شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا الاتحادية تطوراً ملحوظاً خلال الاشهر الاخيرة ومن بين أبرز مؤشرات هذا التطور وحسب التسلسل الزمني الاتصال الهاتفي في شهر مايو الماضي بين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي ناقشا خلاله العلاقات الثنائية والاوضاع في المنطقة ووجه الرئيس الروسي لخادم الحرمين الشريفين دعوة لزيارة روسيا. وخلال الشهر ذاته استقبلت الرياض المبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرقالأوسط والبلدان الأفريقية نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوفالذي التقى خادم الحرمين الشريفين. ولعل الحدث الأبرز زيارة الامير محمد بن سلمان ولي ولي العهد وزير الدفاع لروسيا في شهر يونيو ولقائه الرئيس الروسي والتوقيع خلال الزيارة على عدد من اتفاقيات التعاون في مجالات مختلفة من أبرزها الطاقة النووية والتعاون العسكري، كما حمل الأمير دعوة من خادم الحرمين الشريفين للرئيس بوتين لزيارة المملكة. وتبع تلك الزيارة لقاءات لوزير الخارجية السعودي مع وزير الخارجية الروسي في الدوحة وموسكو وتركز النقاش خلالها على الصراع في سوريا ومناقشةأفكار قدمتها موسكو للتمهيد لحل ينهي معاناة الشعب السوري.
لقد جاءت هذه التحركاتلتؤكد تجاوز العلاقات حالة الفتور التي مرت بها نتيجة تباين المواقف تجاه الصراع في سوريا ولتثبت أن الرياض وموسكو يدركان أهمية المحافظة على العلاقات بينهما خدمة للمصالح الوطنية للدولتين ولدعم أمن واستقرار المنطقة بشكل عام. ولاشك أن هذه النقلة الراهنة التي تمر بها العلاقات تستفيد من رصيد كبير يمتد لما يقرب التسعين عام يمكن توظيفه لبناء شراكة تتجاوز مستوى العلاقات التقليدية بين دولتين تمتلكانمن المقومات السياسية والاقتصادية ما يبرر الارتقاء بالعلاقات إلى مستويات متقدمة.
هذا التطلع بالانطلاق بالعلاقاتإلى مستوى الشراكة ليس أمراً جديداً بل ظهر قبل أكثر من عقد وتحديداً خلال زيارة الملك عبد الله رحمه الله لروسيا في سبتمبر 2003م، وكان حينئذ ولياً للعهد وشهدت تلك الزيارة توقيع اتفاقيات كان مأمولاً أن تؤسس لأرضية صلبة للعلاقات وحظيت باهتمام اقليمي ودولي كبير. وقدتأكد هذا التطلع مرة أخرى خلال زيارة الرئيس الروسي للرياض في فبراير 2007م.
المراوحة في المربع الاول
في هذه الورقة لا نتحدث عن تفاصيل تاريخ العلاقة والمراحل التي مرت بها منذ تأسيسها في 1926م، فهي معروفة ولا حاجة لعرضها هنا بل سنركز على تقييم العلاقة الراهنة والبحث في أسباب عدم وصولها الى مستوى الشراكة التي تتطلع لها قيادة البلدين والنظر في كيفية بناء شراكة مستدامة قادرة على تجاوز أي تباين أو حتى خلاف في الموقف من قضايا إقليمية والتي قد تطرأ مستقبلاً بالنظر إلى واقع وتاريخ المنطقة المأزوم.
فرغم التأكيدات المتكررة للارتقاء بالعلاقة، فإن واقعها اليوم يظهر أنها لا تزال في المربع الاول من الناحيتين السياسية والاقتصادية، بل إنها دخلت حالة فتور بعد الربيع العربي نتيجة اختلاف المواقف تجاه الصراع في سوريا من حيث أسبابه وسبل حله وتطور هذا التباين الى حد تبادل الاتهامات بإعاقة التوصل إلى حل ما يعني أن أزمة إقليمية قادرة على إعاقة مشروع الارتقاء بالعلاقة بين الرياض وموسكو رغم القناعة بها ووجود ما يبررها من المقومات. ونجد أن في العلاقات الاقتصادية التي لا تزال لم تتجاوز تبادل تجاري محدود قياساً بإمكانات الدولتين مؤشر على البطء في تطور العلاقات( الاستثمارات المشتركة لا تكاد تذكر). فرغم تصاعد حجم التبادل منذ زيارة الملك عبدالله في 2003م، حسب ما يظهر في الجدول أدناه نجد أنه يبقى دون امكانات الدولتين ولذلك أسباب وعوائق عديدة.
