array(1) { [0]=> object(stdClass)#13112 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 198

آفاق علاقة مثمرة بين دول الخليج والصين تساهم في التنمية وإرساء الاستقرار والأمن

الأربعاء، 29 أيار 2024

 

  • منذ نهاية القرن الخامس عشر (١٤٩٢م)، بداية الاكتشافات الجغرافية الكبرى، يؤرخ لنشوء النظام الدولي الحديث، سابقاً لظهور الدولة القومية الحديثة، عقب صلح وستفاليا ١٦٤٨م، الذي أنهى الحروب الدينية في أوروبا. من حينها والعالم في حركة تاريخية "دياليكتية" عنيفة، بين القوى الكبرى، بهدف السيطرة على مقدرات العالم، طلباً لتبوؤ مكانة الهيمنة الكونية الرفيعة. لقد ذهب عصر الامبراطوريات الأممية، التي كانت تستمد قوتها من أفكار فلسفية أو دعوات دينية أو خلفيات ثقافية، أو حتى طموحات شخصية، إلى تطوير أنظمة دولية حديثة، تقوم أساساً على أيدولوجيات سياسية وطموحات قومية توسعية، بغرض التمدد الاستعماري، بحثاً عن الأسواق والمواد الخام، لإدارة عجلة النهضة الصناعية في الغرب (أوروبا) .. وإشباع شره رأس المال لمزيدٍ من الثروة والنفوذ، وإحياء تاريخ تليد لامبراطوريات تاريخية قديمة، مثل الامبراطورية الرومانية.

القوى العظمى الحديثة

بدايةً من نهاية القرن الخامس عشر، عند إخراج العرب من شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس)، وبدء عصر الاكتشافات الجغرافية الحديثة، التي قادت لاكتشاف العالم الجديد في الأمريكيتين، ولاحقاً استراليا، بدأ تاريخياً نشوء الأنظمة الدولية الحديثة، حيث تتصارع الدول الاستعمارية الكبرى على المكانة الدولية المهيمنة، لتشكل النظام الدولي، الذي يمكنها من السيطرة الكونية الواسعة على مقدرات العالم ومصير السلام فيه.

بدأت حقبة الأنظمة الدولية الحديثة، من شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، بخطوة الاكتشافات الجغرافية المبهرة، بدءًا باكتشاف العالم الجديد في الأمريكيتين واستراليا وأقصى المناطق الدافئة في أقصى جنوب المحيط الهادئ. وكانت الامبراطورية البرتغالية، من أكثر الامبراطوريات  الحديثة انتشاراً، وأطولها عمراً (١٤١٥ – ١٩٩٩م)، امتدت من البرازيل على الساحل الشرقي (الجنوبي) للمحيط الأطلسي، في مقابل الساحل الأوسط الإفريقي للمحيط الأطلسي، غرباً. ومن الساحل الشرقي للمحيط الهندي في الوسط الإفريقي  ، حتى القرن الإفريقي   وجنوب البحر الأحمر وبحر العرب، مع احتلال سواحل شبه القارة الهندية، بامتداد الهند الصينية، حتى معظم الساحل الغربي للصين في حوض بحر الصين، حتى جنوب اليابان والأرخبيل الإندونيسي مع غينيا الجديدة. باختصار: الامبراطورية البرتغالية، كانت تتحكم في منافذ البحار، من جبل طارق، ورأس الرجاء الصالح وباب المندب ومدخل الخليج العربي وسنغافورة ومنافذ بحر الصين الجنوبي.

لكن أوسع الامبراطوريات  الاستعمارية نفوذًا وانتشارًا، حتى أنها غطت العالم وقديمه، وأنشأت نظاماً دولياً صارماً فرضت فيه سيطرتها الفعلية وهيمنتها على العالم، أمتد لمئة سنة كاملة، كانت الامبراطورية البريطانية، التي لا تغيب عنها الشمس، التي حكمت العالم بقبضة حديدية محكمة من خلال نظام دولي صارم عرف بالعهد البريطاني ( Pax Brittanica  ١٨١٥-١٩١٤م).  إلا أن قبضة بريطانيا على النظام الدولي تزعزعت بفعل اندلاع الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٩م). لكن العهد البريطاني ظل متماسكاً لثلاثة عقود أخرى بقوة لكنها خائرة نسبياً، حتى انهار تمامًا، عقب الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥م).

