لا يُمكن لأي مراقب ينتمي إلى المنطقة أو العمق العربي المستقل عن تجاذبات إيران وواشنطن إلا أن يضع كلا المسارين نصب عينيه، وكأنما إغفال مسار والاكتفاء بمسار يُظهر زاوية العور الاستراتيجي التي يعني غيابها بالضرورة وضع مستقبل الخليج العربي على صفيحٍ هش للغاية.
هذان المساران هما أولاً الأمن القومي المُهدِّد بالفعل لبعض دول الخليج العربية من التدخل الإيراني وتقاطع واشنطن المقلق والغامض معها والقائم حالياً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولا يستطيع أي منصف تنحيته من حسابه بعد تأثيره القوي في البحرين ومواقع أخرى بغضّ النظر عن وجود ملفات سياسية مسؤوليتها المعالجة الذاتية، فهذه لا تُلغي الخطر الحقيقي لإيران. وثانياً التخلف الشامل في دول المنطقة مع فروق نسبية بينهما أو كبيرة، لكنها لا تُمثل تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الشراكة الشعبية والدستورية وفضاء حرية التعبير، ولذلك سنتعاطى مع القضية وفقاً لمنظور الرؤية الشاملة لكلا البعدين.
الفهم الدقيق للتأجيل
لقد اشتعلت الساحة الإعلامية إقليمياً وعربياً ودولياً في التعاطي مع قضية الاتحاد الخليجي فور إعلان الأمير سعود الفيصل قرار قادة دول مجلس التعاون تأجيل إعلان الاتحاد حتى تُستكمل جوانب التفاصيل التي طلبتها الدول الراغبة والمتحفظة في الوقت ذاته، وجرى خلطٌ كبير بين إعلان الحرب الرسمي الذي أشهرته إيران على الاتحاد وبين قرار التأجيل، ومن أهم أسبابه ضعف الإعلام الخليجي ومستواه المتدني ونقص البيان الثقافي المطلوب كضرورة بين حركة المثقفين وبين المجلس كمؤسسة أو مع دولهم، حيث هُمّش هذا التواصل، وأُلغي دور المثقف الخليجي بكل توجهاته المؤيدة والمتحفظة، بالإضافة إلى ظهور تباين وخلاف في بعض المؤسسات الإعلامية لدول الخليج جعلت القضية محل صراع في خطابها الإعلامي، وهو ما عزز حركة الدعاية الشرسة المحاربة لفكرة الاتحاد والتي تُخفي وراءها أطماعاً دولية أو نزعة صراع قديمة مع المنطقة لأسباب مختلفة أو ما صدر بصورة مباشرة من مواقف إيرانية تعلن عزمها مواجهة الاتحاد بكل الوسائط في خطاب غير مسبوق للوقاحة الإيرانية عزز تأكيد موقفهم التاريخي للتوغل في الشأن الخليجي وعبر البوابة الطائفية وشق الصف الوطني. وتتابعت تصريحات خطيرة تُعلن البحرين جزءاً من أراضي الجمهورية الإيرانية! وهو ما يؤكد أن كل ما قيل عن أطماع تنفيذية لإيران أضحت حقيقة تعلنها طهران صباح مساء
تنظيم الخلاف طريق الاتحاد
هذه المواقف الإيرانية الأخيرة والخطيرة جداً وخصوصاً في إعلان إيران رسمياً اندماج كامل حراك المعارضة الشيعية في مملكة البحرين مع موقفها، وادعاءها المزعوم بتبعية البحرين لها قضية خطيرة مضرة استراتيجياً بالمعارضة الشيعية والعلاقة المجتمعية بين الطائفتين ومستقبل المواطنة العربية في الخليج مع هذا الانفصال الإقليمي الخطير، لكننا هنا نُشير إلى أن الخلط الذي جرى قام بناءً على عدم توضيح المجلس الصورة بين مسارين، المسار الأول هو إعلان الاتحاد الخليجي الشامل كمشروع مستقبلي يبدأ التأسيس عليه بتدرج وتكامل. والثاني هو مشروع الاتحاد الكونفدرالي بين السعودية والبحرين، فقيام الثاني لا يعني إلغاء الأول، غير أن موقف قطر والكويت من الموافقة المبدئية التي أبدت حرصاً عزز إمكانية الإعلان رباعياً عن التأجيل، مع بقاء المجلس الخليجي الذي نُذكر بأنه لا يزال يدير مؤسساته وفقاً للمسمى القديم والقائم أي كمنظمة تعاون فقط. وهنا لابد من التوضيح أن من مصلحة مستقبل الاتحاد أن تعبر هذه المفاوضات في مستوى شفافية عال للرأي العام الخليجي، ولا حرج أن يُقال إن الشقيقة عُمان متحفظة وأبدت رغبتها في عدم الدخول حالياً، ولا في تحفظ أبوظبي أيضاً، ونشدد على ضرورة تجاوز هذه الحساسيات، وأن من حق هذه الدول أن تتحفظ وتسأل وتطلب، وقد أشار الأمير سعود الفيصل إلى ذلك. والجانب الآخر أن مستوى الكونفدرالية بحسب الإعلانات الأولية هو في مستوى أولي، ويغطي قانونياً بصورة حاسمة الردع الاستراتيجي لأعضائه، ويؤسس لتنسيق أكبر في السياسة الخارجية مع استمرار التمثيل الدبلوماسي للدول وتشكيل رافعة دعم أكثر حيوية للحراك الاقتصادي.