التبادل التجاري بين المملكة وروسيا 2002-2014
مليون دولار امريكي
السنة |
التبادل التجاري |
2002 |
144 |
2003 |
237 |
2004 |
264 |
2005 |
412 |
2006 |
713 |
2007 |
919 |
2008 |
1088 |
2009 |
719 |
2010 |
921 |
2011 |
1262 |
2012 |
1512 |
2013 |
1730 |
2014 |
1941 |
*( 98% من التجارة صادرات روسية :نحاس وشعير.....و2% فقط صادرات سعودية: بولي اثلين)
المصدر: مصلحة الاحصاءات العامة ومحلس الغرف السعودية
الصراع في سوريا وانتكاسة العلاقة
يعد الخلاف حول أسباب الصراع في سوريا وسبل حله العامل الرئيس في تعثر تطوير العلاقات على المستوى السياسي،وقد تجاوز تأثيره السلبي الأثر الذيخلفته حرب الشيشان في منتصف التسعينيات على تطوير العلاقات بعد سنوات قليلة من استئنافها.وفي بداية الثورة السورية لم يكن متوقعاًأن تجد المملكة وروسيا موقفيهما على طرفي نقيض بالنظر الى الرؤية الاستراتيجية المشتركة التي وجهت سياساتهم في المنطقة بشكل عام. فالرياض تتفق مع موسكو حول أولوية الأمن والاستقرار وضرورة بذل أقصى جهد للمحافظة عليهما. ويظهر من كافة تصريحات المسؤولين في البلدين حرص شديد على استعادة الاستقرار في سوريا بعد تحول ثورة شعبه السلمية الى صراع شامل يهدد أمن المنطقة، إلا أن هذا الاتفاق على الغايةفي الاستقرارلم يثمر عن اتفاق مماثل على أسباب الصراع وكيفية معالجته. ففي حين ترى الرياض أن سياسات النظام السوري وممارساته القمعية تجاه الثورة السلمية لشعبه وتماديه في توظيف القوة السافرة تجاه المدنيين كانت السبب في الانتقال من حالة الاحتجاج السلمي الى المواجهة المسلحة التي اجتذبت المتعاطفين والمناصرين من كافة ارجاء العالم، نجد أن روسيا تخلي النظام السوري من مسؤولية تفجر الصراع الدموي وتلقي باللائمة على التنظيمات "الجهادية" المتطرفة وداعميها في الخليج.
العلاقات السعودية ـ الروسية لا تزال في المربع الاول سياسيا واقتصاديا بل دخلت حالة فتور بعد الربيع العربي واختلاف المواقف تجاه الصراع في سوريا
دوافع روسيا لدعم النظام السوري: توظيف الصراع لتأكيد دورها دولياً كشريك أساسي في معالجة قضايا الامن والسلم الدوليين بعد سنوات من تجاهلها
الاختلاف بين المملكة وروسيا تجاه الصراع في سوريا يصعب الوصول إلى مواقف توفيقية والمصلحة تقتضي ضبط هذا الخلاف من أجل المصالح المشتركة
يعترض تطور العلاقات السعودية ـ الروسية صوراً ذهنية قديمة لدى النخب وفجوة بيروقراطية وعدم واقعية نظرة موسكو لواقع العلاقة بين الرياض وواشنطن
ضرورة إدراك المشتركات الاستراتيجية بين الدولتين للتأسيس لشراكة نوعية تتعلق باستقرار المنطقة والمحافظة على الشرعية الدولية أو استقرار أسواق الطاقة
والمتابع للموقف الروسي منذ الأسابيع الاولى للربيع العربي بشكل عام يلحظ هاجساً وقلقاً مستمراً من هذه التحولات السياسة واعتقاد راسخ بأن الحركات المتطرفة هي الرابح الأكبر من الربيع العربي. وجاءت الثورة السورية وتطوراتها اللاحقة لتؤكد لموسكو مخاوفها التي لا تقتصر على تمدد التطرف والارهاب في المنطقة بلتجاوزها ليصل حدودها الجنوبية ويعيد إحياء الصراع في الشيشان الذي كلفها أكثر من عقد لإنهائه.
