array(1) { [0]=> object(stdClass)#13142 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 198

تطوير الصناعة الخليجية وزيادة الشركاء واستقبال الشركات الصينية المتضررة من العقوبات الأمريكية

الأربعاء، 29 أيار 2024

في السنوات الأخيرة، أصبحت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين محور اهتمام كبير على الساحة الاقتصادية العالمية، حيث اتخذت الولايات المتحدة سلسلة من الإجراءات الصارمة ضد بكين من خلال فرض العقوبات وسن التشريعات. وهو الأمر الذي أثار مخاوف واسعة النطاق وأطلق العنان للعديد من النقاشات على الساحة الدولية. لم يكن للحرب التجارية بين واشنطن وبكين تداعيات وخيمة على العلاقات الثنائية بين البلدين فحسب، لكنها تركت أيضًا أثرًا عميقًا على المشهد الاقتصادي والسياسي العالميين.

الانقسامات بين الولايات المتحدة والصين

ينبع النزاع التجاري بين الاقتصَادين الأكبر عالميًا من عدة روافد، أهمها اختلال الميزان التجاري بين الجانبين منذ أمد طويل. فعلى مدار عقود طويلة، ظلت الصين أحد أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، في حين لا يزال العجز التجاري الأمريكي مع الصين عند مستويات مرتفعة. وتعزي واشنطن أسباب ذلك إلى السياسات التجارية التي تنتهجها الصين، مثل: التلاعب بسعر الصرف، وانتهاكات حقوق الملكية الفكرية، والقيود المفروضة على إمكانية الوصول إلى الأسواق. علاوة على ذلك، تتهم الحكومة الأمريكية الصين بممارسات تجارية غير عادلة تجعل من الصعب على الشركات الأمريكية التنافس بنزاهة داخل السوق الصينية. ومنذ عام 1978م، عندما أطلقت بكين استراتيجية" الإصلاح والانفتاح" الخاصة بها، أضحت علاقاتها مع الولايات المتحدة أكثر تقارباً. ومع انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2002م، تحولت الصين تدريجيًا إلى أكبر شريك تجاري لواشنطن مع تنامي حصتها في منظومة التجارة العالمية بشكل كبير. وبعد عام 2015م، ازدادت حصة الصين في التجارة العالمية بشكل تدريجي وأصبحت قوة اقتصادية لا يمكن للولايات المتحدة تجاهلها.  لذلك، تم البدء في فرض عقوبات موجهة ضد الصين عقب تولي الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب منصب الرئاسة، ثم اندلعت الحرب التجارية بين البلدين والتي استمرت حتى يومنا هذا.

سبب آخر وراء اندلاع الحرب التجارية بين واشنطن وبكين يكمن في تصاعد وتيرة المنافسة التكنولوجية بين البلدين. حيث استطاعت الصين قطع أشواط كبيرة على مدار الأعوام الأخيرة، لتصبح لاعبًا رئيسيًا في مجال التصنيع العالمي والابتكار التكنولوجي. مع ذلك، شرعت الولايات المتحدة، مدفوعة بمخاوف من تهديد الصعود الصيني سريع الخطى لمكانتها على الساحة الاقتصادية العالمية، إلى اتخاذ سلسلة من التدابير التي تهدف إلى كبح جماح التنمية الصينية، بما في ذلك وضع قيود على الصادرات التكنولوجية إلى الصين وفرض عقوبات على الشركات الصينية.

من جانبها، تعتقد الصين أن حربها التجارية مع واشنطن، هي في الأساس صراع ضد الهيمنة الأمريكية على منظومة التجارة العالمية. لاسيما بعد نجاحها في الاندماج من جديد داخل المنظومة المالية والتجارية العالمية في أعقاب طرح سياسة" الإصلاح والانفتاح" الخاصة بها في عام 1978م. 