الحروب الكونية الكبرى الحاسمة

العامل الأساس في تعاقب الأنظمة الدولية الحديثة، اندلاع الحروب الكبرى الحاسمة، التي تُسقط امبراطورية سائدة، لتحل محلها امبراطورية يافعة، تحكم العالم بنظام دولي تهيمن من خلاله على مقدرات العالم، لتسود فترة من الوقت، حتى تصاب بمتلازمة انهيار الامبراطوريات ، التي تتحكم في "دياليكتية" تعاقب الأنظمة الدولية الحديثة المتتالية. من أبرز هذه الحروب الكبرى الحاسمة التي قوّضت امبراطوريات استعمارية عظمى، واستبدلتها بأخرى معركة واترلو ( ١٨١٥م ) لتظهر بريطانيا بعهدها الجديد وتتوج سيدة العالم لقرن من الزمان، حتى تنشب الحرب العالمية الأولى ( ١٩١٤-١٩١٩م)، فيهتز عرش الهيمنة الكونية من تحتها، بسقوط العهد البريطاني المتين، ليظهر نظام دولي هش (عصبة الأمم ١٩١٩ – ١٩٣٩م) مبشراً بإرهاصات ظهور سيد جديد يحكم العالم، لم يأت أوانه بعد، حتى تسقط بريطانيا من عرش الهيمنة الكونية، بصورة نهائية، عقب الحرب الكونية الثانية ( ١٩٣٩-١٩٤٥م ) لتتبوأ ( الولايات المتحدة الأمريكية ) مكانة الهيمنة الكونية بنظام دولي جديد ( الأمم المتحدة، ١٩٤٥ إلى الآن ).  إلا أن السيادة الكاملة للولايات المتحدة على نظام الأمم المتحدة لم تتحقق إلا بسقوط نظام القطبية الثنائية، الذي كان يحكم العالم، عقب الحرب الكونية الثانية، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي ، من الداخل ودون حرب كونية، هذه المرة (٢٦ ديسمبر ١٩٩١م).

الولايات المتحدة بين العزلة والتوسع

الولايات المتحدة، منذ اكتمل توحيد إقليمها، بنهاية القرن التاسع عشر، عن طريق الحرب والشراء، لأراضٍ غنية وشاسعة، غرباً، تحتل الجزء الجنوبي الدافئ المعتدل من القارة الأمريكية الشمالية، وهي بين شد وجذب بين العزلة والتوسع. إقليم غني شاسع زاخر بالموارد الطبيعية معتدل المناخ يتمتع بحدود طبيعية منيعة، تفصله عن العالم القديم محيطات شاسعة، بطول آلاف الأميال من السواحل الدافئة القابلة للملاحة، طوال العام.

موقع استراتيجي تتوفر به إمكانات الاكتفاء الذاتي من الموارد الطبيعية اللازمة لإقامة امبراطورية غنية مكتفية ذاتياً، من الثروة والمواد الخام ومصادر الطاقة، تتوفر به سوق كبير، يتسع لنشاط اقتصادي متعدد وغني. مع مجال حيوي إقليمي شاسع، يمتد من أمريكا الوسطى نزولاً حتى القارة المتجمدة الجنوبية. إمكانات ذاتية، لم توفر لأي قوة كونية في التاريخ، أوجدت ثقافة انعزالية عميقة الجذور، ومؤسسات حكم لجمهورية فتية في اتحاد فدرالي منيع.  

لكن، بالرغم من ثراء الميزة التنافسية لوضعية ثقافة العزلة القارية للولايات المتحدة، التي تمكنها من إقامة دولة قوية غنية منيعة، مكتفية ذاتياً، مما كانت عليه الامبراطوريات  القديمة، التي تفتقر لتوفر المواد الخام والأسواق الخارجية، اللازمين لإقامة اقتصاد كوني متنوع وعميق، يغطي الكرة الأرضية. بالإضافة إلى الإمكانات الواسعة والغنية، للنفوذ السياسي والانتشار الأممي، الذي كان الدافع وراء إقامة الامبراطوريات الكبرى عبر التاريخ. ولا ننسى هنا البعد الاستراتيجي الأمني، للدفاع عن كل المكتسبات الاستراتيجية، التي يوفرها إقليم الولايات المتحدة.  كل تلك العوامل الاقتصادية والاستراتيجية والأمنية شكلت عامل إغراء لمؤسسات صناعة القرار في واشنطن للتوسع والتدخل في شؤون العالم القديم، طلباً للهيمنة الكونية على مقدرات كوكب الأرض بأسره.

