لا يخفى ما تزخر به الساحة العراقية من أحداث وتطورات وعدم استقرار سياسي وأمني واقتصادي منذ عقود عدة، وتشهد هذهِ الساحة العديد من التحديات والأزمات والقضايا منها ما يستمر لسنوات عديدة ومنها ما يتوقف وينتهي بوقت أقل. وعند تتبع ما يمر به العراق بعد عام 2003م، نجد أن البلاد مرت بأزمات متلاحقة ومعقدة على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بدأت بالحرب الأمريكية التي أدت إلى احتلال العراق وما نتج عنها من تحولات وأزمات حصيلتها تأزم سياسي مزمن وأعمال عنف طائفي وتدمير للبنى التحتية وآلاف من الضحايا من مختلف مكونات المجتمع العراقي وملايين النازحين والمهجرين داخل العراق وخارجه، وعلى الرغم من تجاوز بعض هذه الأزمات إلا آن آثارها لم تنته بعد وتحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد لتخطيها.
ولم يكن عام 2019م، استثناءً لما سبقه من أعوام حيث استمرار عدد من التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية وبروز تحديات جديدة فرضتها تطورات الأحداث، على الرغم من أن العراق منذ عام 2017م، قد استطاع تخطي الجزء الأكبر من أزمته الأمنية بعد تحرير مدينة الموصل آخر معاقل تنظيم داعش التي سيطر عليها في يونيو 2014م، وتزامن هذا التطور مع ارتفاع أسعار النفط العالمي الأمر الذي ساهم بمعالجة الأزمة المالية في العراق التي سببها انخفاض أسعار النفط والحرب على الإرهاب.
أولاً – تحديات الساحة العراقية خلال عام 2019
واجه العراق خلال عام 2019م، عددًا من التحديات منها ما هو استمرار لتحديات سابقة وأخرى استجدت على الساحة العراقية نتيجة لتراكم التحديات السابقة بشكل مستمر من دون أن تتم معالجتها، وتتمثل بما يلي:
- تعقيدات الوضع السياسي، يوصف الوضع السياسي في العراق بالتعقيد والتناقض ويتمثل هذا التعقيد بعدة مظاهر أهمها: أن الطبقة السياسية على اختلاف توجهاتها وأيديولوجيتها قد اعتمدت على سلوك وممارسة تقوم على أساس جمع المتناقضات، إذ أنها تتمتع بمزايا الحكم وتشارك في السلطة وفقًا للمحاصصة الطائفية وفي نفس الوقت توجه سهام النقد للنظام السياسي وتدعو لمحاربة الفساد، فتضع القوى والحركات السياسية العراقية قدمًا في الحكم وأخرى في المعارضة، وحتى الاحتجاجات الشعبية الأخيرة شهدت مشاركة وتأييدًا من القوى والتيارات السياسية المشاركة في الحكم أو حتى تلك التي شكلت الحكومة والبرلمان الحاليين([1]). ومن تعقيدات الوضع السياسي الراهن أيضًا أن الحكومة الحالية بالرغم من صعوبة الاتفاق على تشكيلها إلا أنها لم يكتمل تعيين وزرائها بشكل كامل إذ شكلت بالموافقة على 14 وزيرًا بينما اختلفت الكتل السياسية على 8 وزراء وزارات منها الداخلية والدفاع والعدل والتربية، وبعد ثمانية أشهر صوت البرلمان على تعيين وزراء الدفاع والداخلية والعدل بينما تم تعيين وزيرة التربية بعد عدة أشهر في ظل الضغوطات الشعبية الناقمة على الحكومة، ولم تكد تكتمل الكابينة الوزارية حتى أعلن وزير الصحة علاء الدين العلوان عن استقالته بسبب ما تعانيه وزارته من ملفات الفساد على حد وصفه([2]).
فضلاً عن ذلك هنالك المحاصصة الطائفية التي تزيد من تعقيد العملية السياسية وتساهم في استمرار التأزم السياسي المستمر في الساحة العراقية وتعرقل بشكل أو بآخر تولي الكفاءات مهام إدارة الدولة من دون أن يكون لهم ولاء طائفي على حساب الولاء الوطني.
