تحظى منطقة الشرق الأوسط باهتمام روسيا الواضح منذ العهد القيصري انطلاقاً من اعتبارات جيوسياسية ودينية حيث المناطق الأثرية الروسية في فلسطين ومنها كنيسة دير الإرسالية الروسية في الخليل بالضفة الغربية المسماة كنيسة المسكوبية، نسبة إلى موسكو، وبناها الروس الذين أتو إلى فلسطين عام 1868م. كما تمثل المنطقة جوار شبه مباشر لروسيا، وبها منافذ عدة للمياه الدفيئة، التي مثلت حلم روسيا القيصرية، وكان التعاون والصداقة أساس تقاربها مع المنطقة، ودخلت السفن الروسية لأول مرة الخليج العربي عام 1899م، في إطار من الصداقة والود، فلم يكن لروسيا أي أطماع استعمارية في العالم العربي خلافاً للقوى الكبرى الأخرى.
ورغم محاولات روسيا مد جسور الصداقة مع المنطقة فإن قوى دولية أخرى عملت دوماً على إفساد هذه العلاقة واقتلاع أي نفوذ روسي بالمنطقة، وذلك في إطار تنافسها الدولي مع موسكو، بداية بالإمبراطورية العثمانية، التي كانت المنطقة جزءًا منها، ثم بريطانيا وفرنسا وريثتا النفوذ العثماني بها، فالولايات المتحدة وريثة النفوذ البريطاني. وخلال حقبتى الخمسينات والستينات استطاعت موسكو السوفيتية تطوير شبكة من التحالفات أكسبتها دورًا مؤثرًا وفاعلًا في المنطقة، إلا أن تفكك الاتحاد السوفيتي وما صاحبه من تدهور حاد في القدرات الروسية، وتوجه روسيا نحو الغرب، أدى إلى تراجع الاهتمام الروسي بالمنطقة وغياب موسكو كفاعل في القضايا الشرق أوسطية طوال حقبة التسعينات.
ومع وصول الرئيس بوتين للسلطة مطلع عام 2000م، عادت روسيا للمنطقة على أسس برجماتية تنطلق من رؤية للمصالح الروسية التي تمحورت حول التعاون في مجالي الطاقة وصادرات السلاح باعتبارهما القطاعين القائدين لنهوض الاقتصاد الروسي. وعلى مدى عقد من الزمان تطور التعاون الروسي مع العديد من دول المنطقة خاصة في المجالات الاقتصادية والتقنية، وكان تأكيد موسكو الدائم على أن تقاربها مع المنطقة لا ينطوي على رغبة في مزاحمة النفوذ الأمريكي بها، وإنما هو لتحقيق المصالح الروسية دون أجندة سياسية تنافسية مع واشنطن أو غيرها من القوى الكبرى.
وقد مثلت الأزمة السورية نقطة تحول مفصلية في السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط حيث وقفت روسيا بقوة إلى جانب سوريا في تحالف واضح ومعلن مع إيران في مواجهة كل شركائها الأخرين في الغرب والمنطقة. وجاء التدخل العسكري الروسي في سوريا غير متوقعا ومفاجئاً للكثيرين داخل وخارج المنطقة باعتباره تحول جذري في النهج الروسي، وأثار تساؤلات عدة حول أسباب هذه الخطوة من جانب روسيا ودوافعها، وهل تمثل بداية حرب باردة جديدة يمثل الشرق الأوسط نقطة ارتكازها، أم هي سعياً روسياً لتحقيق مصالحها في إطار منضبط ودون تصعيد؟، وماذا عن المستقبل في ضوء هذه المستجدات؟
أولاً: تصاعد الاهتمام الروسي بالمنطقة ودوافعه:
رغم أن اهتمام روسيا بالمنطقة ليس بالجديد إلا أن مستوى هذا الاهتمام وآليات التحرك الروسي شهدت قفزة مؤخراً. ومن الواضح أن روسيا تؤسس لنفوذ روسي دائم وقوي، ودور فاعل في الشرق الأوسط يحمي أمنها ومصالحها. ويمكن تفسير ذلك في ضوء مجموعة من الاعتبارات.
