأمنية الجديدة مع فرنسا والصين وروسيا وغيرها محل اختبار وتجربة، ولازالت سياسة الولايات المتحدة بالتوجه شرقا وتخفيف التزاماتها إزاء الخليج في محل التجربة، وقد تثبت التجربة فشلها، وقد لا تستطيع الولايات المتحدة في النهاية التخلي عن مناطق نفوذها التقليدية، كما قد تعيد أزمات كبرى دولية عن هذا المسار، فتعيد اكتشاف حاجتها الماسة إلى الخليج.