ناهيك عن بروز ظاهرة التفكك والخلافات السياسية بين الكتل والمحاور السياسية نفسها، فالخلافات والصراعات طالت تحالف "المحور الوطني" الذي يقدم نفسه ممثلاً عن المحافظات السنية وينضوي تحت لواء تحالف "البناء" بظهور انشقاقات داخل "المحور" تدعو للخروج من تحالف "البناء" وتفكك المحور والعودة لتشكيل "تحالف القوى العراقية"، كذلك الأمر بالنسبة لتحالف "الاصلاح" الذي يتزعمه عمار الحكيم، وتحالف "البناء" الذي يجمع دولة القانون، هي الأخرى شهدت انشقاقات مكوناتها وصراعات تتعلق بصناعة القرار داخل التحالف الواحد وطبيعة ما يحصل عليه من مكاسب سياسية ومادية([3]).
كل ذلك شكل تحديات إضافية في الساحة العراقية إضافة لما تعانيه من تحديات أخرى مختلفة تكاد تكون مزمنة.
- استمرار التحديات الأمنية، التي تتمثل بـ: استمرار وجود خلايا وعناصر داعش في العراق في المناطق الصحراوية ومناطق تلال حمرين، على الرغم من إعلان العراق في عام 2017م، تحرير كافة الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش منذ يونيو 2014م، إلا أن الانتصار العسكري لا يعني إنهاء كافة التهديدات الإرهابية بل يتطلب الأمر اعتماد استراتيجية شاملة لمحاربة الإرهاب تتضمن الحرب الفكرية ومعالجة كافة الأسباب التي أدت إلى وجود الإرهاب والتطرف.
يضاف إلى ذلك هنالك تحديات أمنية أخرى هي: عدم تمكن الحكومة العراقية من حصر السلاح بيد الدولة وفرض سلطة القانون على العديد من المجموعات المسلحة في العراق ولا سيما تلك المرتبطة ببعض القوى السياسية وتحصل على السلاح والتمويل من أطراف إقليمية أهمها إيران. كذلك صعود تأثير بعض العشائر العراقية وامتلاكها للسلاح المتوسط والثقيل وفرض سيطرتها على الشارع والمجتمع على حساب سيطرة الدولة ولا سيما في النزاعات العشائرية وفرض الأحكام العشائرية العرفية([4]).
- أزمة الفساد، تشكل أزمة الفساد أهم التحديات التي تعرض لها العراق دولة ومجتمعًا في مرحلة ما بعد عام 2003م، على الرغم من أنه ليس نتاجًا لهذهِ المرحلة فقط بل برز منذ ستينات القرن الماضي وإن كان بدرجات وأشكال متفاوتة، ويختلف بأشكاله فمنها المالي والإداري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي ولكل منها مفهومه ومضمونه، كما للفساد أسبابه المختلفة: سياسية وإدارية وقانونية واجتماعية ومالية، وتظهر ظاهرة الفساد في ظل عوامل عدة: ضعف مؤسسات الدولة والقانون، وغياب أو ضعف ثقافة المؤسساتية واختراق مؤسسات الدولة من جهات أو أشخاص تعمل لمصالحها الشخصية على حساب المصلحة العامة، وضعف الشعور الوطني وغياب الهوية الوطنية وانقياد السياسيين لولاءات فرعية أو خارجية([5]).
وأصبحت ظاهرة الفساد في العراق تشكل منظومة كبيرة وخطيرة لا يمكن معالجتها بسهولة وذلك لارتباطها بقوى سياسية مؤثرة وشخصيات سياسية تشغل مناصب عليا في المؤسسات الحكومية، والأمر بحاجة إلى معالجة قانونية قضائية وتحرك سياسي شعبي صارم حتى يتسنى التخلص من آفة الفساد التي تشكل سببًا رئيسًا في التدهور الأمني والاقتصادي والسياسي في العراق، وكانت المعالجات السابقة تعتمد على الحكومة والبعض اعتمد على هيأة النزاهة وبعض المعالجات من خلال مكاتب المفتشين العموميين التي تم الغاؤها مؤخرًا ، وفي ظل الحكومة الحالية اعلن رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي عن تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق بموجب الأمر الديواني رقم 70 بتاريخ 29 يناير 2019([6]).