لكن، المد والجزر بين خياري العزلة والتوسع، الذي ساد مؤسسات صناعة القرار في واشنطن، منذ تحقيق الوحدة الفيدرالية القوية بين الولايات الأمريكية، عقب الحرب الأهلية (١٨٦١ – ١٨٦٥م)، في البر الأمريكي الشاسع الغني الدافئ، كان التوجه لتبني خيار العزلة، طاغياً على استراتيجية التوسع. حتى اليوم، تيار العزلة مازال قوياً، مقابل تيار الانخراط النشط في الشؤون الدولية، بعيداً عن المجال الحيوي للولايات المتحدة ضمن جغرافية العالم الجديد. إلا أن تيار التوسع تجاه التدخل في الشأن العالمي، كثيراً ما يستيقظ مدفوعاً بالهاجس الأمني أحياناً، وبإغراء النفوذ الكوني، أحياناً أخرى.

في كل الأحوال يظل التدخل الأمريكي في مسرح السياسة الدولية متحفظاً، في الغالب الأعم، عنه من الاندفاع تجاه التدخل على مسرح السياسة الدولية، عدا في حالات الضرورة، التي تتطلبها مقتضيات الأمن القومي، التي تتجاوز المجال الحيوي في العالم الجديد، وصولاً إلى العمق الاستراتيجي للعالم القديم، بعرض ما يفصلهما من محيطات شاسعة، تفصل بين تكتلات اليابسة للعالمين القديم والجديد.

لكن تظل الولايات المتحدة، خاصة في أوقات الاستقرار التي تسود النظام الدولي، تميل إلى العزلة أكثر من الانخراط في الشأن الدولي. هذا ما يجعلها تختلف في النظرة الاستراتيجية للمكانة الكونية، التي قد ترغب في الاستحواذ عليها، إلا أنها تنفر من الانجذاب لبريقها.

مشكلة الولايات المتحدة، في نظرتها لمكانة الهيمنة الكونية، ميلها للتمتع بامتيازاتها وبخلها في دفع تكلفتها. القوة الكونية، التي تتبوأ مكانة الهيمنة الكونية، عليها أن تكون مستعدة لدفع تكلفتها، حتى تستحق بجدارة التمتع بامتيازاتها. في هذا تختلف الولايات المتحدة، عن أكثر الامبراطوريات التي تعاقبت على النظم الدولية الحديثة، مثل بريطانيا العظمى.

بريطانيا العظمى، طوال قرن من الزمان كانت تدفع تكلفة الحفاظ على العهد البريطاني بسخاء، للحفاظ عليه كأهم أصول هيمنتها الكونية لتظل سيدة العالم، التي لا تغيب عنها الشمس. أي اختبار لمكانتها الدولية، مهما كان ضعيفاً وهامشياً، كانت لندن لا تستهين به، وتسارع لإخماده، بقوة وحسم. في حربي البوير الأولى (١٨٨٠-١٨٨١م) والثانية (١٨٩٩-١٩٠٢م) لم تتردد لندن في قمع الثورات التي قامت ضد الحكم البريطاني في جنوب إفريقيا، واستعادة الحكم البريطاني إليها، وذلك من أجل الإبقاء على السيطرة البريطانية على خطوط الملاحة الدولية، التي كان من أهمها رأس الرجاء الصالح.

هذه الصرامة في مواجهة أي تمرد محلي للحكم البريطاني، فيه تحدٍ لمكانة الهيمنة الكونية للندن، مستمر إلى الآن. في ثمانينات القرن الماضي أرسلت بريطانيا أسطولها البحري، بعد أن شارفت على إحالته للتقاعد، لاستعادة جزر الفوكلاند، التي احتلتها الأرجنتين، لا لشيء سوى الحفاظ على التراث الاستعماري الطويل، الذي يعتبره الإنجليز رمز لكبريائهم الوطني، في الوقت الذي كانت جزر الفوكلاند الفقيرة على بعد آلاف الأميال من الجزر البريطانية، يقطنها بضع مئات من الرعاة من رعايا التاج البريطاني. نفس العقلية الاستعمارية، التي تميز تاريخياً حقبة العهد البريطاني، وراء تمسك التاج البريطاني بمواقع استراتيجية حساسة حول العالم، مثل مستعمرة جبل طارق.

هذا التوجه نحو الإبقاء على جذوة الثقافة التوسعية لبريطانيا العظمى، حتى بعد زوال إرثها التوسعي الاستعماري، لا يتوفر للولايات الأمريكية، حتى بعد أن قُدمت لها مكانة الهيمنة الكونية، على طبقٍ من ذهب، بسبب انهيار عدوها اللدود (الاتحاد السوفييتي)، من داخله دون قتال.

الولايات المتحدة: استراتيجية التدخل المؤقت الحذر

كما رأينا: الولايات المتحدة تميل، في إدارة سياستها الخارجية، إلى العزلة، أكثر من ميلها للتدخل في الشأن الدولي، حتى عندما تفتح لها الأبواب مشرعةً للتدخل على مسرح السياسة الدولية، سواء هي من كانت بيدها مفاتيح التدخل .. أو تقدم لها المفاتيح، على طبقٍ من ذهب. الولايات المتحدة لو بيدها، وباختيارها أن يفصل بينها وبين العالم القديم جدار من نار، لاختارت العزلة عقيدة استراتيجية راسخة.