أولها، العوامل الجيواستراتيجية المتمثلة في اتجاه روسيا إلى تعزيز تواجدها في البحر الأسود والبحر المتوسط بعد ضم شبه جزيرة القرم لروسيا عام 2014م. وهو ما تضمنته العقيدة العسكرية البحرية الجديدة التي صدق عليها الرئيس بوتين في 26 يوليو 2015م، حيث نصت الوثيقة على ضمان وجود عسكري بحري "دائم" لروسيا في البحر المتوسط، وتعزيز المواقع الاستراتيجية لروسيا في البحر الأسود، رداً على تحركات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود على خلفية الأزمة الأوكرانية. وقد عظم هذا من أهمية المنطقة بصفة عامة وسوريا خاصة في الأولويات الروسية.
ثانيها، إلحاح التهديد الذي يمثله تصاعد الإرهاب في المنطقة والذي طال روسيا وفضائها السوفيتي السابق. وتعتبر روسيا أن تمدد تنظيم داعش تهديد مباشر لأمنها القومى خاصة بعد أن أعلن تنظيم "إمارة القوقاز الإسلامية"، الذي أسسه دوكو عمروف عام 2007 مبايعته لتنظيم "داعش" في 21 يونيو 2015، وذلك من خلال شريط فيديو بث على شبكة الإنترنت حمل عنوان "بيان من مجاهدي ولاية القوقاز ببيعة خليفة المسلمين أبي بكر البغدادي وانضمامهم إلى الدولة الإسلامية". ومن المعروف أن تنظيم إمارة القوقاز قد تبنى في السنوات الأخيرة هجمات عديدة داخل روسيا من أبرزها الهجوم على مطار دوموديدوفو في موسكو الذي أوقع 37 قتيلاً عام 2011م، والهجوم المزدوج في فولجوجراد بجنوب روسيا الذي أسفر عن سقوط 34 قتيلاً عام 2013م، واستهداف دورية عسكرية روسية في منطقة سونجا في أنجوشيا في يونيو 2015م، ومهاجمة القاعدة الجوية الروسية في قيرجيزستان في يوليو 2015م. ورغم تصفية الأمراء المتعاقبين على إمارة القوقاز، دوكو عمروف ثم على أصحاب كيبيكوف ومؤخراً محمد سليمانوف وذراعه اليمنى كميل سعيدوف في أغسطس 2015م، فإن أعداد المنخرطين في صفوف داعش من روسيا وجوارها في آسيا الوسطى استمر في التزايد وقفز إلى ما يزيد عن 7000 مقاتل منهم ما يقرب من ثلاثة آلاف من روسيا وحدها.
ويضم القوقاز الروسي (القوقاز الشمالي) عدة جمهوريات روسية وهي داغستان والشيشان وأنجوشيا وقبردينو، إضافة إلى كابيكا. ويتميز المتطرفون من القوقاز بقدرات قتالية عالية وهم الأكثر شراسة بالمقارنة بنظرائهم من الجنسيات الأخرى، بسبب خبرتهم من الحروب المتتالية التي شاركوا فيها ضد الجيش الروسي، فضلاً عن مشاركة بعض عناصرهم في العمليات العسكرية في أفغانستان وباكستان والعراق. وعادة ما يكلفون في إطار داعش بعمليات الخطف والتصفية الجسدية والتعذيب ضد الفصائل السورية المعارضة للتنظيم. كما إنهم يحتلون مواقع مهمة ضمن صفوف التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، حيث شغل أبوعمر الشيشاني قيادة العمليات العسكرية لـداعش في سوريا قبل أن تتردد أنباء عن مقتله، كما تولى أمير مسلم أبو الوليد قيادة تنظيم "جند الشام". ويقود سيف الله الشيشاني تنظيم "مجاهدو القوقاز والشام"، وصلاح الدين الشيشاني "جيش المهاجرين والأنصار". ويعد الأخير من أبرز الكتائب المتجانسة التي تضم القوميات الناطقة بالروسية، وهو أول وأقوى التنظيمات العسكرية القوقازية في سوريا، وتم تشكيله بقيادة أبوعمر الشيشاني في سبتمبر 2012م، وركز على استهداف القواعد العسكرية للنظام السوري في حلب قبل أن يقوم أبوعمر الشيشاني بمبايعة أبوبكر البغدادي وينضم إلى داعش.