هذا التوجه بعد أن صنف العراق في السنوات السابقة من أكثر دول العالم فسادًا ومن أكثر الدول التي ينتشر فيها الفساد الإداري في العالم، إذ توجه الموارد العامة نحو السياسيين المهيمنين وللمنافع الخاصة لهم بشكل لم يشهده التاريخ الحديث للبلاد، وقد بلغت موازنات العراق للأعوام 2010 ،2011 ، 2012 ، 2013 2014م، ما يقرب من مجموع 534.6 مليار دولار ، وبلغت موازنة العراق لعام 2015م، بحدود 103 مليار دولار ، إلا أن الواقع يشير إلى أن موازنات العراق كانت بحدود 1000 مليار دولار من دون تحقيق نتائج تذكر على أرض الواقع، بل ذهب منها ما يقرب من 245 مليار دولار هدرًا في مختلف الموازنات السابقة، وحوالي 150 مليار دولار فائض موازنات لكنه غير موجود فعليًا و 95 مليار دولار أرصدة نقدية مدورة لحسابات وزارة المالية للسنوات 2004 -2012م، صرفت من دون العودة إلى السلطة التشريعية وبالتحديد مجلس النواب ولا يعرف أوجه صرف هذه المبالغ([7]) .
هذا الأمر يشير إلى خطورة ظاهرة الفساد التي تسببت بضياع أموال العراق من جهة وضعف أو إنهاء العديد من القطاعات الزراعية والصناعية في البلاد، وأنها تحد كبير أمام حكومة عبد المهدي تحتاج إلى معالجة واقعية وجادة لا سيما بعد أن أصبح موضوع مكافحة الفساد مطلبًا أساسيًا للاحتجاجات الشعبية الأخيرة وربما يكون سببًا في إقالة هذه الحكومة مستقبلاً.
- التحديات الاقتصادية، على الرغم من أن العراق غني بثرواته وموارده الطبيعية ويمتلك ثالث احتياطي نفطي على مستوى منظمة الأوبك، إلا أنه يواجه تحديات اقتصادية عدة منها: العجز المالي الذي بلغ في موازنة العام 2019م، ما يقرب من 23 مليار دولار في موازنة بلغت حوالي 112 مليار دولار تعتمد بشكل رئيس على صادرات نفطية بمعدل 3.9 مليون برميل يوميًا. وضعف في البنية التحتية وتدهور بيئة الأعمال المناسبة للقطاع الخاص، وتفاقم ظاهرة البطالة ولا سيما بين الخريجين، وارتفاع معدلات الفقر ، والترهل الحكومي وضخامة الجهاز الإداري وانخفاض انتاجيته ، وإغراق الأسواق العراقية بالسلع الأجنبية مقابل تراجع في قطاعي الصناعة والزراعة العراقيين([8])، وارتفاع الديون الأجنبية التي بلغت وفقًا لصندوق النقد الدولي 85.3 مليار دولار تتضمن مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في قطاع الطاقة وشراء الكهرباء والغاز فيما بلغ الدين الداخلي 40 مليار دولار أغلبه للبنك المركزي العراقي والمصارف الحكومية الرئيسة([9])، فضلاً عن التحدي الأهم وهو استمرار اعتماد العراق على الاقتصاد أحادي الجانب القائم على تصدير النفط ما يجعله رهين تذبذب أسعاره واختلافها في الأسواق العالمية .
- الاحتجاجات الشعبية، انطلقت منذ يوم 1 اكتوبر المنصرم احتجاجات ومظاهرات شعبية كبيرة ابتداءً من العاصمة العراقية بغداد ومن ثم عدد من المحافظات العراقية الأخرى مثل البصرة وكربلاء والنجف والديوانية وذي قار وبابل وميسان، ولكن هذه المظاهرات هي ليست وليدة هذا الوقت وإنما هي امتداد لاحتجاجات ومظاهرات قد بدأت بالانطلاق منذ عام 2011م، وما بعده وإن اختلفت بعض من مطالبها والمحافظات التي شهدتها، ولكن ما يجمعها هو أنها طالبت بتقديم الخدمات وتوفير فرص العمل ومحاربة الفساد، وتحسين المستوى المعاشي، والقيام بالإصلاحات الحكومية.
بيد أن الاحتجاجات هذه المرة تميزت بقوتها وعفويتها وأنها جاءت بدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الشباب والخريجين الباحثين عن فرص العمل ولم يكن للقوى السياسية والجهات الدينية أي تأثير في انطلاقها، كما أنها احتجاجات جاءت عابرة للطائفية، وما يميزها أيضًا أنها انطلقت في العديد من المحافظات التي اعتادت أن تدلي بأصواتها في الانتخابات المختلفة للقوى والأحزاب السياسية التي تحكم العراق منذ عام 2003م.