خلال العقود الماضية، ظلت الصين لفترات طويلة في الطرف الأدنى من السلسلة الصناعية العالمية، مُعولة على الصناعات كثيفة العمالة في نظام التجارة الدولي. ومع ذلك، تعتقد بكين أن الأرباح التي حققتها ستزول بشكل تدريجي، وأن البلاد تعاني من معدلات تلوث شديدة الارتفاع، فضلاً عن اعتقادها بأن القوى الغربية لا تزال ممسكة بزمام مبادرة التجارة الدولية. من ثم، حرصت الصين على تحديث بنيتها الصناعية خلال الأعوام الأخيرة، وبالأخص، العمل على تطوير الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا الفائقة، أملاً في الإمساك بزمام مبادرة التجارة الدولية. وتعتبر إصدارات شركة "هواوي" عملاق التكنولوجيا الصيني، من الهواتف المحمولة، والسيارات الكهربائية التي تنتجها شركة "بي واي دي" الصينية، وغيرها من الشركات تجسيداً مهماً للتقدم الصناعي الذي تشهده الصين.

وفقاً للمنظور الصيني، تنعدم الرغبة لدى الجانب الأمريكي في تقاسم الأرباح المُحققة في الطرف الأعلى من السلسلة الصناعية العالمية. من ناحية أخرى، تسعى الولايات المتحدة إلى تحجيم التنمية الصينية ليس فقط عن طريق استخدام سلاح العقوبات وغيره من وسائل القمع الممارس على الشركات الصينية، بل ومن خلال العمل على تشويه صورة هذه الشركات -بالتعاون مع دول غربية أخرى-وفبركة " ما يقال بشأن محاولات الصين للسيطرة على منظومة البيانات العالمية". بالتالي، تدعم الصين وضع قوانين وأنظمة عادلة، ومفتوحة، وتتسم بالشفافية في مجال التجارة الدولية والاستثمار من أجل حماية حقوق ومصالح كافة دول العالم. وتدعو الصين أيضًا كافة الأطراف إلى الالتزام بالأعراف الدولية، وحل الخلافات عبر قنوات الحوار والتشاور، وتفادي النزعة الفردية الأحادية والسياسات الحمائية.

أخيرًا، تعتبر العوامل السياسية أحد أسباب تصاعد وتيرة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. فمن المنظور الأيديولوجي، توجد علاقة عدائية متأصلة بين الفكر الرأسمالي الذي تتبناه الولايات المتحدة والفكر الشيوعي الذي يدعمه الحزب الشيوعي الصيني. لذلك، تعتقد بكين أن الولايات المتحدة كانت دائمة العدائية للنظام السياسي الصيني، وتطمح إلى كبح التنمية الاقتصادية الصينية وتحجيم نفوذ الصين السياسي. وترى بكين إن التدخلات الأمريكية لا تقتصر على علاقات الصين الاقتصادية والتجارية مع الدول الأخرى، بل تصل إلى حد تحالُف واشنطن مع دول غربية أخرى من أجل تشكيل شبكة سياسية تهدف إلى تهميش الدور الصيني. وعلى الصعيد الجيوسياسي، تطالب الصين باحترام الولايات المتحدة لمطالبها بالسيادة على الأراضي التايوانية وبحر الصين الجنوبي، ووقف تمويل العناصر الانفصالية في إقليم "التبت" و"شينجيانغ". كذلك تعتقد بكين أن مبيعات الأسلحة الأمريكية المتواصلة إلى تايوان تشكل تهديدًا للعلاقات السياسية بين الصين وتايوان.

ثمة العديد من الخلافات والنزاعات بين الصين والولايات المتحدة في المجالات السياسية، والعسكرية، والجيوسياسية، وأصبحت الحرب التجارية جزءًا من المنافسة بين البلدين. ولدى الحكومة الأمريكية قناعة بأنها قادرة على تحقيق أهدافها السياسية من خلال زيادة الضغط التجاري على الصين، بينما تسعى الصين للدفاع عن مصالحها الوطنية وكرامتها من خلال مجابهة السياسات التجارية الأمريكية.