لكن مقتضيات الأمن القومي للولايات المتحدة تحتم على مؤسسات صناعة القرار في واشنطن، عدم الاستهانة بما يتطور من مواقف وأحداث على جانبي المحيطين الهادي والأطلسي، حتى لا تصل البوارج والغواصات الأجنبية، إلى سواحلها المطلة على المحيطين الأطلسي والهادي. بل أن هذا الخطر الاستراتيجي على أمنها، يظل ماثلًا، بتقدم وسائط الردع الاستراتيجي، العابر للقارات، ذات القوة التدميرية المتبادل المهلكة، التي يصعب من خلالها مواجهة خطرها الاستراتيجي بميكانية الردع الآلية، مهما كانت درجة دقتها والثقة في فاعليتها. في عصر الردع غير التقليدي لا يمكن تبني عقيدة الضربة النووية الأولى، دون المخاطرة برد العدو بضربة نووية ثانية، تقضي على أي تصور للانتصار، في أي مواجهة نووية، لأيٍ من طرفي معادلة توازن الرعب النووي.

لذا تاريخياً، نجد الولايات المتحدة تتخلى عن حذر استراتيجية العزلة، لتقدم على التعامل مع أيٍ من مظاهر عدم الاستقرار تتطور على تخوم العالم القديم، حتى لا يصل شرره المتطاير إلى حمى أمنها القومي المباشر، ضمن مجالها الحيوي في العالم الجديد. في الحرب العالمية الأولى تدخلت واشنطن، عندما اقترب شرر الحرب من حدود إقليمها، ثم ما لبثت أن عادت لعرينها، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، متخلية عن مشروعها الذي حددته في وصايا ويلسون الأربع عشرة لسلامٍ مستدام، في ظل نظام عصبة الأمم، الذي رفضت الانضمام إليه، بالرغم أنه من صنعها! في الحرب العالمية الثانية تكرر نفس "السيناريو"، لتتدخل هذه المرة، من أجل أن تبقى، لكن بحذر وعن بعد، قدر الإمكان، فكان أن أنشأت نظام الأمم المتحدة.

خاضت أمريكا حرباً باردة مع شريكها في نظام الأمم المتحدة، بسياسة خارجية حذرة، مع استعداد هذه المرة لدفع تكلفة سلام بارد، في ظل أجواء ساخنة. لكن، أيضاً: بحذر شديدٍ، وباستراتيجية احتواء مرنة، مع أكبر قدر من الحيطة، مستخدمة، بصورة أوسع وسائل أقل عنفاً، الدبلوماسية في مقدمتها، مع إمكانية استخدام خيار الحرب بالوكالة، أو المحدودة، على تخوم الحدود الفاصلة مع عدوها الاستراتيجي الأول في نظام الحرب الباردة (الاتحاد السوفييتي ). فكانت الحرب الكورية والحرب في فيتنام والمناوشات في منطقة الشرق الأوسط والحرب الدعائية الساخنة على الساحة الأوروبية، وبعد نهاية الحرب الباردة تجرأت أكثر على التدخل العنيف، لكن مع الحذر الشديد، كما هو حال تدخلها في أفغانستان والعراق وعن بعد، كما هو الحال في الصومال والسودان وليبيا. لكن كل ذلك ضمن الحدود الدنيا من التكلفة، وعائد متواضع من الامتيازات، من أجل الحفاظ على سلام باردٍ هشٍ بالغِ الحساسية والترقب.

استمر هذا الاقتراب الحذر قليل التكلفة متواضع العائد، حتى بعد أن انتهى عهد الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي ، فوجدت الولايات المتحدة نفسها أمام فرصة لا تعوض لتبوؤ مكانة الهيمنة الكونية، دون أن تضطر لخوض حرب في سبيل تحقيق ذلك .. وفي نفس الوقت وجدت نفسها أمام مسؤولية كونية، يصعب عليها دفع تكلفتها، رغم إغراء عائدها المجزئ. مع ذلك تمسكت الولايات المتحدة بأسس استراتيجيتها الأمنية الحذرة المترقبة البعيدة عن الاستفزاز، التدخل فقط عندما تتطور أحداث من شأنها أن تحدث تغيرات خطيرة لاستقرار النظام الدولي، والإخلال بالأمر الواقع، مهما بلغت هشاشته.  

