مما لا شك فيه أن الاتفاقية الدولية العامة للتعرفات والتجارة (جات GATT) تعد إيذاناً ببداية عصر جديد للتجارة الدولية، لأنها في الواقع العملي والتطبيقي تعد اتفاقاً تجارياً دولياً لتقرير حقوق والتزامات متبادلة بين الأطراف المتعاقدة في مجال العلاقات التجارية الدولية متعددة الأطراف، ويتضح ذلك من مصطلحها الذي يشير من الناحية اللفظية إلى الأحرف الأولى لكلمات (General agreement on tariffs and trade)، وبذلك تكون الاتفاقية من المنظور الاقتصادي أداة لتبادل المزايا التفضيلية بين الدول الأعضاء الناتجة عن تحرير التجارة بينها من القيود الجمركية، وبالتالي فتح أسواق الدول الأعضاء في منظمة التجارة الدولية على مصراعيها أمام التدفقات السلعية عن طريق تخفيض الرسوم الجمركية على الواردات، وإلغاء نظام الحصص الذي تطبقه بعض الدول، وعدم فرض أي قيود على صادرات الدول الأطراف في الاتفاقية.
ويمكن القول ترتيباً على هذا: إن منظمة الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة أو (الجات) قد وضعت إطاراً أو هيكلاً لتجارة دولية أكثر تحرراً من القيود والحواجز، بينما ستقوم منظمة التجارة الدولية التي انبثقت عنها بالإشراف على تحقيق ذلك في الواقع العملي مع فرق واحد هو أن لهذه الأخيرة سلطات أكثر من المنظمة الأم، وفي الوقت الذي عملت فيه المنظمة على إقناع الدول الغنية بإسقاط حواجز الحماية الجمركية، كانت تعمل أيضاً على توفير الأسباب التيتيسر لدول العالم الثالث دخول الأسواق التجارية الرئيسة في العالم.
وتملك منظمة التجارة الدولية (التي يبلغ عدد أعضائها حالياً 142 عضواً)، سلطات أقوى في إجراء تحقيقات أكثر من منظمة الجات، إذ يمكنها مقاضاة الدول التي ترتكب مخالفات فيما يتصل بموضوع التجارة الدولية في محاكم دولية، رغم أن الفرصة لم تسنح بعد للمنظمة لممارسة هذه السلطات والقدرات ووضعها على محك الاختبار، وقد تمت حتى الآن تسوية الخلافات المطروحة عن طريق المفاوضات بنجاح، وتلك غاية المنى التي كانت تراود من خططوالإنشاء منظمة الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة منذ تأسيسها عام 1947.
ومنظمة التجارة العالمية وريثة خمسين عاماً تقريباً من الجهد الدولي الذي انطلق مع إقرار وسريان الجات، وهو جهد استهدف في الأساس تحرير التجارة من القيود الجمركية والسعي لتخفيض التعرفة وفتح الأسواق الدولية أمام تدفق السلع والخدمات، ورغم أن شعار تنظيم التجارة الدولية وكذلك أهداف المنظمة تركزت حول أحداث التنمية الاقتصادية في العالم وبشكل خاص الدول النامية والفقيرة، إلا أن الواقع العملي أكد أن المنظمة أداة أخرى من أدوات سيطرة الأقوياء، وتعد المحور الثالث إلى جانب صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي؛ لإكمال عقد السيطرة الاقتصادية على مقدرات الدول النامية والتحكم بالاقتصاد العالمي ومصادر الثروة، وربما يكون هذا أكثر موضوعات الساعة خلافاً بين الكثيرين، فبقدر وجود المتحمسين لسياسات تحرير التجارة والخدمات نجد المعارضين لذلك، وتحديداً المعارضين لإنفاذ هذا التحرير، الذي قد يقرونه ويقتنعون بصحته لكنهم يعارضون وسائل إنفاذه عبر الآليات والطرق والوسائل المتبعة من قبل منظمة التجارة العالمية، التي يعتبرونها أداة أمريكية أخرى لتعزيز القوى الاستعمارية وتحقيق السيطرة وتكريس فقر الجنوب مقابل تميز ونماء وتطور وزيادة ثروة دول الشمال الغنية.