الاختلاف بين المملكة وروسيا على تقدير أسباب الصراعفي سوريا والذي بدوره أعاق اتفاقهما على سبل الحل يكشف أيضاً عن دوافع أخرى لمواقف الدولتين من الصراع. فالمملكة وإضافة الى منطلقات التضامن العربي والاسلامي وكذلك الانساني بالتعاطف مع الشعب السوري الاعزل في مواجهةالقمع اللامحدود، تتحرك نحو الصراع من منطلق استراتيجي يتعلق بصراعها التقليدي مع إيران حيث ترى في الثورة السورية فرصة لإضعاف النظام السوري أو حتى اسقاطه لحرمان طهران من أبرز ركائز نفوذها في المنطقة. وقد يظهر هنا شيئاً من التناقض بين دوافع الموقف السعودي وتحديداً الرغبة في استعادة الاستقرار في سوريا والذي يستوجب المسارعة الى إنهاء الصراع من جهة، وبين إضعاف النظام السوري ومن ثم النفوذ الايراني الأمر الذي يتطلب إطالة أمد الصراع بهدف استنزاف دمشق وطهران.
في المقابل نجد أن لروسيا دوافع أخرى تفسر موقفها المتصلب ودعهما المستمر للنظام السوري وتتمثل في توظيف الصراع لتأكيد دورها في إدارة الشأن الدولي والاعتراف بها شريكاًأساسياً في معالجة قضايا الامن والسلم الدوليين بعد سنوات من تجاهلها بسبب ضعفها وانشغالها الداخلي.كما أن الموقف الروسي يعبر عن استياء موسكو من تجربة التدخل الدولي في ليبيا من خلال توظيف قرارات دولية لتحقيق مصالح ذاتية-كما يرى الروس-وعدم رغبتهم في تكرار ذلك السيناريو في سوريا، الأمر الذي يفسر اعتراضها على صدور قرارات من مجلس الأمن تمنح تفويضاً لاستخدام القوة.
ما تقدم يظهر أن هناك قدراً كبيراً من الاختلاف بين المملكة وروسيا حول الصراع في سوريا وتمسك الطرفين بمواقفهما المبدئية بدرجة يصعب الوصول معها الى مواقف توفيقية؛ ويتبين هذا من تحركات روسيا الأخيرة حيث تدخلت عسكرياً بشكل مباشراًوملفت. ولذلك وفي ظل هذا التباين الشديد في الموقفين نرى أن المصلحة تقتضي أن تعمل الرياض وموسكو على ضبط هذا الخلاف والحيلولة دون أن يترك آثار سلبية على العلاقات الثنائية التي بدأت تستعيد عافيتها والاقتناع بأنالمملكة وروسيا يشتركان في الكثير من المصالح والقضايا التي تتطلب تنسيقاً وتحركاً مشتركاً وهو ما يستوجب النظر للعلاقات من زاوية أشمل وأبعد من الصراع الراهن في سوريا.
مشتركات استراتيجية
قبل تشخيص الأسباب التي تعيق الانتقال بالعلاقة الى مستويات متقدمة، علينا أولاًأن نحدد المشتركات التي "تبرر" افتراضنا امكانية تأسيس شراكة استراتيجية بين المملكة وروسيا. فبالإضافة الى مكانة الدولتين وقدراتهما التي تجعلهما بحاجة لبعضهما البعض، فهما يشتركان في رؤى استراتيجية مهمة سواء لمصالحهم الثنائية أو للمنطقة والعالملا يتناسب معها بقاء العلاقة على المستوى العادي. وتتلخص هذه الرؤي الاستراتيجية المشتركة فيما يلي:
(1) رؤية استراتيجية تجاه الوضع الجيوسياسي في المنطقة.