دنج هيساو بينج: نظرية صيد الفئران

الصين بعد موت الزعيم ماوتسي تونغ (٩ سبتمبر ١٩٧٦م)، ومجيء الزعيم دنج هيساو بينج لرئاسة الحزب والدولة، بعد أن تمكن من التخلص مما سمي بعصابة الأربعة، واستتب له الحكم (١٩٧٨ -١٩٩٢م)، حدثت نقلة نوعية، في السياسة الداخلية والخارجية للصين. كان ملخص استراتيجية الزعيم دنج هيساو بينج للتحول في الصين، يرتكز في نظريته عن صيد الفئران. تتلخص هذه النظرية في مقولة: ليس هناك فرق أن يكون القط أسود أم أبيض، بل المهم القدرة على صيد الفئران.

بهذه النظرية يقضي الزعيم دنج هيساو بينج على المتغير الأيديولوجي، في إحداث التنمية المستدامة في الصين ويرسم خريطة الانفتاح على الخارج، بسياسة خارجية مرنة، بعيداً عن شعارات الأممية الشيوعية. مع الإبقاء على السيطرة المطلقة الحاسمة للحزب الشيوعي في الحكم وإدارة الدولة، لتنفتح الصين اقتصادياً على العالم، أخذاً بالنهج الرأسمالي، في المجال الاقتصادي.

الصين سياسياً وأيدلوجياً تبقى شيوعية، لكن اقتصادها يتحول إلى الرأسمالية. خليط سياسي اقتصادي، يتحدى كلاً من الرأسمالية والشيوعية، لتطوير تجربة مبتكرة للتنمية والنفوذ الخارجي، يسمح للصين بالعودة لسابق تاريخها الامبراطوري المجيد، وفي الوقت نفسه يحفز تنمية اقتصادية مستدامة، تستفيد من إمكانات الصين الطبيعية والبشرية، لتأسيس سوق كبير، يستوعب نشاط اقتصادي داخلي واسع، يجذب رؤوس أموال من الخارج، ويفتح مجالات واسعة من الصناعات التحويلة، لغزو الأسواق الخارجية، بما فيها أسواق المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.

الصين اختارت في عهد الزعيم دنج هيساو بينج، اقتراباً للتنمية، يختلف عن ذلك الذي سلكته روسيا وجمهوريات أوروبا الشرقية، وكذا مجموعة الدول المستقلة من الاتحاد السوفييتي  في آسيا الوسطى وحوض البحر الأسود ومنطقة البلقان. لم يكن التحول الديمقراطي، جذاباً للزعيم بينج، لكن الأكثر جاذبية بالنسبة له الرهان على فرس الرأسمالية الرابح (الاقتصاد)، بعبارة أخرى القط الماهر في اصطياد الفئران. هذا الخليط بين الشيوعية والرأسمالية، الذي قدمه الزعيم بينج، أثبت بعد نصف قرن، كما سبق أن وعد، قدرته على تحول الصين من قارة فقيرة شبه جائعة، إلى دولة عصرية متقدمة تحمل إمكانات المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية الرفيعة.

كما وعد الزعيم دنج هيساو بينج أنه في خلال نصف قرن، ستحدث نقلة نوعية في الصين، اقتصادية واجتماعية تحت زعامة الحزب الشيوعي، تجعل من الصين دولة عظمى قادرة على المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية. إنجاز لم تحققه دولة الاتحاد السوفييتي ، التي كانت في النصف الأول من نظام الأمم تتقاسم الهيمنة الكونية مع الولايات المتحدة، موارد نظام الأمم المتحدة. روسيا الاتحادية، ورثت تركة الاتحاد السوفييتي  الإقليمية والتكنولوجية والاستراتيجية، إلا أنها تخلت عن عقيدتها الشيوعية، سياسياً وأيدلوجياً، الأمر الذي انتهى بها في النهاية لفقدان الاثنين. لا هي، أي: روسيا تحولت لتصبح ديمقراطية على النمط الليبرالي الغربي، ولا أن تصبح رأسمالية، على النمط الليبرالي الغربي، على النمط، أيضاً، في الشأن الاقتصادي. بينما الصين نجحت في الاثنين أبقت على الشق السياسي من النظرية الشيوعية، وأحدثت التحول المرن للرأسمالية، في شق النظرية الليبرالية الاقتصادي.    