وبين هذين الاتجاهين ثمة اتجاه ثالث يرى أن المشاركة في النظام التجاري الدولي تحت راية وقيادة منظمة التجارة العالمية أمر لا مناص منه للدول النامية, لكن هذا لا يمنع الانتباه للمخاطر والعمل الجماعي مع الدول النامية لتحقيق مكتسبات من هذه المشاركة لا يمكن تحقيقها خارج هذا النطاق، ونحن بدورنا وإن كنا نرغب في أن تتحقق أماني الفريق الثالث لكننا لا نجد في سياسات الدول النامية ومن بينها الدول العربية ما يبشر بالكثير في هذا المضمار، فتكريس التبعية لأمريكا تحديداً وعدم الاستفادة من تناقضاتها مع الاتحاد الأوروبي ومع القوى الاقتصادية الآسيوية، يؤكد أن المشاركة المفروضة لن تحقق الرفاهية المرجوة بل على العكس تزداد يوماً بعد يوم التزامات الدول النامية وتضعف فرص تحقيق الرفاهية، وهو ما دفع الكثيرين إلى الانتقاد الحاد والعلني للوضع القائم خلال اجتماعي منظمة التجارة العالمية في سياتل والبحرين، وكان جوهر الانتقاد أن الدول النامية ومنذ عام 1995 نفذت ولا تزال تنفذ الالتزامات تحت أمل حصولها على حقوق ومكتسبات وتحت أمل أن تنفذ الدول المتقدمة التزاماتها في حقل المساعدات الاقتصادية والفنية، لكن النتيجة مزيد من الالتزامات على الدول النامية، وتكريس للتهرب من الالتزامات من قبل الدول المهيمنة على مقدرات المنظمة.
وسينعكس أثر ذلك بصفة خاصة على الدول النامية غير المؤهلة للمنافسة التجارية، وذلك لأن الدول النامية ليست على مستوى واحد من البنية الاقتصادية ولا الموارد ولا الدخول فهي دول غير متجانسة، وعلى هذا فإن تأثير اتفاقية الجات على الدول النامية سوف يختلف من دولة إلى أخرى، ففي حين أن الدول النامية الأعلى نمواً مثل الصين وماليزيا والمكسيك ستكون هي بلا شك المستفيد الأول من زيادة الدخل العالمي الذي سيترتب على تطبيق هذه الاتفاقية، فإن الدول العربية بصفة خاصة سوف تتعرض لهزات اقتصادية شديدة وذلك لكونها في موقف تنافس ضعيف في مجال التجارة الخارجية مما يؤثر على اقتصادياتها، كما أنها ستواجه صعوبة شديدة في منافسة المنتجات المستوردة لأنها أقل سعراً وأفضل جودة، الأمر الذي سينعكس على الصناعات الوطنية وبالتالي زيادة معدلات البطالة.
فمن المؤكد أنه سيكون لاتفاقية الجات آثار إيجابية على الدول النامية، وذلك لأنها سوف تزيد من إمكانات النمو الاقتصادي في بعض البلدان خاصة تلك التي تنتهج سياسات اقتصادية تجارية انفتاحية، كما ستساعدها على زيادة كفاءة استخدام مواردها المحلية الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة حجم إنتاجها وتحويل التكنولوجيا المصاحبة للانفتاح الاقتصادي والتعاون العالمي المتزايد إلى وسيلة من وسائل زيادة هذا الإنتاج وتحقيق نمو كبير، كما أن اتفاقية الجات سوف تعود على الدول النامية بفائدة غير مباشرة من تحرير التجارة العالمية، ذلك أنها سوف تزيد من درجة المنافسة الدولية، وبالتالي سوف تعمل تلك الدول على تحسين مستوى إنتاجها واستغلال مواردها المتاحة لديها أفضل استغلال ممكن، وسينعكس أثر كل ذلك على رفع الكفاءة الإنتاجية لديها، الأمر الذي سيكون له نتائجه الإيجابية على الناتج القومي الإجمالي، ومن ثم على مستوى معيشة الأفراد.