وفي 10 اكتوبر 2015 م، أشارت صحيفة "الأندبندنت"البريطانية إلى أن بعض التشكيلات الشيشانية المرتبطة بما يطلق عليه "المعارضة المعتدلة" وغير المرتبطة بداعش، أعلنت عزمها القيام بعمليات هجومية ضد روسيا. الأمر الذي يفسر الانتقادات التي وجهها الغرب للغارات الجوية الروسية على مواقع "المعتدلين". وقد أعلنت قيادة الجيش السوري في 14 سبتمبر 2015م، القضاء على مسلحين من مجموعة "جند القوقاز" في جبل النبي يونس، ولهذه المجموعة حسب معطيات الجيش السوري قواعد في قرية سالمة ومدينة ربيعة وجبل الأكراد بالقرب من الحدود التركية بمحافظة اللاذقية، إلى جانب مجموعة شيشانية أخرى ترابط بالقرب من اللاذقية وهي "أنصار الشام". لقد أصبحت سوريا ساحة مواجهة أخرى بين روسيا والعناصر الشيشانية المتطرفة التي فرت من روسيا ولا تريد لها الأخيرة العودة إليها.
من ناحية أخرى، أعلن تنظيم داعش روسيا عدو له، وهدد "باحتلال الكرملين وتحرير روسيا والشيشان والقوقاز وأخذ الروسيات سبايا". وأطلق قناة ترويجية تحت اسم "فرات ميديا" ناطقة باللغة الروسية على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، بهدف تجنيد مزيد من المقاتلين من القوقاز وروسيا وجوارها، وافتتح مركزين جديدين لتدريب الانتحاريين في القوقاز. يضاف إلى هذا خطورة داعش على سوق الطاقة الذي يعد قطاع مفصلي ورئيسي للأمن القومي الروسي بمعناه الواسع حيث تعتمد داعش على النفط كمصدر للتمويل من خلال قيامها ببيع النفط المنتج في العراق وسوريا وليبيا في السوق السوداء، ووصلت عائدات التنظيم من إنتاج وبيع النفط إلى 3 ملايين دولار يومياً.
في ضوء ما تقدم، تعتبر روسيا القضاء على تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية في سوريا التحدي الرئيسي والأهم. وقد أعلنت موسكو صراحة عن عزمها الحيلولة دون عودة هؤلاء إلى روسيا وجوارها، والقضاء عليهم في المناطق الحاضنة لهم واستئصال الإرهاب من جذوره في منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل حزام روسيا الجنوبي الغربي لها، ومنها يأتي الدعم للإرهاب في الداخل الروسي. هذا إلى جانب وقف تدفق الدماء الجديدة إلى التنظيم من خلال إحكام السيطرة على الأعداد المتزايدة من مواقع الأنترنت ومراكز تجنيد الشباب التي يجري من خلالها تجنيد مواطنين روس وأجانب للمشاركة في العمليات الإرهابية تحت دعوى "الجهاد". وكان أمين عام منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم (روسيا، بيلوروسيا، أرمينيا، كازاخستان وطاجكستان وقرجيزستان)، قد أكد قلق دول المنظمة إزاء الزيادة الحادة في عدد مواقع الإنترنت ذات التوجه المتطرف خاصة في منطقة آسيا الوسطى، وأن أجهزة المنظمة رصدت 57 ألف موقع إنترنت تعمل على تجنيد مقاتلين للمنظمات المتطرفة ومنها تنظيم "داعش"، قامت بحجب أكثر من 50 ألف منها.
