array(1) { [0]=> object(stdClass)#13142 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 198

بوادر لنظام عالمي جديد تلوح في الأفق ولدى دول الخليج 4 خيارات لتجاوز الأزمة

الأربعاء، 29 أيار 2024

إن الحروب التجارية أصبحت متلازمة تاريخية، تشتد وطأتها بتصارع الدول العظمى على كسب النفوذ والهيمنة على الاقتصاد العالمي، وكعادة تلك الصراعات تحدث تأثيرات واسعة المدى ولمستوى أبعد من الدول المعنية مباشرة بالصراع، حيث تخلق تلك الصراعات حالة تأزم في الإنتاج العالمي وزيادة في التكاليف ونسب التضخم، وتُقلل من الخيارات للسلع والخدمات، ومن ثم يحدث تباطؤ في نمو الاقتصاد العالمي، كما أنها تضر – في كثير من الأحيان – بالعلاقات السياسية والدبلوماسية بين الدول، الأمر الذي ينعكس بالضرورة على العمل متعدد الأطراف الذى يهدف في الأساس إلى  تخفيف حِدّة وكم الحروب والنزاعات التجارية، وبالتالي تؤثر على مستقبل الاقتصاد العالمي وفرص نموه.

 ويعد الصراع الحالي بين الولايات المتحدة والصين الناشئ من تنامي قوة الأخيرة سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، وهي أسباب أكثر من كافية لحالة من عدم الاستقرار الذي يشهده الاقتصاد العالمي، فالحرب التجارية أصبحت معلنة وتتخطى فكرة فرض التعريفات الجمركية، وإنما هو صراع على التفوق التكنولوجي، الذي لا تزال عواقبه تهز أركان الاقتصاد العالمي وتخلق آفاق عدم اليقين لمستقبل واقتصادات الدول، خاصة في ظل توالي الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية على العالم.

 

لذا سوف يحاول هذا المقال الخوض في أبعاد الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين، وآثار تلك الصراعات على مساعي إرساء قواعد جديدة للنظام العالمي في ضوء عودة سيطرة النزعة الحمائية، وتداعيات وتأثير تلك الصراعات على المنطقة العربية ودول مجلس التعاون، ومسارات العمل المواتية لتفادى التأثيرات السلبية له للخروج بأقل خسائر ممكنة من هذا الصراع المحتدم.

 

إن التحول الدرامي للصراع، من حالة حرب تجارية غير معلنة إلى حرب معلنة بين القوى العظمى تتخطى أبعادها الترتيبات التجارية والتعريفات الجمركية، أدى ذلك إلى حالة من الارتباك في العلاقات بين أمريكا والصين، والذي أدى بالضرورة إلى حالة من عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي دفع الطرفين إلى تهدئة تلك التوترات من خلال المحادثات الثنائية في محاولة لتحسين مسار العلاقات لتجنب تأجيج الصراع، إلا أن  هذا الصراع قد ألقى الضوء بالفعل على تغير  في موازين القوى الدولية، منها ما يتعلق بطبيعة القوة السياسية وتوازن القوى الدولية القائمة من خلال التغيير الحاصل في شكل التكتلات والتحالفات القائمة من خلال صعود بعض القوى وتراجع أخرى.

 

فعلى الرغم من أن القوة الأمريكية في هذه الحرب تكمن في امتلاكها التقنية الحديثة، التي تتفوق فيها خاصة في مجال البرمجيات والذكاء الاصطناعي والاتصالات، إلا أن حقيقة الأمر هناك ضعف ملحوظ في هيمنتها على الاقتصاد العالمي، ويأتي ذلك بالتوازي مع ما يشهده العالم من تراجع ملحوظ للدور الأوروبي على رقعة الشطرنج العالمية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً خاصة بعد انسحاب إنجلترا من الاتحاد الأوروبي، وتنامي قوة التحالفات الآسيوية وظهور تكتلات وكيانات جديدة تستهدف تغيير النظام العالمي من نظام أحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب، خاصة بعد تداعيات جائحة كوافيد19 وارتفاع حدة التوترات الجيوسياسية، باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزه، وأزمة عبور الشاحنات في البحر الأحمر وتأثيرات تغير المناخ على قناة بنما، كل تلك العوامل ألقت بظلالها على تغيرات حقيقية في منظومة العلاقات الاقتصادية العالمية، وفيما يلى محاولة لرصد تلك التغيرات في ميدان الاقتصاد والتجارة نتيجة تصارع القوى الدولية.