الرد الصيني

منذ اعتلاء إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب سدة الحكم في 2017م، بدأت العقوبات الأمريكية الاقتصادية على الجانب الصيني تتكشف. وتحت شعار " لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، طرحت إدارة الرئيس الجمهوري سلسلة من الإجراءات من أجل قمع الشركات الصينية.  الهدف كان حماية مصالح كل بلد وممارسة مزيد من الضغط على الآخر. وتتضمن التدابير الرئيسية المتخذة من قبل الولايات المتحدة؛ فرض تعريفات جمركية على السلع الصينية، ووضع قيود على صادرات التكنولوجيا إلى الصين، وفرض عقوبات على الشركات الصينية. واستهدفت هذه التدابير تقليص العجز التجاري الأمريكي مع الصين، وحماية حقوق الملكية الفكرية، وضمان الأمن التكنولوجي للشركات والمؤسسات الأمريكية، ومحاولة تقييد نفوذ الصين داخل السلسلة الصناعية العالمية. وفيما يتعلق بسياسة التعريفة الجمركية، تبنت الولايات المتحدة سلسلة من التدابير التجارية التقييدية من خلال فرض تعريفات جمركية على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، إلى جانب إجراءات أخرى. وتهدف هذه التعريفات والقيود إلى تقليل الصادرات الصينية من المنتجات إلى السوق الأمريكي ومن ثم تقليل العجز التجاري الثنائي.

وقد كانت الرقابة على العلوم والتكنولوجيا محور تركيز الحرب التجارية الأمريكية تجاه الصين. فبعد عام 1978م، احتضنت الصين لفترات طويلة مبدأ " التكنولوجيا مقابل السوق" بغية تسهيل سبل التعاون بين الشركات الصينية ونظيرتها الغربية المتقدمة، في مقابل نقل التكنولوجيا الأساسية من الشركات الغربية.  وقد أدى ذلك إلى طفرة مشهودة في مجال البحث العلمي والتكنولوجي داخل الصين وتطور قدرات الشركات الصينية.  مع ذلك، كلما واصلت الشركات الصينية تقدمها في مجالي العلوم والتكنولوجيا، كلما أثار ذلك حذر ويقظة الجانب الأمريكي. بالتالي، عمدت واشنطن إلى تشديد الرقابة تدريجيًا من أجل منع تدفق التكنولوجيا المتقدمة التي تمتلكها الشركات الغربية إلى نظيراتها الصينية. وعلى صعيد الرقابة التكنولوجية، اتخذت الحكومة الأمريكية سلسلة من التدابير من أجل منع الشركات الصينية من الحصول على التكنولوجيا المتقدمة وحقوق الملكية الفكرية داخل الولايات المتحدة، بما في ذلك فرض عقوبات على الشركات الصينية وتشديد الرقابة عليها ومنع نقل التكنولوجيا إليها.

علاوة على ذلك، فرضت الحكومة الأمريكية قيودًا تكنولوجية وعقوبات على الشركات الصينية بموجب المادة (رقم 301) من قانون التجارة الأمريكي الخاصة بالتحقيقات وغيرها من المواد الدستورية، بهدف تقييد قدرة الشركات الصينية من الحصول على التكنولوجيا المتقدمة وحقوق الملكية الفكرية داخل الولايات المتحدة. وتحت عباءة هذه القوانين، مثل قانون "تحديث مراجعة مخاطر الاستثمار الأجنبي"، عززت الولايات المتحدة تدقيقها وقيودها على الاستثمار الأجنبي، والحد من الاكتتابات والاستثمارات من قبل الشركات الصينية داخل نظيرتها الأمريكية.

على مستوى الدعاية السياسية، روجت ونشرت الحكومة الأمريكية موقفها من الصين في الخارج والداخل من خلال الدعاية ونزاعات الرأي العام، ومحاولة حشد دعم دولي للموقف الأمريكي في الحرب التجارية. وعلى مستوى أوساط الرأي العام، عمدت الولايات المتحدة إلى استخدام وسائل الإعلام الرسمية، بما في ذلك المحطات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية، من أجل تشويه صورة الصين دوليًا، وإظهارها في صورة المُفسد للنظام العالمي. وعلى الصعيد السياسي، حرصت الولايات المتحدة على اجتذاب الدول الغربية، وسلطت الضوء على عناصر مثل "الديمقراطية" و"الثقافة الغربية" لخلق موقف استراتيجي من أجل تطويق الصين، ووصفت الصين بأنها دولة "استبدادية" و"متآمرة".