تحديات جيو سياسية لطموحات الصين الكونية

أخذ التوسع الصيني في سبر أغوار مسرح السياسة الدولية منهجاً غير تقليدي، عن ذلك الذي اتبعته قوى كبرى، سعياً وراء تبوؤ مكانة الهيمنة الكونية، والصراع من أجل تقلدها. الصين، وجدت نفسها أمام عملاق استراتيجي واقتصادي مرعب، تتواجد قواعده وترسانته الاستراتيجية الرادعة، على مد البصر، من مياه الصين الإقليمية. الولايات المتحدة لها قواعد عسكرية ضاربة في اليابان وتايوان والفلبين وغواصاتها النووية وبوارجها الحربية تجوب بحر الصين شماله وجنوبه، تتحكم في مداخل ومخارج الأسطولين التجاري والحربي الصيني، إلى أعالي البحار، شرقاً إلى المحيط الهادي، وجنوباً عن طريق مضيق ملقا، إلى المحيط الهندي ومنه إلى المحيط الأطلسي وشمالاً عن طريق البحر الأحمر والقرن الإفريقي   إلى البحر المتوسط وقلب العالم القديم الصناعي والاستراتيجي (أوروبا).

كما أن الولايات، وقت ظهور الصين الجديدة، لم تكن امبراطورية آيلة للسقوط، ولا امبراطورية عجوز أنهكتها تكلفة الحفاظ على مكانتها الكونية الرفيعة، كما هو حال التحول "الدياليكتيكي" من نظام دولي قائم إلى نظام دولي جديد. الصين في مواجهة تحديات طموحاتها الكونية، أمامها خصم كوني، يصعب إن لم يكن من المستحيل مواجهته استراتيجياً، أو حتى قبوله أي قوة كونية منافسة ناشئة مشاركتها له في اقتسام كعكة النظام الدولي القائم.

كان لابد للصين، في هذه الحالة، أن تفكر بصورة غير تقليدية خارج الصندوق، في أمرين مهمين من الناحية الاستراتيجية، حتى تستطيع أن تؤسّس لموضع قدم، تنطلق منه لتحقيق طموحاتها الكونية. الأول: كيف يمكنها الفكاك من الحصار الجغرافي المطبق عليها، إقليمياً. ثم ثانياً: الانطلاق نحو تجربتها حظها في فرض واقع طموحاتها الكونية، بأقل تكلفة ممكنة .. وبأكبر عائد ممكن.

الصين عليها أن تفك الحصار الإقليمي عليها من قبل الولايات المتحدة، ليس بعيداً عن مياهها الإقليمية. الصين في هذا تواجه مصاعب استراتيجية لا يستهان بها. في الشمال تقع اليابان عدو الصين التاريخي، التي لن تسمح للصين بأن تهدد أمنها القومي، مهما كان الثمن، وتجربة ثارات الحروب بينهما تاريخية، وأقربها احتلال اليابان للصين، في فترة ما بين الحربين الأولى والثانية. ثم في مواجهة السواحل الصينية، عبر مضيق تايوان، تقبع جزيرة تايوان عملاق اقتصادي وتكنولوجي يسيل له لعاب أي قوة كونية كبرى، بالذات الصين، التي تعتبرها تابعة لها، ولن تنفك عن المطالبة بها وإلحاقها بالبر الصيني، سلامًا أم حرباً. لكن المشكلة أن تايوان بها أكبر تواجد للولايات المتحدة في المنطقة، وواشنطن ملتزمة بالدفاع عنها كما هي ملتزمة بالدفاع عن اليابان، إلا أن واشنطن لا تتبنى نزعة تايوان الانفصالية، وتقر بتبعيتها للصين، لا الإلحاق بها عنوةً. وكلٌ من اليابان وتايوان تحولان دون الصين، والمرور الحر تجاه المحيط الهادي، شرقاً.

في جنوب بحر الصين، هناك فيتنام والفلبين، حليفتا الولايات المتحدة، بالنظر لأطماع الصين التوسعية في بحر الصين الجنوبي، وصولاً إلى المحيط الهندي عن طريق سنغافورة. هنا أيضاً تأخذ الولايات بحجة الدفاع عن حرية الملاحة في المنطقة، في تحدي لما تزعمه الصين بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، الذي بالإضافة إلى أهميته الاستراتيجية زاخرٌ بثروات طبيعية هائلة من مصادر طاقة أحفورية (نفط وغاز)، غنيٌ بمواد أولية وثروات معدنية زاخرة.  طبعاً لا ننسى في أقصى الجنوب قارة أستراليا، التي كانت مطمعاً لليابان في فترة ما بين الحربين، وتطلع إليها الصين، مجالاً لتوسعها في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، غير بعيد عما تحسبه مجالًا طبيعيًا لتوسعها وتمددها الحيويين. أيضاً الولايات المتحدة تحكم الحصار على الصين، من هذه الناحية، حيث باعت مؤخراً غواصات نووية لأستراليا، في إطار تشديد حصارها على الصين.