شكلت هذه الاحتجاجات أهم التحديات التي تواجه الحكومة بعد عام من تشكلها لا سيما بعد اتساع نطاق هذه الاحتجاجات ورفع مطالبها إلى إقالة الحكومة وتعديل الدستور والنظام الانتخابي ومحاكمة الفاسدين وإنهاء النفوذ الإيراني في العراق، الأمر الذي دفع الحكومة والبرلمان تحت وطأة الضغط الشعبي إلى اتخاذ ما يقرب من خمس حزم من القرارات الإصلاحية وتقديم المشاريع السكنية والمنح للعاطلين من أجل تهدئة غضب الشارع المحتج ولكن من دون جدوى أمام إصرار المحتجين على إقالة الحكومة وتغيير النظام.
الاحتجاجات أخذت منحى مختلف ورافقها أعمال عنف وراح ضحيتها أكثر من مئة قتيل وآلاف المصابين من المحتجين وقوات الأمن وحرق عشرات المقرات الحزبية ومباني الحكومات المحلية من المحافظات الجنوبية وحرق لمبنى القنصلية الإيرانية، كل هذه التطورات تضع الحكومة والبرلمان والقوى السياسية العراقية أمام تحد كبير وتداعيات أكبر وتعد أهم تحولات الساحة العراقية عام 2019م، مالم يتم التعامل معها بناءً على متطلبات المصلحة الوطنية لا الحزبية.
ثانيًا – ضغوطات الخارج
لا يمكن لدولة ما أن تكون بمنأى عن تأثير محيطيها الإقليمي والدولي أو أن تستطيع الاستمرار من دون التفاعل مع محيطها الخارجي، كذلك هو العراق الذي يؤثر ويتأثر بتطورات الساحتين الإقليمية والدولية وما تشهدانه من متغيرات وأهداف نظرًا لأهمية المصالح وترابط العلاقات، ولعل أكثر حدث تأثر به العراق وشكل عامل ضغط عليه خلال العام 2019م، هو التوتر والصراع الأمريكي الإيراني.
هنالك من يرى انطلاقًا من فرضيات الواقعية السياسية، بأن العراق سيشكل محورًا للصراع الإقليمي – الدولي لا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة وبين إيران وحلفائها من جهة أخرى، وبخاصة في ظل بيئة عراقية خصبة لنشوب الصراع وتصفية الحسابات كونها تعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي الذي صار صفة ملازمة للمشهد السياسي في العراق الذي يعاني من مشاكل جمة لم تستطع الحكومات المتعاقبة من معالجتها لحد الآن([10]). الأمر الذي يعني أن العراق من الصعوبة أن ينأى بنفسه عن ضغوطات طرفي الصراع الأمريكي ــ الإيراني المتصاعد، وبخاصة إذا أفضى الأمر إلى تحديات ساخنة أو مسلحة أو وصل الأمر إلى الصدام بين الطرفين، لا سيما إذا برز بين الطرفين أهمية العراق الجيوسياسية كمعيار مهم لكل منهما، إذ أن للدولتين وجود وتمثيل سياسي وأمني واقتصادي وروابط سياسية مع القوى السياسية في العراق، فالولايات المتحدة الأمريكية ترى أنها أوصلت هذه القوى والأحزاب السياسية إلى السلطة في عام 2003م، عندما أسقطت النظام فيه وما يشهده العراق من تحول سياسي جاء نتيجة لثمن باهض دفعته بدماء جهودها وأموالها التي أنفقتها على الحرب واحتلال العراق ، بينما ترى إيران وبشكل صريح بأن القوى السياسية الرئيسة في العراق لم تجد الرعاية والدعم والإسناد إلا من إيران فضلاً عما تربطها من بعد عقائدي معها. وبذلك تبرز محاور الشد والجذب والمناورة السياسية لتعمل على أكثر من محور لجعل الساحة العراقية مرشحة لتكون ساحة للحرب والصراع المسلح، وما يزيد الأمر تأكيدًا وتعقيدًا هو وجود من يؤيد طرفي الصراع في الساحة العراقية([11]).