وفي مواجهة هذا الكم من الضغوط الأمريكية الهائلة، اتخذت الصين سلسلة من التدابير المضادة. وفيما يتعلق بسياسة التعريفة الجمركية، طرحت الصين " عقوبات متبادلة" أو "عقوبات بالمثل"، بمعنى أنه حيثما تقوم الولايات المتحدة بتطبيق زيادة في الرسوم الجمركية المفروضة على السلع الصينية، تطبق الحكومة الصينية زيادة مماثلة على الواردات الأمريكية إلى الصين. وعلى مستوى السياسة الخارجية، تواصل الحكومة الصينية تأكيدها على أهمية التعاون متعدد الأطراف والقوانين الدولية لحل النزاعات التجارية، والمشاركة الفعالة في المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، والسعي إلى حل الخلافات من خلال آلية الحوار والتشاور، وتفادي النزعة الفردية والاتجاهات الحمائية.

وعلى صعيد السياسات الداخلية في مجالات الاقتصاد، والعلوم، والتكنولوجيا، عززت الحكومة الصينية تدابير الإصلاح الداخلية وجهود الابتكار، كما عملت على الارتقاء بقطاع الصناعة والابتكار التكنولوجي، وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني وقدرته على الصمود أمام التحديات والضغوط الناجمة عن الحرب التجارية. بالتالي، فقد حاولت الصين إجبار الولايات المتحدة على التخلي عن موقفها بشأن الحرب التجارية ضدها وحماية مصالحها الوطنية وصون كرامتها من خلال ممارسة الضغط الاقتصادي على الولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، حرص الجانب الصيني على التواصل بشكل مستمر مع دوائر النخب السياسية والاقتصادية داخل الولايات المتحدة أملاً في الحفاظ على التبادلات الطبيعية مع المجتمع الأمريكي. وقد التقى الزعيم الصيني تشي جين بينغ مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في عام 2019م، أثناء زيارة الأخير إلى بكين. وفي عام 2023م، كتب الزعيم الصيني مقالاً هنأ فيه المسؤول الأمريكي بمناسبة حلول ذكرى مولده الــ 100 وتم نشرها بواسطة جريدة "الشعب " اليومية، التي تعتبر الجريدة الأكثر موثوقية داخل الصين. كذلك التقى الرئيس تشي جين بينغ مع وفد من ممثلي الشركات الأمريكية أثناء زيارة الوفد إلى بكين في عام 2024م. وفي إبريل من العام ذاته، التقى رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ مع مؤسس شركة "تيسلا" الأمريكية إيلون ماسك. حيث تود بكين إظهار نواياها الحسنة إلى دوائر النخب الأمريكية، أملاً في الحفاظ على علاقات ثنائية بين البلدين والتخفيف من حدة النزاعات والتناقضات بين الجانبين.

الانعكاسات على المجتمع الدولي ومنطقة الخليج

خلفت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، باعتبارهما أكبر اقتصادين على مستوى العالم، انعكاساتها على سائر أقطار العالم. أولاً، تسببت الحرب التجارية في زعزعة استقرار الأسواق العالمية وإضفاء مزيد من الضبابية حول النمو الاقتصادي العالمي. كما أدت الحرب إلى تقلبات في أسعار السلع العالمية، وأثرت على حركة الاستثمارات العالمية وتدفق التجارة، فضلاً عن، أثرها السلبي على الاقتصاد العالمي. كذلك أدت التوترات التجارية إلى زيادة الضبابية حول الأسواق وخفض ثقة المستثمرين، مما أثر بدوره على حركة التجارة العالمية وأنشطة الاستثمار وتسبب في بطء النمو الاقتصادي العالمي.