 

سمات المرحلة الجديدة في النظام العالمي (نزعات حمائية تحت غطاء العولمة)

 

ــ تغير أنماط التجارة، شهدت أنماط التجارة تحولات ملحوظة جاءت في البداية نتاج التطورات التكنولوجية المتسارعة، مما أدى إلى تغير طبيعة الأسواق وسلوكيات المستهلكين وظهور منافسين جدد يتمتعون بقدرات توزيع وتسويق غير مسبوقة، كما أحدثت البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي ثورة في كيفية تفاعل الشركات مع المستهلكين، حيث أصبح بالإمكان تحليل سلوك المستهلك بدقة عالية واستخدام هذه المعلومات للاستحواذ على الأسواق، من هنا تحول الصراع التجاري، ليكون حول امتلاك تلك التقنيات وكيفية استخدامها لخدمة المصالح الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية في كثير من الأحيان.

 

فالتخوف الأمريكي من الصعود الصيني جاء بعد اتهام واضح للصين بسرقة الملكية الفكرية الأمريكية من خلال عمليات اختراق وسرقة إليكترونية، في سياق متصل نجحت الصين في تغيير المنظور الدولي لها من كونها دولة تتوافر فيها الأيدي العاملة الرخيصة وتستوطن فيها الشركات العالمية للاستفادة من المزايا الاستثمارية، إلى دولة لديها قاعدة صناعية متطورة، وليس هذا فحسب بل دولة قادرة على نقل التكنولوجيا كنتيجة لزيادة متوسط الإنفاق على البحث العلمي والتطوير، وزيادة أعداد الباحثين، مما أدى إلى تغير بنية الإنتاج في الصين وتطورها التكنولوجي وهو أحد أهم محاور الصراع القائم.

ــ تنامي حجم وتأثيرات التكتلات الإقليمية، كنتيجة حتمية للصراع القائم بين القوى العظمى، خاصة بعد تزايد الجدل حول الفوائد غير المتكافئة للعولمة، وتزايد مخاطر تخصيص التجارة وتجزئة صناعة السلع، التي ظهرت بوضوح بعد قطع روسيا إمدادات الغاز عن الأوروبيين وما صاحب ذلك من اضطرابات في السوق العالمية، اتضحت مخاطر الاعتماد على دولة واحدة في استيراد المدخلات الحيوية.

 وأثر هيمنة الدول العظمى على حركة الإنتاج العالمي وقدرتها على استخدام الاقتصاد  كسلاح للضغط على الدول، الأمر الذي قد أدى  إلى ظهور التوجهات الجديدة لاتباع نظم تعددية الخيارات والمحاور، الذي يعد عودة إلى الحمائية ولكن بمقاييس مختلفة، حيث شرع صناع السياسات في بعض أكبر الاقتصادات على مستوى العالم لخيارات وقف المزيد من التكامل الدولي، وتبني سياسات الحماية أو السياسات القومية، أو في أفضل الأحوال اتباع مسار التمييز الإقليمي، بزيادة الحواجز أمام التجارة مع الأعضاء من خارج الإقليم، وهو تحول واضح في خارطة الاقتصاد والتجارة الدولية.

 

وهنا تكمن المشكلة وتزداد الشكوك حول قدرة الأطراف التجارية المختلفة على إدارة عدة مسارات معاً، مسار متعدد الأطراف وإقليمي وثنائي في ذات الوقت، الأمر الذي يهدد بتفتت العالم إلى تكتلات جغرافية وسياسية واقتصادية، وما ينجم عن ذلك من فقدان ما تحقق من مكاسب العمل الدولي على مدار العقود السابقة.