ونظرًا لوضع العراق ومعطيات واقعه السياسي والأمني فسيكون موقف صانعي القرار العراقي صعبًا ومحرجًا تجاه الصراع الأمريكي ــ الإيراني ومحاولة جر العراق إلى سياسة المحاور الإقليمية والدولية التي يدعم الطرفان إقامة ما يخدم مصالحه منها ، كما سيجد صانع القرار نفسه في الاختيار والتوازي بين المحورين الأمريكي والإيراني فإيران تمتلك علاقتها بالقوى السياسية والمسلحة الفاعلة والمؤثرة في الساحة العراقية وتبادل تجاري وتعاون اقتصادي كبير بين إيران والعراق ، وفي المقابل هنالك توجه أمريكي كبير تجاه العراق وتحركات عسكرية مباشرة واستراتيجية أمريكية تهدف إلى استعادة السيطرة على العراق والحد من النفوذ الإيراني فيه، الأمر الذي يشير إلى مدى حجم الضغوطات المسلطة على العراق من قبل طرفي الصراع الأمريكي الإيراني ([12]) .
كما تعرض العراق عام 2019م، إلى ضغوطات شديدة نتيجة استمرار فرض الولايات المتحدة الأمريكية لعقوباتها على إيران بسبب برنامجها النووي، إذ تسعى الإدارة الأمريكية جاهدة لتقويض النفوذ الإيراني في العراق من خلال ما تفرضه من عقوبات على إيران وإلزام العراق الذي يشكل المنفذ والمتنفس الاقتصادي الرئيس لإيران بتنفيذها، وبخاصة ما يتعلق بشراء العراق للكهرباء والغاز الطبيعي من إيران([13])، وبالفعل توجه العراق نحو ربط شبكة الطاقة بجيرانه العرب "المملكة العربية السعودية، الأردن"، وتطوير بدائل واردات الغاز الطبيعي الإيراني، اذ وقعت وزارة النفط العراقية في يوليو 2019م، اتفاقية مع شركة الطاقة الأمريكية "هاني ويل انترناشيونال" لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي في خمسة حقول نفطية في البصرة إلى 600 مليون قدم مكعب، وسبقتها منح العراق شركة "سيمنس إيه جي" ثلاثة عقود تبلغ قيمتها حوالي 700 مليون دولار لتوليد الطاقة وإعادة تأهيل المنشآت القائمة وتوسيع شبكات النقل والطاقة وذلك ضمن سياسة أمريكية للحد من اعتماد العراق على استيراد الطاقة من إيران([14])، الأمر الذي رفضته إيران وسعت إلى استمرار توريد الطاقة الكهربائية والغاز الطبيعي وتصدير مختلف السلع والبضائع إلى العراق في ظل حاجتها المتزايدة للعملة الصعبة بعد فرض العقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولة منها لتخطي العراق الضغوطات الأمريكية عليه في هذا المجال.
إن الضغوطات التي تفرضها أو تحاول فرضها كل من الولايات المتحدة الأمريكية ولا سيما ما يخص الصراع بين الدولتين ولد تأثيرًا سلبيًا شديدًا في الساحة العراقية وكان سببًا في الاضطرابات الأمنية والخلاف السياسي بين المكونات الاجتماعية والقوى السياسية في العراق، وما ينتج عن ذلك من تداعيات خطيرة على العراق دولة ومجتمعًا.
ثالثًا – العراق عام 2020 تحديات وأولويات
قد لا يختلف الوضع في العراق في عام 2020م، عما سبقه في عدد من الجوانب، ولكن ما لا يخفى أن العراق مقبل على تحولات سياسية في ظل الحراك الشعبي والسياسي الذي انطلق في أكتوبر 2019م، ومثلته الاحتجاجات الشعبية العارمة في بغداد وعدد من المحافظات العراقية الذي قد يغير من ملامح المشهد السياسي العراقي السائد. ولكن على الرغم من ذلك فإن العراق عام 2020م، قد يواجه عددًا من التحديات لعل أهمها:
- التحديات الأمنية، المتمثلة ببقايا عناصر تنظيم داعش في المناطق الصحراوية والجبلية والتي قد تعيد تنظيم فلولها وتنفذ بعض الهجمات الإرهابية على المدنيين والقطعات الأمنية، ولا يخفى إمكانية عبور عدد من عناصر داعش من الحدود السورية إلى العراق لا سيما بعد إطلاق عدد منهم من السجون التي كانت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بعد العملية العسكرية التركية في الشمال السوري.