(2) رؤية استراتيجية تجاه نظام دولي متعدد واحترام الشرعية الدولية والخصوصيات الثقافية للدول.
(3) رؤية استراتيجية تجاه استقرار أسواق الطاقة إنتاجاً وأسعاراً.
فبالنسبة للوضع الجيوسياسي للمنطقة تؤكد الرياض وموسكو دائماً أولية الاستقرار والمحافظة على الأمن على أي هدف آخر وهو ما يفسر حرصهما على المبادرة إلى احتواء الأزمات والحيلولة دون تطورها إلى صراعات تهدد دوله، حيث أن موقع المنطقة وتعقيدات العلاقة بين دولها تجعل أي صراع إقليمي قابل للتوسع وحتى إمكانية توتير العلاقات بين القوى الرئيسة في النظام الدولي. وإذا كانت المملكة والتي تقع في قلب المنطقة تتأثر بشكل مباشر بأحداثها، فإن روسيا ورغم وجود ما يمكن وصفه بمنطقة عازلة تتمثل في وسط آسيا والقوقاز،تعبر دائماً عن قلقها من أن عدم الاستقرار في الشرق الاوسط يشكل تهديداً لأمنها القومي. وتحرص الدولتان على استقرار المنطقة انطلاقاً من مصالحهم الذاتية؛بسبب تأثر أمنهما الوطني بشكل يكاد يكون مباشراً بأحداث المنطقة وتمثل التنظيمات الإرهابية خطراً مشتركاً سواء من خلال التهديد المباشر لمصالحها أو سعي هذه التنظيمات لتجنيد الأتباع من مواطني الدولتين ما يعزز التطرف داخلهما ويهدد أمنهما واستقرارهما الداخلي. وتشير احصاءات إلى ارتفاع عدد المنظمين لتنظيم داعش من رعايا الدولتين. (قدر تقرير أصدرهالمركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي ICSRمشاركة 2500 سعودي وبين 800-1500 روسي في الصراع في سوريا).
وتعبر التصريحات المتكررة من المسئولين في الدولتين تجاه قضايا المنطقة خاصة الصراع في سوريا والعراق عن هذا القلق الدائم على حالة الأمن والاستقرار الإقليمي، ورغم ذلك نجد أن هذه الرؤية المشتركة في تقييم المخاطر والمهددات لم تنتهي الى موقف مشترك حول جذور وأسباب هذه التهديدات خاصة في سوريا وهو ما انعكس على تباين الموقف من المنهج الأنسب للحل.
أما فيما يتعلق بالنظام الدوليفنجد أن المملكة تشارك موسكو قلقها من النزعة الاحادية في إدارة العلاقات الدولية ودعوتها الانتقال لنظام متعدد يترجم الواقع الراهن لتوزيع القوة. هذا الموقفوإن كان أكثر وضوحاً بالنسبة لروسيا بسبب مكانتها كقوة كبرى في النظام الدولي فهي ترى أن لها حق مشروع في إدارة شؤونه بالشراكة مع بقية الدول الكبرى، إلا أن المملكة تعبر باستمرار عن موقف مماثل يؤكد ضرورة احترام مبادئ الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي ومقتضيات العدالة الدولية، بعيداً عن ازدواجية المعايير وانتقائية تطبيق القرارات والدعوة لإصلاح المؤسسات الدولية لتعكس التوزيع الراهن للقوة. كما تؤكد الدولتان على احترام التنوع الحضاري وترفضان فرض القيم الغربية على الشعوب تحت شعار حقوق الإنسان.
أما الرؤية الاستراتيجية المشتركة تجاه أسواق الطاقةفهي نتيجة طبيعية أولاً للدور القيادي للدولتين في أسواق الطاقة وثانياً لاعتمادهما-وإن بنسب متفاوتة -على مبيعات الطاقة كمصدر أساسي للدخل. ففي حين تشكل مبيعات النفط ما يقارب 90% من موارد المملكة المالية، فإن 50% من ميزانية الاتحاد الروسي تستوفى من مبيعات النفط والغاز التي تشكل تقريباً68% من إجمالي الصادرات الروسية.