ثالثها، إن الأمن القومي الروسي بأبعاده الاقتصادية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمنطقة نظراً لحيوية دور دول المنطقة، خاصة المملكة العربية السعودية، في إطار منظمة أوبك في تحديد أسعار النفط. ومن المعروف أن أكثر من 55% من إيرادات الموازنة الروسية تأتى من عوائد صادرات النفط والغاز، وتأثر الاقتصاد الروسى كثيراً بالانخفاض الحاد فى أسعار النفط بعد رفض أوبك خفض حجم الإنتاج لتحسين الأسعار. وقد أشار الرئيس بوتين صراحة في خطابه السنوي أمام البرلمان الروسي بمجلسيه يوم 3 ديسمبر 2015 م، إلى أن "تراجع أسعار النفط أدى إلى مصاعب اقتصادية انعكست على حياة المواطن العادي". وقد ضاعف هذا من أهمية المنطقة لدى موسكو إنطلاقاً من ضرورة التنسيق فيما يتعلق بأسعار النفط، نظراً لدور قطاع الطاقة في تعزيز قدراتها المتنامية وضمان استقرارها الاقتصادي ومن ثم السياسي، وتوفير الموارد اللازمة لدور فاعل دولياً وإقليمياً. وعلى سبيل المثال، تتحمل روسيا نفقات ضرباتها العسكرية في سوريا بالكامل، والتي تبلغ 4,2 مليون دولار يومياً، وما كان لروسيا أن تقدم على مثل هذه الخطوة دون اقتصاد قوي.
إن قطاع الطاقة قطاع قائد لعلاقات روسيا الخارجية، وهو أشبه بالبوصلة التي توجه السياسة الروسية وتحكم حركتها. وذلك بالنظر لكونه دعامة أساسية للأمن القومي الروسي بمفهومه الشامل، والعمود الفقري للاقتصاد الروسي، وعليه تُعقد الآمال في مزيد من النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي في المستقبل. فلا مستقبل حقيقي لروسيا دون تأمين حد أدنى لأسعار النفط توفر روسيا من خلاله عوائد تكفي لتطوير باقي قطاعات الإنتاج وتحقق التحسن المنشود في مستوى دخل المواطن الروسي والارتقاء بالخدمات المختلفة المقدمة له من صحة وتعليم ومواصلات وغيرها. وتضمن به أيضاً استقلالية قرارها الخارجي وتطوير قدراتها الدفاعية وامتلاك قدرة على التأثير وممارسة دور فاعل على الصعيدين الدولي والإقليمي. ومن ثم تعول روسيا كثيراً على التنسيق والتعاون مع المملكة العربية السعودية التي تحتل المرتبة الثانية عالميا في حجم الإنتاج بعد روسيا والأولى في تصدير النفط، من أجل الحفاظ على استقرار السوق النفطية وضمان حد أدنى لأسعار النفط وذلك من خلال التحكم في حجم الإنتاج.
رابعها، التغير في ميزان القوى الدولي مع تصاعد القدرات الروسية والتراجع النسبي في القدرات الأمريكية. فالنظام الدولي قد تغير بالفعل باتجاه التعددية، وعودة روسيا كقوة فاعلة أصبح واقعاً نتيجة النمو المضطرد في قدراتها الشاملة على مدى العقد ونصف الماضيين. وقد كشفت الأزمة الأوكرانية التي بدأت في نوفمبر من العام 2013 عن عمق التناقض في المصالح بين موسكو، القوة العائدة، التي تعمل جاهدة على استعادة نفوذها وتأثيرها الدولي والإقليمي، وترفض أن تكون مجرد ظل أو تابع للولايات المتحدة، ولم تعد تقبل النظام الأحادي القطبية التي تنفرد واشنطن بإدارة قضاياه على الصعيدين الدولي والإقليمي وتسعى مع قوى دولية وإقليمية أخرى لتغييره، والولايات المتحدة التي لا تتصور تراجعها عن استراتيجيتها العالمية، ومكانة القائد في النظام الدولي، وترفض أن تشاركها أي قوة أخرى مواطن القوة والتأثير به. وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى إدارة جماعية للشأن الدولي والإقليمي، لا تقبل الولايات المتحدة إلا بإنفرادها كقطب أوحد.