- تحديات في إعادة الإعمار وعودة النازحين، كونها من الملفات التي برزت في مرحلة ما بعد الحرب على داعش، فمن جهة تحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة لإعادة إعمار المدن وبناها التحتية وقطاعاتها الصحية والخدمية والتعليمية المدمرة جراء الحرب على الإرهاب ومن جهة ثانية يتطلب الأمر عودة آلاف النازحين والمهجرين إلى مناطق سكناهم التي ترفض قوى نافذة إعادتهم إليها لأسباب سياسية أو أمنية.
- تحديات اقتصادية، تتمثل بتقديرات عن وجود عجز مالي في الموازنة المالية في العام 2020م، تقدر بـــ 30 مليار دولار، واستمرار أزمة البطالة التي كانت أحد أهم أسباب اشتعال الاحتجاجات في العراق.
- تزايد الضغط الشعبي والاحتجاجات المطالبة بالإصلاح وأزمة عدم الثقة بين الشارع والطبقة السياسية، وهذه الظواهر قد تشكل أحد أهم تحديات العام 2020م، أمام الحكومة العراقية الحالية فيما لو استطاعت الصمود والاستمرار أمام المطالب الحالية من قبل محتجين باستقالتها.
أما أهم الأوليات التي أعتقد أنها مهمة ومن المفترض أن توليها الحكومة العراقية "الحالية" أو أي حكومة قد يتم تكليفها بدلاً عنها الاستجابة لمطالب الاحتجاجات خلال عام 2020م، فتتمثل فيما يلي:
- سياسيًا، أن يتم الشروع بإصلاح سياسي ودستوري يتضمن تشريع قانون انتخابي جديد يقوم على أساس الانتخاب الفردي والاستحقاق الانتخابي وإلغاء قانون الانتخاب الحالي، وتكليف لجنة مختصة للمضي بإجراء تعديل الدستور وإلغاء المحاصصة الطائفية ووضع قانون للأحزاب يضمن أبعاد الأحزاب ذات التوجهات الطائفية والقومية ويكشف مصادر تمويلها بكل شفافية.
- أمنيًا، يجب اعتماد استراتيجية شاملة ومتكاملة تعمل على: إنهاء التهديدات الإرهابية وضبط الحدود ومعالجة الأسباب المؤدية إلى التطرف، وتقوية المنظومة الأمنية والدفاعية وتقليل المسميات والفوارق بينها واعتماد التخصصية في العمل بين ما هو أمني ودفاعي، وحصر السلاح بيد الدولة وعدم السماح بوجود أي مليشيات أو فصائل تتبع للأحزاب السياسية.
- اقتصاديًا، ضرورة اعتماد سياسة اقتصادية تنظم موارد الدولة المالية وعدم الاستمرار بالاعتماد على الاقتصاد أحادي الجانب، واعادة تفعيل القطاعين الزراعي والاقتصادي ووضع جدول زمني للوصول بالعراق إلى حالة الاكتفاء الذاتي لا سيما في مجال المنتجات الزراعية وتقليل النفقات على المشاريع غير المهمة وتنويع الإيرادات وتشجيع القطاع الخاص والابتعاد عن القروض الدولية قدر المستطاع، والاتفاق مع الشركات الأجنبية العاملة في العراق على تشغيل الأيدي العاملة العراقية بدلاً من الأجنبية.
- ضرورة إيلاء ملف المياه أهمية كبيرة ، الآن وفي المستقبل لما له من أهمية كبيرة على حياة المواطن العراقي والقطاع الزراعي في العراق، وذلك لكون أزمة المياه في العراق تحتاج إلى تحرك على المستويين الداخلي والخارجي وما أخفاها خلال هذا العام هو موسم الشتاء الممطر ، وفي حال تراجع موسم الأمطار ستظهر بشكل كبير ومؤثر مستقبلاً وبخاصةً إن قامت إيران بتغيير مجاري الأنهار داخل أراضيها ومنعها من المرور إلى الأراضي العراقية ، وتقليص حصة العراق المالية من قبل تركيا بعد اقامة سد "اليسو" على منابع نهر دجلة في أراضيها.