ــ تهميش دور المؤسسات الدولية، ففي سبيل التكيف مع المشهد التجاري العالمي المتغير، شهد العالم نزعة لتهميش وإقصاء أدوار المؤسسات الدولية التي لعبت دوراً محورياً في وضع معايير التجارة الدولية لعقود طويلة بهدف تعزيز العلاقات الدبلوماسية لحل النزاعات التجارية سلمياً، في نفس الوقت الذي أطلقت فيه الصين "البنك الآسيوي للبنية التحتية" (AIIB) الذي وصل عدد الدول المنضمة إليه 100 دولة، وشمل في عضويته إلى جانب الدول النامية عدداً من الدول الأوروبية المتقدمة، مما جعل الخبراء ينظرون إليه بوصفه منافساً قوياً للبنك الدولي، وليس هذا فحسب بل ومحاولة صينية لإيجاد بديل لنظام بريتون وودز الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة والدول الغربية، ودليل جديد على رغبة الصين في تمدد نفوذها لخارج محيطها الآسيوي.

ــ تحولات في مسارات التجارة وإعادة هيكلة شبكات سلاسل التوريد العالمية، أثرت أزمة الملاحة في البحر الأحمر  وجفاف قناة بنما وعدد من الأزمات السابقة في مسار الشحن الدولي، إلى توجه أنظار العالم إزاء التحول إلى الطرق القديمة لتفادى مخاطر تلك الطرق، وذلك جاء بالتوازي مع إطلاق الصين مبادرة الحزم والطريق التي تربط مصالح الصين بأوروبا الغربية عبر آسيا الوسطى وروسيا، والذي يمكنها من الوصول بحراً إلى إفريقيا وأوروبا عبر بحر الصين والمحيط الهندي، وذلك من خلال شبكة هائلة من البنى التحتية للنقل والاتصالات، والمبادلات التجارية، والذي قد يؤدي إلى تعزيز التجارة بنسبة تتراوح بين 1.7 و6%  على مستوى العالم، وزيادة الدخل الحقيقي عالمياً بنسبة من 0.7 إلى 2.9 %، الأمر الذي يصب بالتأكيد في صالح العملاق الصيني.

في ضوء ما سبق، ووسط هذا المشهد المتوتر من العلاقات الدولية وزيادة حدة الاستقطاب العالمي، تُكافح الدول العربية لضمان الحفاظ على مصالحها وتجنب الآثار السلبية لتلك الصراعات، فعلى الرغم من بعدها الجغرافي عن بؤرة الصراع، واتباعها مسار الحياد الإيجابي تجاه تلك التوترات، ومحاولة عدم الانخراط في صراع ضد أي من الأطراف الدولية الفاعلة، إلا أنها لم تكن في مأمن من آثاره، بل كانت من بؤر التنافس المشتعلة، لكونها تعد من المناطق الاستراتيجية ومركز جذب للقوى العالمية، وهو ما سنحاول التعرف عليه ورصد لأثره على المنطقة العربية.

 

المنطقة العربية ودول مجلس التعاون في ظل تداعيات الحرب التجارية الدائرة

 

تتسع رقعة التأثيرات الاقتصادية والسياسية لتشمل مناطق جغرافية واسعة بعيداً حتى عن مجال الدول المتصارعة، ولما كانت الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي تحتل بفضل مواردها الطبيعية الغنية وموقعها الاستراتيجي كونها مفترق طرق لحركة التجارة العالمية جعلها طرف في المعادلات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية.