وتتحرك روسيا في إطار ظهير لها من الدول التى تتطلع لعالم أكثر توازناً.فهناك ما يشبه "ثورة عالمية" تقودها روسيا ومجموعة دول منظمة شنجهاى والبريكس ضد الهيمنة الأمريكية، انعكست في تأسيس بنك بريكس للتنمية لتمويل المشاريع التنموية في الدول الأعضاء وصندوق الاحتياطي النقدي لمواجهة آثار التقلبات في أسواق المال، بهدف تطوير مؤسسات بديلة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ونظام بريتون وودز الاقتصادي الدولي الذي وضعته الولايات المتحدة لدعم هيمنتها على أوروبا والعالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويمكن تفهم دور روسيا في المنطقة في إطار هذا الحراك العالمي لروسيا وجناحيها البريكس و شنجهاى نحو نظام عالمي جديد يأخذ مصالح كل القوى الكبرى بعين الاعتبار. ولا يمكن اعتبار ما يحدث حرب باردة جديدة لغياب الأساس الأيديولوجي الذي كانت تقوم عليه الحرب الباردة، ولكنه أشبه بالحرب الباردة في ضوء التناقض الحاد في المصالح بين الطرفين، وكون التوتر هو السمة الغالبة على العلاقات الروسية الأمريكية.
ثانياً: أبعاد الدور الروسي في المنطقة ومستقبله:
في ضوء المحددات والأولويات السابقة فإن الحركة الروسية في المنطقة تتخذ مجموعة من الأبعاد والتوجهات المتزامنة، التي تمثل مسارات متوازية تسعى موسكو من خلالها إلى تحقيق أهدافها ومصالحها.
أولها، تكثيف الوجود العسكري الروسي وكذلك الضربات الروسية على معاقل الإرهاب في سوريا حتى القضاء التام عليها. فالدور الروسى ليس فقط تحريكي لعملية التسوية في سوريا ولكنه دور تغييري يضع القضاء التام على العناصر الإرهابية هدفاً له، وهو أمر سيستغرق سنوات ويحتاج إلى تنسيق وتعاون مع القوى الدولية والإقليمية المعنية بالملف السوري. وقد أشار الرئيس بوتين صراحة خلال قيامه بمنح جوائز للعسكريين الروس يوم 3 ديسمبر إلى الخطر الذي يشكله الإرهابيون العائدون إلى روسيا بعد مشاركتهم في القتال إلى جانب التنظيمات المتطرفة في سوريا. وأن مهمة العسكريين الروس في سوريا "ليس مساعدة الشعب السوري فحسب، وإنما حماية المصالح الروسية والمواطنين الروس" من خلال "عدم السماح بعودة الإرهاب إلى روسيا".
ووفقاً لبيانات وزارة الدفاع الروسية قامت روسيا منذ بدء الغارات الروسية في 30 سبتمبر وحتى منتصف نوفمبر بأكثر من 2289 غارة جوية، وأطلقت 44 صاروخًا مجنحًا من السفن الروسية في بحر قزوين إلى أهداف في سوريا مباشرة عبر أجواء إيران والعراق بالتنسيق مع الدولتين باستخدام منظومة "كاليبر إن كا". وقد نجحت هذه الغارات في تدمير 4111 موقعاً لداعش والنصرة، من بينها 562 مركز قيادة و64 قاعدة تدريب للإرهابيين و54 ورشة لإنتاج الأسلحة والذخيرة، إلى جانب معدات وآلات عسكرية ونقاط ارتكاز عدة، تمثل في مجموعها معظم البنى التحتية التابعة للتنظيمات الإرهابية. كما نجحت الغارات الروسية في تدمير 32 مركزا و11 معملا لتكرير النفط و23 محطة ضخ، بالإضافة إلى تدمير 1080 شاحنة تابعة لـداعش كانت تقل النفط من سوريا باتجاه تركيا لتكريره وبيعه بشكل غير شرعي.