وقد حاولت دول مجلس التعاون الخليجي اللحاق بركب الجات، فحصلت كل من الإمارات والبحرين وقطر والكويت على عضوية الجات ومنظمة التجارة الدولية، في حين أن السعودية تحظى بوضع عضو مراقب، أما عمان فلا تزال تدرس الموقف من الاتفاقية، بعدما كانت كل هذه الدول بعيدة عنها باستثناء الكويت التي كانت طرفاً متعاقداً في اتفاقية جات 1947منذ عام 1963، وهذا الإقبال من دول مجلس التعاون الخليجي على الانضمام للجات يدل على أن هذه الدول بدأت تدرك مدى أهميتها، وتتبين المزايا التي ستعود عليها من الانضمام للجات، فمن المؤكد أن هذه الدول قد أدركت الفائدة الجمة التي ستعود على الصناعات الخليجية من التخفيضات التي تنتجها الاتفاقية، خاصة أن بعض الصناعات الخليجية متطورة، ولها ميزة نسبية كصناعة البتروكيماويات التي زادت صادرات مجلس التعاون لدول الخليج العربي منها من 863 مليون دولار عام 1983 إلى ثلاثة مليارات دولار عام 1991، ومع تطبيق التخفيضات الجمركية في الدول المستوردة فمن المتوقع أن يزيد الطلب عليها، وبالتالي يزيد الإنتاج وتزيد الصادرات ، كما أن زيادة النمو في الدول الصناعية سيترتب عليه زيادة الطلب على النفط، كما أن الدخول في الجات سوف يرفع من مستوى جودة الإنتاج في كافة القطاعات الخليجية نتيجة زيادة حدة المنافسة.
غير أن انضمام دول مجلس التعاون الخليجي إلى الجات له آثار سلبية تتلخص في أن إلغاء الدعم على المنتجات الزراعية والصناعية في دول المنشأ سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعارها عند استيرادها في دول الخليج، كما أن رفع الدعم عن القطاعات الزراعية في تلك الدول سيؤدي إلى توقف زراعة بعض المحاصيل مما يحتم استيرادها، غير أننا يمكننا أن نقول إنه مهما كان حجم السلبيات التي ستعود على دول مجلس التعاون الخليجي، فإنها أقل بكثير من الإيجابيات التي سوف تجنيها، خاصة مع إنشاء بعض الصناعات العملاقة في بعض دول المجلس كمنطقة الجبيل الصناعية بالمملكة العربية السعودية، وتضم دولة الإمارات العربية المتحدة عدداً لا بأس به من المناطق الصناعية، كما أن دول الخليج سوف تستفيد من نظام الاستثناءات الواردة في النظم المعممة للمزايا فيمكنها من خلالها الحصول على أكبر فائدة دون أن تقابلها أية التزامات إضافية، وبالتالي فإننا نرى أن اتفاقية الجات في صالح دول مجلس التعاون الخليجي لأنها في كثير من الأحوال ستكون متطابقة مع السياسات الاقتصادية لهذه الدول التي تنتهج اقتصاد السوق بعكس كثير من الدول العربية.
ولمواجهة الآثار السلبية للجات على دول مجلس التعاون الخليجي فإن ذلك ممكن عن طريق تقوية العلاقات الاقتصادية البينية فيما بين الدول الخليجية بالمقارنة مع مجمل علاقاتها الاقتصادية الخارجية، وتطبيق التعريفة الجمركية الموحدة، وهو أمر مهم، حيث تساهم التعريفة الجمركية الموحدة في تسهيل حركة البضائع بين الدول الأعضاء وتعزيز التجارة البينية، وتوحيد السياسات المالية والمصرفية بين دول المجلس، عن طريق قيام اتحاد نقدي واتحاد جمركي أو سوق مشتركة خاصة إذا علمنا أن أقطار دول مجلس التعاون الخليجي تفي بشروط ومتطلبات قيام منطقة العملة الموحدة، ومن ثم تتوافر لها إمكانات قيام نوع من التكامل النقدي الكامل الذي يمكن أن يأخذ صيغة عملة مشتركة واحدة، وبتشجيع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي لحرية انتقال رؤوس الأموال، وحرية التبادل التجاري للبضائع والمنتجات الوطنية والأجنبية، وتشجيع حرية الإقامة والعمل وممارسة النشاط الاقتصادي، وذلك من خلال جعل نفسها منطقة جمركية واحدة تخضع لإدارة موحدة وتوحيد التعرفة الجمركية بينها من خلال توحيد التشريع الجمركي والأنظمة الجمركية المطبقة في كل منها، وتنسيق السياسات النقدية والمالية والأنظمة المتعلقة بها في بلدان الأطراف المتعاقدة وفي النهاية توحيد العملة بينها في اتحاد نقدي.