 

لذا شهدت تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على اقتصاداتها، وتباينت تلك التأثيرات من دولة لأخرى، فالدول النفطية تأثرت بتباطؤ الطلب على النفط وتقلبات أسعاره مما انعكس بالضرورة على تقلص الإيرادات الحكومية مما وضع ضغوطاً على الميزانيات الوطنية وأثر على قدرة الدول على تمويل مشاريعها التنموية، بينما تأثرت الدول العربية غير النفطية، بارتفاع فاتورة الغذاء والوقود واتساع نطاق التضخم وارتفاع الدين العام في ظل تشديد الأوضاع المالية العالمية، ولكن تشاركت الدول العربية في محاولاتها لتحقيق التوزان في علاقاتها الدولية مع القوى العظمى بفتح شراكات جديدة مع كافة الأطراف الفاعلة في الاقتصاد العالمي والدخول في تحالفات استراتيجية  تجنبها تداعيات الصراعات التجارية القائمة.

 

شهدت السنوات الأخيرة تحركات عربية واضحة لتوسيع قاعدة مصالحها إقليمياً وعالمياً كنتيجة لذلك التصارع، فنجدها انضمت إلى العديد من التكتلات إما بعضوية كاملة أو بصفة مراقب وهو ما يعكس التوجه نحو الانفتاح على العالم وعدم الالتزام بالقرب الجغرافي للوصول إلى الأسواق الجديدة.

ولعل أكثر الاتفاقيات إثارة للجدل (مجموعة البريكس) الذي يمثل ما مجموعه نحو 42 % من سكان العالم، و24 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و18 % من التجارة العالمية، حيث تقدمت 23 دولة بطلبات رسمية للانضمام لهذا التحالف، من بينها ثماني دول عربية.

 

وقد نجحت 3 دول عربية إلى الآن في الانضمام هم" الإمارات-السعودية – مصر"، كما انضم عدد من الدول العربية كشريك حوار إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وكذلك في الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الأمر الذي يعطي دلالات مؤكدة بشأن اتساع نطاق العلاقات الاقتصادية للدول العربية، فضلاً عن منح مزايا تفضيلية على مستوى الاتفاقات الثنائية.

 

والجدير بالذكر أن العلاقات العربية ـ الصينية شهدت تطوراً هائلاً خلال السنوات الأخيرة، وذلك في محاولة من الصين لتأمين موارد النفط والمواد الخام اللازمة لصناعتها، كما أنها أصبحت الشريك التجاري الأول للدول العربية، فقد بلغ حجم التجارة بين الصين مع الدول العربية نحو 430 مليار دولار عام 2023م، كما أدى اتفـاق تطبيـع العلاقات الدبلوماسية بين السـعودية وإيـران بوسـاطة ورعايـة صينيـة، إلى اتفاق سلام سعودي – يمني والذي يمثل أحد مخرجات هذا التطبيع، وانعكاس واضح لتصاعد الدور الصيني في المنطقة العربية.

 وفي المقابل ترتبط أيضًا الدول العربية بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة، وخاصة الجانب العسكري والأمني الذي تتفوق فيه بلا منازع، إلا أن العديد من الخبراء والمحللين يرون أن ثمة تراجع في مستوى العلاقات التجارية بين أمريكا والدول العربية، خاصة في ظل تنافس لقوى أخرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي والهند واليابان على توطيد العلاقات التجارية مع الدول العربية.

 

وبالحديث عن دول مجلس التعاون، نرصد تأثيراً إيجابياً لذلك الصراع على دول المجلس وخاصة (السعودية وقطر) التي ظهرت كقوى وسطى بين الكتلتين العالميتين خاصة في سوق الطاقة العالمية، وقد جاء ذلك بعد تحقيق طفرة استثنائية في إعادة هيكلة اقتصادات دول المجلس، بفضل الإصلاحات المالية والهيكلية والتوجه نحو تنويع مصادر الدخل والانفتاح على شراكات جديدة، وقد سمح ذلك بظهور آفاق أكثر إيجابية لاقتصادات تلك الدول ومنحها فرصة التفاوض ككتلة اقتصادية موحدة ومؤثرة في ساحة التفاوض الدولية.