أذن: على الصين، أن تفك الحصار المفروض عليها من الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة غرب الباسفيك، لتنطلق بعد ذلك لتجربة حظها النظر في احتمالات تحقيق طموحاتها الكونية  

المارد الصيني في جلد دب ورأس ثعلب

 الصين عليها أن تفكر في طريقة غير تقليدية تواجه بها تحديات عزلتها الاستراتيجية، وكذا الخروج من هذه العزلة، إلى آفاق البحث عن فرص تواجدها كقوة استراتيجية واقتصادية على مسرح السياسية الدولية.

الصين يبدو أنه لا يروقها نهج التوسع الإقليمي العنيف، كما كان سلوك معظم القوى الكبرى السابقة لها التي كانت تعتمد على الوجود العسكري الواسع، سواءً الدائم أو المؤقت، خارج نطاق حدودها الإقليمية. حتى ضمن نطاق حدودها السياسية مع جيرانها أو حول نزاعاتها معهم حول ترسيم مناطق المياه الإقليمية والحد البحري للمياه الاقتصادية، نادراً ما تلجأ الصين للقوة، إلا في أضيق الحدود. مثلاً: في حالة الحرب مع فيتنام (١٧ فبراير – ١٦ مارس ١٩٧٩م) والمناوشات الحدودية مع الهند والصراع حول بعض الجزر مع الفلبين. جميعها كانت اشتباكات حدودية ضيقة، لا تهدد بنشوب حروبٍ واسعة. إلا أن الصين، كانت على المستوى السياسي، أكثر حزماً في الدفاع عن مجالها الإقليمي الحيوي، تجاه أي تهديد لها أو تغيير جذري في الأمر الواقع، من موقعها في مجلس الأمن. إلا في حالة تايوان فإن الصين تبدو مستعدة للذهاب إلى الحرب، إذا فشلت جهود إلحاق الجزيرة، بالبر الصيني.

الصين، إذن: لا تحبذ الأسلوب التقليدي للدول الكبرى في خدمة طموحاتها التوسعية، المعتمد على التواجد العسكري الدائم أو المؤقت، خارج حدود إقليمها. تفضل أكثر، استخدام إمكاناتها الاقتصادية وخبراتها التكنولوجية والفنية، في التواجد بأعالي البحار، في مناطق لوجستية حساسة، ذات أهمية استراتيجية لتوسعها الاقتصادي وحضورها المؤثر على مسرح السياسة الدولية.

الصين تستخدم معوناتها الاقتصادية، للدول الأخرى، عن طريق الاستثمار المباشر بالشراء للموانئ والمناطق الصناعية والمعالم السياحية والمطارات والسكك الحديدية والمناجم وحقول الطاقة ومصافي التكرير، وما إلى ذلك من الأصول الاقتصادية واللوجستية، دون التورط في التواجد العسكري المباشر  .. أو الانتشار في قواعد عسكرية خارج الحدود، تثير حفيظة القوى الوطنية في تلك المناطق  .. أو تقود لاستفزاز قوى كبرى سبق وأن تواجدت عسكرياً، في تلك المناطق.

المارد الصيني، في تسلله لإيجاد موطئ قدم له على مسرح السياسة الدولية، لا يخفي جبروت قوته الكامنة، بإمكاناتها الاقتصادية والاستراتيجية الهائلة، إلا أنه في نفس الوقت، يحرص على عدم الظهور بمظهر الرأسمالي الجشع الباحث عن فرص استثمارية مجزية وسريعة ساخنة، سرعان ما يسحبها بحثاً عن فرص استثمارية متاحة في منطقة أخرى من العالم.

الصين، في خلفية توسعها على مسرح السياسة الدولية، هناك إرث ثقافي وتاريخي بعيد النظر، ينظر لتطوير علاقات استراتيجية مستدامة، مع ثقافات وحضارات متنوعة (ليست غريبة ولا أجنبية عن ثقافات شعوب العالم الثالث)، خاصةً المنطقة العربية، تضمن استمرارية تفاعلها، ترسيخ استثمارات طويلة الأجل تحافظ على علاقات ودية، مع الوقت، لا تنال من الكبرياء الوطني المحلي للدول والشعوب التي تذهب إليها استثمارات الصين. اقتراب غير تقليدي للتنمية، غير ذلك الذي جرّبته شعوب العالم الثالث، مع الإرث الاستعماري لامبراطوريات الغرب، الزاخرة بعقد تاريخية تحمل قيم عنصرية مفعمة بثارات ثقافية ودينية، معششة في أعماق الضمير الجمعي لثقافات الغرب، ضد شعوب المشرق وثقافته.