وقد مثلت أزمة إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية وما أعقبها من تدهور حاد في العلاقات بين البلدين، فرصة لموسكو لتعزيز تواجدها العسكري بالمنطقة. وقامت على الفور بتحريك الطراد "موسكو" المزود بمنظومة صواريخ "فورت" المضادة للطائرات (المماثلة لمنظومة "إس-300") ليستقر في ساحل اللاذقية. ونشر منظومة إس-400 في قاعدة حميميم الجوية بسوريا، ومن المعروف أنها الأكثر تطورا في العالم، وقادرة على صد جميع وسائل الهجوم الجوي المعاصرة، بما في ذلك الوسائل الخاضعة للتطوير، وتدمير كافة أنواع الأهداف الجوية. وحذرت موسكو من أن جميع الأهداف التي ستمثل خطرا محتملا علي قواتها الجوية وقاذفاتها سيتم تدميرها.
وستظل سوريا هي نقطة الارتكاز الأساسية لروسيا في المنطقة وليس من المنتظر أن تتدخل روسيا في أزمات أخرى على شاكلة تدخلها في سوريا في المستقبل المنظور. فرغم إن العراق أحد شركاء روسيا في حملتها ضد الإرهاب في سوريا، فإن الأمر يقف عند حدود التنسيق الأمنى والاستخباراتي بين البلدين دون ضربات روسية في الأراضى العراقية، والتي لن تقبل بها الولايات المتحدة باعتبارها الفاعل الأهم في العراق. وكذلك يصعب تصور تدخل روسيا عسكرياً في ليبيا في ضوء الضبابية الشديدة في الحالة الليبية وعدم وجود طرف شرعي قوي يمكن أن يستدعى التدخل الروسي بشكل قانوني وفقاً لوجهة النظر الروسية. إلا أن نجاح الحملة الروسية في سوريا وإضعاف تنظيم داعش بها سيكون له تداعيات مباشرة على تراجع التنظيم في العراق وليبيا ومصر وغيرها.
ثانيها، شراكات روسية متصاعدة مع إيران ومصر. فهناك اتجاه واضح لدى موسكو لتعميق تعاونها الاستراتيجي مع إيران، واستقطاب مصر كشريك رئيسي وهام في المنطقة. وهو ما انعكس بوضوح في إصرار روسيا على اشراك الدولتين، إيران ومصر، في مفاوضات فيينا بشأن الأزمة السورية، وفي زيارة الرئيس بوتين لطهران يوم 23 نوفمبر والتي كانت الأولى منذ عام 2007 م، وجاءت على هامش اجتماع القمة الثالثة لمنتدى الدول المصدرة للغاز. وتم خلالها التأكيد على استمرار التعاون بين البلدين في المجال النووي وإنشاء محطات نووية جديدة فيها، وتوقيع سبع اتفاقيات ومذكرات تفاهم للتعاون الثنائي في سياق توطيد وترسيخ التعاون بين البلدين. كما التقى الرئيس بوتين بخامنئي وقام بإهدائه نسخة أثرية من المصحف الشريف.
على صعيد أخر، تم تجاوز أزمة الطائرة الروسية التي تم تفجيرها فوق سيناء يوم 31 أكتوبر وراح ضحيتها 224 جميعهم تقريباً من المواطنين الروس، وما أعقب ذلك من سلسلة قرارات روسية تضمنت إجلاء السياح الروس في مصر والبالغ عددهم 90 ألف سائح، ووقف رحلات شركة مصر للطيران إلى روسيا خوفاً من مزيد من الأعمال الإرهابية التي قد تستهدف المواطنين الروس، مما أضر بمصر بالنظر إلى كون روسيا أكبر دولة مصدرة للسياحة لها، وكون السياحة أحد أهم مصادر الدخل القومي والعملة الصعبة وتتيح فرص التشغيل لملايين المصريين على نحو مباشر وغير مباشر. وقد مثل توقيع العقد الخاص ببناء أول محطة للطاقة النووية بتكنولوجيا روسية في مصر إعادة إطلاق للعلاقات المصرية الروسية. وقد رأى سيرجى كيريينكو رئيس شركة "روس أتوم" الروسية المنفذة للمشروع أن العقد سوف يربط البلدين لقرن قادم من الزمان حيث يتضمن المشروع بناء أربعة وحدات على مدى 10 – 12 سنة، وستعمل الوحدات لمدة 80 عاماً، وقدمت روسيا دعم مالي لمصر لبناء المحطة النووية في صورة قرض يسدد على مدى 35 عاماً. أعقب ذلك زيارة وزير الدفاع الروسي لمصر في نوفمبر 2015 م، على رأس وفد ضم 26 من القيادات المعنية بالتعاون الاستراتيجي والعسكري التقني بين البلدين. وهذه هي الزيارة الثانية لوزير الدفاع الروسي في غضون عامين، الأمر الذي يدل على أن مرحلة جديدة يتم تدشينها في العلاقة بين البلدين.