 

وفي سياق متصل، فقد اتخذت دول مجلس التعاون مساراً حيادياً في علاقاتها الاقتصادية والدولية، كدول منفردة وأيضًا كتكتل اقتصادي، فمن ناحية حافظت على شراكتها مع الولايات المتحدة الأمريكية كحليف استراتيجي، ومن ناحية أخرى عززت علاقتها مع الصين أيضًا كقوة اقتصادية فرضت نفسها على السوق العالمي، فقد شهدنا شراكات في مشاريع البنى التحتية الضخمة، على سبيل المثال لا الحصر- سكك القطارات السريعة في السعودية واستاد لوسيل في قطر ، كما أضحت دولة الإمارات أكبر سوق تصدير وشريك تجاري غير نفطي للصين في المنطقة، ناهيك عن انضمام الدول الخليجية إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث ضخت الصين استثمارات هائلة في قطاع البناء وتشغيل المجمعات الصناعية مثل مدينة جازان الصناعية في السعودية، ومنطقة الخليفة في أبوظبي،  ومنطقة الدقم في سلطنة عمان، الأمر الذي أدى إلى تحقيق العديد من المكاسب انعكست على أداء اقتصادات دول الخليج العربية في السنوات الأخيرة.

 

دور التكتلات الإقليمية في المنطقة العربية في الحد من تداعيات الحروب التجارية ومساعي تشكيل نظام عالمي جديد

 

يعد التكامل الاقتصادي الإقليمي إحدى أدوات التغلب على الانقسامات التي تعيق تدفق السلع والخدمات وانتقال رؤوس الأموال والأشخاص بين دول التكتل، بل ويمكن أن تكون عنصرًا مؤثرًا في إرساء الأمن والسلام بين الدول، لذا شهدت الاتفاقيات التجارية الإقليمية ارتفاعاً مطرداً خلال العقود الأخيرة، فقد ارتفعت من 50 اتفاقية إقليمية منذ عام 1990م، إلى أكثر من 350 اتفاقية في عام 2024م، وقد ساعدت تلك الاتفاقيات في خفض تكاليف التجارة على جميع الشركاء التجاريين، و ارتفاع حجم التجارة الدولية وزيادة نسبة مساهمة التجارة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي كنتيجة مباشرة للتأثيرات الديناميكية لتحرير التجارة في تحقيق وفورات الحجم ونقل التكنولوجيا.

 

ولم تكن الدول العربية في معزل عن ذلك، إذ سارعت في الدخول في تكتلات اقتصادية عربية سعياً منها لتحقيق تكامل فيما بينها، حيث انطلقت مسيرة التكامل الاقتصادي العربي منذ نشأة جامعة الدول العربية، وقد أنجزت في سبيل ذلك العديد من الاتفاقيات التجارية و وضعت أُطر تشريعية للتعاون الاقتصادي العربي، وقد قطعت شوطاً كبيراً في تحرير التجارة فيما بينها، إلا أنه على الرغم من الوصول إلى التعرفة الصفرية للمنتجات ذات المنشأ العربي وذلك من خلال تطبيق أحكام منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي تعد الركيزة الأساسية لحركة التجارة العربية البينية، إلا أن حجم التبادل التجاري لم يصل إلى الهدف المرجو في أحسن حالاته، وذلك يرجع إلى العديد من العوائق التي مازالت تحد من انسياب تدفق التجارة بين الدول العربية.

 

إلا أن المستقبل القادم يبشر بتحول إيجابي مرتقب، حيث نرصد تطورًا هائلًا في طبيعة الهياكل الإنتاجية في العديد من الدول العربية، ومحاولات جادة لتسهيل حركة التجارة، وسعي جاد لخلق سلاسل إمداد عربية تحقق الاكتفاء الذاتي والإقليمي في بعض المنتجات، وهنا يكمن دور الجامعة العربية في البناء على ما تم الوصول إليه، من خلال الاستمرار في الدفع قدماً بمزيد من التكامل العربي، ومواصلة تحديث هذا النهج بما يتواكب مع المستجدات الدولية، وبما ينعكس على مزيد من الترابط بين الدول العربية.