علاقات عربية / صينية واعدة

لا ينسى الصينيون أن العرب، هم أول شعوب العالم، التي أخرجت الصين من العزلة التي فرضها عليها الغرب، بعد إعلان قيام جمهورية الصين الشعبية (١ أكتوبر ١٩٤٩م).  كانت أول إطلالة للصين على العالم، من خلال مؤتمر باندونج بإندونيسيا (١٨ أبريل ١٩٥٥ – ٢٤ مايو ١٩٥٥م)، الذي أعلن قيام مجموعة عدم الانحياز، وكانت الصين من أوائل الدول التي دعيت لحضور المؤتمر. كما أن الصين، لها تاريخ مميز مع العرب، في دعم حركات التحرر الوطني في البلدان العربية، ضد الاستعمار. وكان للصين، دورٌ بارزٌ في تأييد القضية الفلسطينية، يكفي هنا مقارنة الصين، بالدور الذي لعبته القوى الاستعمارية، التي تعاقبت على الأنظمة الدولية الحديثة، من عصبة الأمم إلى نظام الأمم المتحدة، في تكريسها لواقع الاستعمار ودعمها لإسرائيل.

ثم أن هناك فرص واعدة لعلاقات اقتصادية مثمرة بين الصين والدول العربية، خاصة أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية. الصين في حاجة لإمدادات مستقرة من موارد الطاقة الأحفورية (الغاز والنفط) وهما متوفران بكثرة، ودول مجلس التعاون تتمتع بميزة تنافسية في صناعة الطاقة الأحفورية، لا تضاهيها مناطق أخرى من العالم. في المقابل: تتمتع الصين في علاقتها التجارية مع الدول العربية، بالذات دول مجلس التعاون الخليجي العربية، بميزة تنافسية عن بقية دول العالم المصدرة للمنطقة من منتجات الصناعات التحويلية والتكنلوجيا المتقدمة والمواد الاستهلاكية، ما يفتح المجال أمام تبادل تجاري بيني مجزٍ للطرفين. أيضاً هناك فرص واعدة كبيرة لتحرك مرن لرؤوس الأموال العربية والصينية، بين الجانبين، تقوم أساساً على قواعد راسخة من المصلحة المشتركة، لمجالات الاستثمار الواعدة، طويلة الأمد، بين الجانبين.

أيضاً هناك بعد سياسي واستراتيجي، للعلاقة البينية العربية ـ الصينية. الصين، كقوة كونية كبرى صاعدة تتطلع الاضطلاع بدور فاعل في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، غير ذلك الذي خبرته المنطقة في السابق، عندما احتكرت القوى الغربية التعاطي مع قضايا السلام والأمن في المنطقة وكان نتيجة ذلك الاحتكار الإضرار بمصالح العرب وأمنهم القومي، في كثيرٍ من الأوقات.

توفر الصين، هذه الأيام، طرفاً قوياً فاعلاً، لتخفيف حدة التوتر في المنطقة وتقريب وجهات النظر البينية بين العرب وغيرهم من شركائهم الإقليميين، من أجل الحفاظ على استقرار وأمن المنطقة. من أبرز مؤشرات إيجابية التقارب العربي الصيني، ولها علاقة بأمن منطقة الخليج العربي واستقرارها، تلك المصالحة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية (١٠ مارس ٢٠٢٣م)، التي أنهت سبع سنوات من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، تخللتها أعمال عنف غير مباشرة، وصلت خلالها العلاقات بين الجارتين إلى أدنى مستوى لها من التدهور التاريخي.

هناك آفاق واسعة لعلاقة مثمرة بين العرب، خاصةً دول مجلس التعاون، والصين، تساهم بشكل جدي وفعال، في مشاريع التنمية في المنطقة .. وإرساء دعائم الاستقرار والأمن فيها، وفتح آفاق للتعاون المثمر بين الجانبين في كافة المجالات، السياسية والاقتصادية والتنموية والأمنية.

الصين قوة كونية عظمى صاعدة تتوفر بها إمكانات واعدة لخدمة سلام وأمن العالم، بدايةً من المساهمة الإيجابية في تنمية مجتمعات المنطقة ودعم جهود الاستقرار فيها. كما أن الصين تاريخياً وثقافياً، أقرب لشعوب المنطقة وأجدى في إقامة علاقات سياسية وصلات ثقافية وتبني برامج واعدة للتنمية، تستفيد من الميزة التنافسية للطرفين، في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والرغبة المشتركة في إقامة علاقات متبادلة إيجابية واعدة، على أسس من الندية والمصلحة المشتركة، غير تلك التي خبرتها المنطقة مع القوى الكبرى التقليدية الآتية من الغرب، محملة بعقد تاريخية .. مثقلة بثقافات عنصرية، ذات خلفيات ثأرية، تغذيها أساطير دينية محرفة.

مقالات لنفس الكاتب