وهذا يعني مستوى منخفضاً لا يُغير من واقع قوانين أو دستور الدول أو حقها السيادي، ولا يُشرّع التدخل الأمني الداخلي إنما إقرار الدفاع الاستراتيجي، وبالتالي فإن بعض ما ضُخ إعلامياً ليس صحيحاً ودقيقاً بالنسبة لجسم الاتحاد المقترح, أما السلوك العملي في المدار الأمني فهو رهن بالتوافق الثنائي بين أي دولتين، وقد يعبر مدارات حساسة من دون قيام الاتحاد في قضايا عديدة قد تتجاوز بالفعل حق المواطنة كحالة عامة من دون قيام الاتحاد، وما ينشر من أخبار متواترة من إيران أو أنصارها أو المتقاطعين مصلحياً معها عن تورط قوات ( درع الجزيرة) في المواجهات الأمنية الداخلية للبحرين لا يوجد أي دليل عملي واحد عليه، لكن إشكاليات البعض أنه يرفض منظومة الدفاع الخارجي المواجهة لإيران، ويطرحها في مسار التأثير على توازنه الداخلي، وهذه مشكلته حين يعتقد أن تأمين البحرين ضد الأطماع الإيرانية المعلنة يؤثر في مشروعه السياسي.
ويبقى أن نؤكد على الخلل الكبير الذي ترتكبه دول الخليج العربية بعزل الرأي العام عن حق النقاشات المستحقة للمؤيدين والمتحفظين، وأنّ هذا العزل للرأي العام الخليجي مقدمة مغرقة في السلبية لمشروع الاتحاد، مع أن هذا التحفظ والمعارضة لن يُقللا من القناعة الشعبية الجارفة لدعم الردع الاستراتيجي ضد التدخل الخارجي لمصلحة الأمن القومي للخليج العربي، مع بقاء الملف الأكبر الضامن للاتحاد وهو وحدة الشعوب والأطر الدستورية الحقوقية.
الاتحاد الخليجي لن يوقف المطالب الإصلاحية الشعبية المشروعة
تجربة الاتحاد الأوروبي بدأت بعد سلسلة من التهيئة للتجانس القيمي الحقوقي بين شعوبه
دول الخليج مطالبة بتحقيق مصالحات وطنية حسب مستويات الأزمة لديها
الدستور الحقوقي والالتفاف الشعبي
نعود هنا إلى تأكيد أن القضية ستُدعم في مسارين من قبل الرأي العام الخليجي وهي خلاصة قراءتنا، المسار الأول أن تحقيق الاتحاد ثنائياً أو رباعياً ينتظر المتبقين كطوق حماية للأمن القومي للخليج العربي وتحديداً حماية عاجلة للحدود الدولية للبحرين خاصة بعد تتابع التصريحات الإيرانية ووضوحها في ما يشبه إعلان حرب على المنطقة وما يعنيه من جزم لأطماع طهران الذي تحدثنا عنها منذ 1993. ومع تقديرنا للدوافع الإصلاحية المشروعة للرافضين للاتحاد إلا أننا نُذكر بأن بعض ما قيل ليس دقيقاً، وأن بُعد الأمن القومي هو المركز في المشروع، وليس التوافق الأمني المستمر قديماً ببعده الإيجابي أو السلبي المواجه لحرية المواطن وهو فهم مهم للفصل الدقيق، وأيضاً هناك حقيقة ستفرض ذاتها على الأرض وهي أن الاتحاد لن يوقف المطالب الإصلاحية الشعبية المشروعة والتي لا تنطلق من أرضية طائفية إقليمية بل وطنية جامعة لكل الاتجاهات والجماعات البشرية، بل قد تُعطيها مداراً جديداً لزخم متوقع بعد الاتحاد سواءً لدولتين أو أكثر.