ثالثها، تدهور حاد وسريع في العلاقات الروسية التركية على خلفية إسقاط أنقرة للطائرة الحربية الروسية. ففي الوقت الذي تنمو فيه الشراكة الروسية مع إيران ومصر، بلغت العلاقات مع تركيا أقصى درجات الشك والتدني. ورغم تأكيد أنقرة أن إسقاط الطائرة الروسية كان دفاعاً عن سيادة تركيا على حدودها، فإن موسكو رأت أن تركيا نصبت "كميناً" للطائرة الروسية وأسقطتها عمداً، وقامت على إثر ذلك باتخاذ مجموعة من الإجراءات العقابية والجوابية تضمنت إجراءات اقتصادية موجعة لتركيا. وإجراءات عسكرية أكثر حسماً بدأت بقطع كل الاتصالات العسكرية بين الجانبين ووقف الخط الساخن بينهما. ويصعب تصور العدول عن هذه الاجراءات في المدى المنظور خاصة بعد تأكيد الرئيس بوتين في خطابه أمام البرلمان الروسي بمجلسيه يوم 3 ديسمبر أن الرد الروسي لن يقتصر على الإجراءات الاقتصادية. ولا يعني هذا بالضرورة إعلان الحرب على تركيا، وأن يكون هذا التصعيد مقدمة "لحرب عالمية ثالثة" كما يتخوف البعض، فالأطراف الدولية والإقليمية المختلفة تأخذ هذا في الحسبان، ولذا جاءت دعوات مختلف الأطراف إلى التهدئة وتجنب التصعيد، كما أن رد الفعل الروسي وإن جاء حاسماً إلا أنه منضبطاً للغاية، فهو موجع دون تهور. إن "حرب عالمية ثالثة" تعني فناء العالم كله، وليس فيها منتصر أو مهزوم، ولا يمكن تصور أن تُقدم دولة على اتخاذ قرار بفناءها وفناء البشرية.
رابعها، محاولات للتفاهم مع دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، تتمحور حول القضية السورية وأسعار النفط، انطلاقاً من وجود تحديات خطيرة مشتركة تتهدد روسيا ودول الخليج تتمثل في تصاعد خطر الإرهاب. وتحاول موسكو إعادة طرح رؤيتها التي تقوم على تطوير نظامًا للأمن الإقليمي باعتباره الصيغة الأمثل لضمان أمن المنطقة من وجهة النظر الروسية، وذلك على غرار تجارب آسيوية مماثلة. إلا أن التباعد حول ماهية التهديدات الأكثر خطورة، وكون إيران تهديد أم جار، ومدى القبول ولو مرحلياً بالأسد في سوريا، والتحديد الدقيق للتنظيمات التي تعد إرهابية والتي ليست كذلك، مازال قائما، ومازالت هذه القضايا موضع جدل وبحث بين الجانبين الروسي والسعودي، حيث تتباين الرؤى والتوجهات في هذا الإطار.
إن الدور الروسي في المنطقة يزداد قوة وتأثير بمرور الوقت، ويمزج بوضوح بين القوة الصلبة والناعمة، وبين الضربات العسكرية والأدوات الدبلوماسية، ويضع التحالف القائم مع سوريا وإيران في القلب، ويسعى لاستقطاب مصر، والإبقاء على العراق ضمن تحالفات روسيا في المنطقة. الأمر الذي ينذر باستقطابات وتوترات إقليمية في المدى المنظور خاصة مع تدهور العلاقات الروسية التركية، وتعثر التفاهمات الروسية السعودية بحجر بشار الأسد العثرة.