هذه الأرقام القياسية تظهر اعتماد اقتصاد الدولتين على صادرات الطاقة التي تعتمد بدورها على الأوضاع الاقتصادية للمستهلكين ومستويات نمو الاقتصاد العالمي ما يجعلها عرضة دائمة لعدم الاستقرار. ولذلك أصبح استقرار اسواق النفطوتجنيبها التقلبات هدفاً ثابتاً في استراتيجيات الطاقة للدولتين، مع ضمان ألا يكون ذلك على حساب المصالح الوطنية. هذه الحقيقة تستوجب اشتراك المملكة وروسيا في رؤية استراتيجية نحو أسواق الطاقة؛ خاصة في الوقت الراهن حيث تزداد المنافسة التي تكاد تهدد مواقعها القيادية.
معوقات إدارية وذهنية
إذا كانت الرياض وموسكو تشتركان في هذه الرؤى الاستراتيجية المهمة يصبح السؤال إذاً مشروعاً عن أسباب عدم تطور العلاقات إلى مستويات تترجمها وتحول دون تعرضها لتوتراتتعيدها إلى مربعها الأول. هذه الأسباب تتمثل في عوائق تقف حائلاً أمام ترجمة الرؤية إلى موقف مشترك وتؤسس لعلاقة صلبة وتنقسم الى عائق بيروقراطي وآخر ذهني على النحو التالي:
(1) أن القناعة التي تحملها القيادة السياسية بضرورة ترقية العلاقات إلى مستويات أعلى لا تنتقل إلى الأجهزة الحكومية المعنية بتنفيذ برامج ومشاريع تترجم هذه القناعة إلى واقع ملموس، إضافة إلى بطء الاستجابة لهذه الإرادة العليا، ولعل السبب في هذا يعود إلى وجود فجوة في النظام البيروقراطي في حكومتي البلدين بين نشاط السياسة الخارجية ومبادراتها وبين الأجهزة التنفيذية الداخلية. وهذا يعني أن العلاقة ومهما شهدت من تطور على مستوى التطلع والالتزام السياسي تبقى دون أرضية صلبة تستند إليها.
(2) وجود انطباعات ذهنية سلبية تحملها بعض النخب في الدولتين تجاه كل دولة تسهم في إعاقة التقدم المأمول. فالنخب السياسة والثقافية الروسيةتحمل انطباعات عن المملكة تشكلت تاريخياً ويبدو أنها لا تزال توجه إدراكهم للعلاقة معها. وتتمثل هذه الانطباعات في:
(أ) أن السياسة الخارجية السعودية تحددها بشكل رئيس العلاقة الوثيقة بين المملكة والولايات المتحدة لذلك كثيراً ما تأتي المواقف السعودية متسقة مع المواقف الأمريكية ما يعني أن المملكة والولايات المتحدة تشتركان في أجندة إقليمية ودولية واحدة. هذا الانطباع تشكل أثناء الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين ووقوف المملكة إثناءهاضد الاتحاد السوفيتي ومشاركتها الفاعلة مع الولايات المتحدة في التصدي لغزو افغانستان. ولذلك تميل النخب الروسية إلى تفسير أي تحرك أو سياسة سعودية في إطار علاقة الرياض الاستراتيجية بواشنطن، وهنا يبرز على سبيل المثال تمسك المملكة بمستويات إنتاج مرتفعة رغم الانخفاض الكبير في أسعار النفط. فبسبب هذه الصورة الذهنيةلم تفلح محاولات تغيير القناعة الروسية بأن السياسة النفطية السعودية الراهنة هي نتيجة تنسيق سعودي ـ أمريكيلمعاقبة روسيا على موقفيها في سوريا واوكرانيا.فرغم أن المملكة أكدت أن سبب انخفاض أسعار النفط هو وفرة الانتاج خاصة من خارج أوبك وأنها تتضرر كغيرها من التراجع الحاد في الأسعار تبقى نظرة الشك للموقف السعودي. لاشك أن المملكة ترتبط مع الولايات المتحدة بعلاقات تاريخية استراتيجية وصلت في بعض المراحل إلى مستوى التحالف، إلا أن هذا لا يعني تمثال وتطابق في السياسة الخارجية ولعل في الخلاف التاريخي حول القضية الفلسطينية وما ظهر من تبيان في المواقف من أحداث الربيع العربي دليل على أن العلاقة الاستراتيجية لا تعني الارتهان كم يحاول البعض الترويج له. وهذا يعني دراسة وتقييم أي سياسة أو موقف سعودي بشكل مستقل عن هذه العلاقة وتقدير الإدراك السعودي للمهددات والفرص.