 

أما بالحديث عن دول مجلس التعاون، فلم يعد هناك مجالاً للشك أن هناك توجه خليجي نحو تنويع مصادر الدخل القومي، حيث قامت تلك الدول في إطار إقليمي من خلال مجلس التعاون الخليجي بجهود استباقية للحد من تأثيرات الأزمات الدولية، ووضع رؤية استراتيجية واضحة لرفع مستوى الاقتصاد الخليجي من أقل من 200 مليار دولار إلى أكثر من تريليوني دولار خلال جيل واحد، و فتح شراكات استراتيجية مع كافة الأطراف في الاقتصاد العالمي بهدف التصدي الجماعي للتحديات الراهنة، والظهور في المجتمع الدولي كصوت واحد يدافع عن مصالحه، وقد أدى ذلك إلى تواجد حقيقي ومؤثر في دائرة القرار الدولي.

 

وفي نهاية المطاف، یمكن القول إن الحروب التجارية تؤدي بالضرورة إلى تغير في منظومة الاقتصاد الدولي، وأننا نشهد حالياً مرحلة انتقالية تتصارع فيها القوى العظمى إما ببقاء نظام القطب الواحـد أو ثنائي القطب، أو أن تحسم المعركة لصالح فرض نظـام عالمي جديد متعدد الأقطاب تلعب فيه التكتلات الإقليمية والدول الكبرى الـدور الحاسم.

 

ولتجنب تداعيات هذا الصراع المحتدم، لابد من تضافر الجهود لتعزيز التعاون الدولي والإقليمي لإعادة بناء اقتصاد عالمي أكثر مرونة وترابطاً واستدامة للأجيال القادمة، وعلى الدول العربية مواصلة إعادة تقييم مسارات التعاون بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية وخططها التنموية، لضمان تحقيق تلك الغاية، ولمجابهة أية تداعيات سلبية جراء حالة الحرب التجارية الدائرة، والتي أصبحت مرهونة بامتلاك التكنولوجيا الحديثة، وبإعادة توجيه الاستثمارات وإحداث تغيرات في الاعتماد على سلاسل التوريد، وبالتالي  تغير الأدوار مع الشركاء التجاريين.

 

وختاماً، يمكن القول إن الدول العربية على وجه العموم، ودول مجلس التعاون على وجه خاص في مسعاها نحو تحقيق النمو الاقتصادي لن يكون ممهداً بالورود، وإنما ستواجه العديد من التحديات التي یُمكن التغلب عليها، وفيما يلي نوجز أبرز الطرق لتحقيق ذلك في جملة النقاط التالية:

  • استمرارية تحقيق التوزان في شراكاتها مع كل من أمريكا والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وكافة الأطراف الفاعلة على النحو الذي يراعي المصالح الجماعية للدول على المستوى الوطني وعلى مستوى التكتل الإقليمي.
  • التوجه نحو المزيد من التكامل مع محيطها الإقليمي، والسعي لخلق سلاسل إمداد عربية كلما أمكن ذلك لتكون بديلة عن سلاسل الإمداد العالمية، التي أضحت مرهونة بالعلاقات السياسية.
  • فتح الأسواق وزيادة تدفق التجارة العربية البينية، وتعزيز الاستثمار في الصناعات المحلية وتعزيز القدرة التنافسية، بوصف ذلك أداة فعالة للصمود في وجه عاصفة تدابير الحماية من خلال السعي نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي أو الإقليمي، الذي يراعي طبيعة الهياكل الإنتاجية في الدول العربية.
  • الدفع نحو بناء كوادر بشرية تتواكب مع متطلبات التطور التكنولوجي الحاصل، والتركيز على الابتكار وريادة الأعمال والتحول نحو الرقمنة والاقتصاد المعرفي.

 

مقالات لنفس الكاتب