رسالة الحركة الثقافية للدول
أمّا المسار الثاني وهو الركن الثاني، فهو رسالة الحركة الثقافية في الخليج العربي لكل العواصم، وتتمحور بوضوح في تحقيق هذا الاتحاد في إطار دستوري حقوقي شامل يمنح الشعوب مساحة الإرادة والطموح لبناء هذا الاتحاد عبر قواعده الشعبية الفعلية للمنطقة وعلاقاته الوجودية، وهو في ذاته مسار أقوى بمراحل لتحقيق الأمن القومي من مسار العلاقة الحكومية المنفصلة عن الوجدان الشعبي. فطبيعة تشكل الاتحاد بمساحة أكبر للدعم والقناعة الشعبية التي تَتداول يومياً حقوقه الدستورية وتقدمه المدني والاقتصادي في ظل ثوابته العربية الإسلامية تجعل منه كتلة قوية في هذا الزمن العاصف.
لقد بدأت تجربة الاتحاد الأوروبي بعد سلسلة من التهيئة والشروط الموضوعية للتجانس القيمي الحقوقي بين شعوبه، ومن المفارقات أن يستمر الاتحاد في رفض تركيا لأنها تنتمي إلى العالم الإسلامي في رسالة مهمة للتجانس المبدئي لأي اتحاد شعبي قيمياً وفكرياً وهو التجانس الذي تعيشه منطقة الخليج العربي والجزيرة بما فيها اليمن، لكن في الوقت ذاته فَرض الاتحاد الأوروبي مستوى محدداً للمواطنة لتحقيق قوته الجماعية، فلم يَقبل أن يضّم أية دولة لا تحترم الحد الأدنى لحرية شعبها أو لا تُقّر تشريعات تحمي حقوق مواطنيها الدستورية، وتضمن لهم مساحة وطمأنينة لحرية الكلمة والقضاء العادل والحراك المدني الشعبي من أجل تقدم شعوبها وخلاصها من أي مظلمة تقع على مواطنيها، وأُقرت معاييره رغم التباين الواسع في الخلفية الدينية بين الطوائف المسيحية والمذاهب اليسارية واليمنية للواقع الأوروبي المعاصر وإرثه التاريخي.
لذا فإن على دول المنطقة وتحديداً أُسر الحكم فيها أن تتخذ موقفاً مركزياً يراجع ويستشير الصادق الأمين في كيفية صياغة هذا الاتحاد ليس للسقف الدستوري في أوروبا، فنحن نعرف الواقع ومستواه والفرق الشاسع وأيضاً طبيعة قيام الدولة القطرية في الخليج وعلاقتها بالأسر الحاكمة، لكن لتحقيق الحد الأدنى من شروط قيام الاتحاد الخليجي المحتضن شعبياً وتجاوز التجربة السلبية للتعثر التاريخي الذي عاشه مجلس التعاون الخليجي وفقدان تأثيره الميداني لوضع المواطن حقوقياً وتنموياً.
رسم الخريطة قبل رسم الآخرين
لن يُفيد الاتحاد القادم القفز على هذه المتطلبات الضرورية، فبوصلة المنطقة وانفجار الزمن العربي الحديث لحالة متغيرة وتفكك المشهد الإقليمي ستعطي بعداً جديداً لإعادة صناعة خرائط المنطقة عبر إيمان دول المحور العالمي بأن البناء الاستراتيجي لهذه الدول غير قائم. ولقد قرأ المراقبون مؤخراً حجم إعادة التعاطي مع سيناريو خريطة المنطقة الجديدة من مراكز وشخصيات محافظة في واشنطن حُسبت تاريخياً بأنها الداعم الاستراتيجي للأسر الحاكمة وهي الآن منشغلة عملياً بمناقشة جغرافيا سياسة مختلفة في الخليج العربي يتوقعها باحثوها.
وليس هناك بعد رعاية الله أقوى لمواجهة كل هذه التحديات والرؤى الاحتياطية للمحور الدولي والإقليمي من الاحتضان الشعبي لاتحاد الخليج العربي من خلال صياغة مناسبة متوافقة سلمياً للعهد الدستوري الجمعي للخليج العربي، والذي تعد أولى خطواته اللازمة التقدم الشجاع لتحقيق مصالحات وطنية في كل الدول الست حسب مستويات الأزمة لديها وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وبدء حوار وطني مركزي حقوقي وتنموي بسقف تعبير محترم يسحب (السخينة) الشعبية ذاتياً، ويبني قاعدة استراتيجية وجودية لاتحاد الخليج العربي القوي والمحمي بإرادة وحماية الخيار الشعبي.