(ب) اتهام المملكة بتصدير الوهابية ودعم التطرف وتشكلت هذه الصورة الذهنية أثناء حرب الشيشان في منتصف التسعينيات ومشاركة "جهاديين" من المملكة وغيرها من البلدان الاسلامية في تلك الحرب وانتشار المطبوعات والخطب المؤيدة للشيشان. ورغم أن المملكة تعد من ضحايا الارهاب وتتعرض لهجمات إرهابية وتشارك المجتمع الدولي في محاربته وتجفيف منابعه، إلا أن الصورة الذهنية لا تزال حاضرة وتظهر من حين لآخر في تعليقات روسية على أحداث الصراع في سوريا.
في المقابل فإن النخب السعودية لديها نصيبها من الانطباعات غير الايجابية عن روسيا التي قد يكون لها تأثيرها على الرغبة في ترجمة التطلعات إلى واقع. ففي المملكة وإن كنا تجاوزنا تلك الصورة الايدلوجية التي تشكلت أثناء الحرب البادرة، إلا أن هناك شيء من التحفظ حول موثوقية التعامل مع روسيا ومدى وضوح توجهاتها والتزامها بما تعلنه من مواقف. هذه الصورة السلبية يعززها ثنائية الرؤية الاستراتيجية الصلبة والبراجماتية الانتهازية التي تتأرجح بينها السياسة الخارجية الروسية.ولعل هذا عائد إلى تأثير النخب الاقتصادية والعسكرية على صناعة السياسة الخارجية حيث تنظر اليها أداة لتحقيق مكاسب مادية من خلال زيادة نصيب روسيا من أسواق الطاقة والاسلحة.
إن استمرار هذه الانطباعات عند النخب في الدولتين بلا شك لا يخدم تعزيز العلاقات والارتقاء بها الى مستويات متقدمة، إلا أن المطمئن أنها تبقى انطباعات يسهل معالجتها من خلال تعميق الحوارات واستمرارها لإزالة أي صور مغلوطة وذلك من خلال لقاءات متواصلة ومتعددة المستويات وهذه الورشة تصب في هذا الاتجاه.
توصيات للمستقبل:
- على المسؤولين في المملكة وروسيا الاتحاديةإدراك المشتركات الاستراتيجية التي تؤسس لشراكة استراتيجية أو علاقة نوعية سواء كانت متعلقة بالاستقرار في المنطقة أو المحافظة على الشرعية الدولية أو استقرار اسواق الطاقة.
- إن هذه المشتركات كافية لأخذ العلاقات إلى مستوى أعلى حتى في حال تعذر بناء علاقة اقتصادية وتوقيع صفقات تحقق مصالح مادية قد يكون وجودها ضرورة لترسيخ العلاقة، لكن عدم تحققها لأي أسباب كانت لا يعني بقاء العلاقة دون المستوى المأمول.
- أن نؤمن بقيمة العلاقات في ذاتها دون ربطها بحالة علاقات كل جانب بشركائه الاستراتيجيين (الولايات المتحدة بالنسبة للمملكة إيران بالنسبة لروسيا).
- أن العلاقات اليوم تشهد نقلة لابد من استثمارها لاستئناف مشروع الشراكة وعدم السماح لأي تباين في الرأي لإعاقة هذا المشروع.
- ضرورة حماية وتحصين العلاقات من تأثير الأزمات الاقليمية المتكررة.