- إقليميًا، من المهم أن يعمل العراق على إعادة تفعيل علاقاته العربية وأخذ دوره ومكانته التي تليق به في حاضنته العربية وتسوية أي خلافات تاريخية وتفعيل الروابط السياسية والتجارية والثقافية مع مختلف الدول العربية، وبالمقابل اعتماد سياسة متوازنة مع دول الجوار الإقليمي قائمة على أساس المصالح المتبادلة وعدم الدخول في سياسة المحاور الإقليمية التي من الممكن أن تضر في مصالح العراق الوطنية.
- دوليًا، إقامة علاقات متوازنة مع مختلف دول العالم التي لها مصالح مع العراق ولا سيما الدول المؤثرة في الساحة العالمية والابتعاد عن الاستقطابات الدولية قدر المستطاع، وتفعيل دور العراق في المنظمات الإقليمية والدولية بما يحقق مصالح العراق واستعادة مكانته في المحافل الدولية.
ختامًا: فإن عام 2019م، على الرغم من أنه لم يكن كما الأعوام التي سبقت من حيث وجود أزمات اقتصادية وحرب على الإرهاب إلا أنه لم يستثنى من وجود تحديدات تشهدها الساحة العراقية البعض منها استمرار لأزمات من أعوام خلت والأخرى مستجدة في الساحة العراقية ، وليس من المتوقع أن يخلو عام 2020م، من التحديات المختلفة، ولكن ما هو جديد أن العراق والساحة العراقية بعد الحراك الشعبي الذي شهده شهر أكتوبر لن يكن كما هو عليه الحال قبله، بعدما أصبح للشارع العراقي قوله ووصوله إلى مرحلة من الوعي والولاء للهوية الوطنية الجامعة على حساب الهويات الفرعية الطائفية والعرقية.
[1] - اياد العنبر، العراق: ازمة السياسة لا يصلحها شعار المعارضة، الحرة، 28 يوليو 2019م، الرابط: https://www.alhurra.com/a/%D8
[2] - محمد السلطان، عام ساخن لـ عبد المهدي في حكم العراق .. هذهِ أهم الاحداث، نون بوست، 2019م، الرابط : https://www.noonpost.com/content/29918
[3] - براء الشمري، تغييرات في الخارطة السياسية .. الازمات تعيد رسم التحالفات ، العربي الجديد ، 16 مايو 2019، الرابط : https://www.alaraby.co.uk/politics/2019/5/16/
[4] - جاسم محمد، معضلة الامن في العراق، موقع مجلة المجلة، الرابط: http://arb.majalla.com/node/26161
[5] - للمزيد انظر: ستار جبار علاوي، مشكلة الفساد في العراق بعد عام 2003 م، موقع المعهد العراقي لحوار الفكر، 17 سبتمبر 2018، الرابط: http://hewariraq.com/%
[6] - طارق عبد الحافظ الزبيدي، مكافحة الفساد في العراق بين الاجراءات والتنظيرات، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، 6 ابريل 2019، الرابط:http://mcsr.net/news478
[7] - ستار جبار علاوي، مصدر سبق ذكره.
[8] - حيدر حسين آل طعمة، الازمة الاقتصادية الراهنة والاصلاح المطلوب ، كلية الادارة والاقتصاد – جامعة كربلاء ، الرابط : http://business.uokerbala.edu.iq/wp/m44/
[9]- ديون العراق ، تحديات تواجه الاقتصاد العراقي ، السومرية ، 30 مايو 2019 ، الرابط : https://www.alsumaria.tv/news/%D8
[10]- ميثاق مناحي العيسى، كيف ينأى العراق بنفسه عن سياسة المحاور؟، مركز الدراسات الاستراتيجية، 27 يناير 2019 م، الرابط: http://kerbalacss.uokerbala.edu.iq/wp/blog/2019/01/27/
[11]- فلاح المشعل، الازمة الامريكية الايرانية وتأثيراتها السياسية في العراق، جريدة الصباح، 1 يوليو 2019.
[12]- ميثاق مناحي العيسى، مصدر سبق ذكره.
[13]- نشوى الحفني، "عراق 2019" .. مستقبل معلق على ارضية امنية مقلقة وسرطان فساد ينهش وطن، ، 27 ديسمبر 2018 ، الرابط : https://kitabat.com/news/%D8
[14]- لميس السيد (ترجمة)، تحت ضغوط امريكية .. العراق يتجه لدول "التعاون الخليجي" بحثاً عن طاقته الكهربائية، الوثيقة نت، 30 اغسطس 2019، الرابط : https://www.alwathika.com/article/?t=89931