ثانيًا، لقد أثرت الحرب التجارية على استقرار السلسلة الصناعية العالمية.  حيث أدت إلى تعديلات في سلاسل الإمداد العالمية، مع اتجاه بعض الشركات إلى نقل قواعد إنتاجها من الصين إلى بلدان أخرى من أجل التحايل على التعريفات الجمركية والقيود التجارية. وفي أعقاب اندلاع أزمة تفشي جائحة كوفيد -19 في عام 2020م، تبنت الصين تدابير وقائية صارمة لمكافحة انتشار الوباء، وهو الأمر الذي منع الغالبية العظمى من المدن من القيام بالأنشطة الاقتصادية الروتينية، وأدى إلى تسريع وتيرة انسحاب الشركات الأجنبية من الصين.

تعتبر الصين مكونًا رئيسيًا من منظومة التصنيع العالمية، فضلاً عن ارتباط سلاسل الإمداد الخاصة بالعديد من الشركات متعددة الجنسيات ارتباطًا وثيقًا بالصين. وبالتالي، تسببت الحرب التجارية في مفاقمة حالة عدم اليقين بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات، ومضاعفة المخاطر المحيطة بالسلسلة الصناعية العالمية، كما آلت إلى عمليات إعادة تنظيم للإنتاج العالمي والمنظومة التجارية. أخيرًا، خلفت الحرب تأثيرًا غير مباشر على الوضع الاقتصادي لدول أخرى. بشكل عام، تتسبب الحروب التجارية في مفاقمة الصعوبات والتحديات أمام التعاون الدولي، وبلورة الانقسامات، والعداءات داخل بنية المجتمع الدولي بما يضع المنظومة التجارية الدولية والآليات متعددة الجوانب تحت ضغط هائل وتحديات متزايدة. فقد تأثرت حركة الصادرات الخاصة بالعديد من دول العالم جراء الحرب التجارية، لاسيما تلك المُعتمدة بشكل كبير على الأسواق الصينية والأمريكية. إضافة إلى ذلك، أدى النزاع التجاري إلى مفاقمة حالة عدم الاستقرار السياسي والجيوسياسي العالمي، بما ينذر بإثارة قضايا اقتصادية وأمنية دولية أوسع نطاقًا.

أما بالنسبة لدول الخليج، تُمثل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تحديًا بقدر ما تتيح من فرص. فمن منظور عائدات الطاقة، تعد دول المنطقة الخليجية أكبر مصدر للنفط عالميًا بما يجعل اقتصاداتها معتمدة بشكل كبير على العائدات النفطية. بالتالي، فإن نشوب حرب تجارية بين واشنطن وبكين قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وهو ما سيؤثر في المقابل على الطلب العالمي على النفط، وسيترتب عليه تقلبات في أسعار المعدن الأسود. من شأن ذلك أن يخلف تبعات وخيمة على العائدات المالية والاستقرار الاقتصادي للبلدان الخليجية. وعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، قامت دول مثل المملكة العربية السعودية، والإمارات، والعراق، وروسيا بخفض إنتاجها النفطي مرارًا وتكرارًا في محاولة لإنعاش أسعار النفط الخام عالميًا. لكنها لم تتمكن من الحفاظ على ارتفاع أسعار الطاقة على المدى الطويل، مما يدل على حقيقة ضعف الطلب في السوق العالمي.

من الناحية الجيوسياسية، فإن الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، في حال استمرت، سوف تجبر دول الخليج إلى "الانحياز إلى طرف دون الأخر". في الواقع، منذ عهد الرئيس ترامب، كانت الولايات المتحدة تسعى إلى إجبار البلدان الخليجية على عقد خيارها، ومطالبتها بعدم التعاون مع الصين في مجالات التكنولوجيا الفائقة، والطاقة النظيفة، وبناء شبكات الجيل الخامس، وتشييد البنية التحتية، ومجالات أخرى. وقد قوبل ذلك برفض حاسم من دول الخليج التي لطالما عارضت التدخل الأمريكي التعسفي في سياساتها الاقتصادية والسياسية، وحرصت، عوضًا عن ذلك، على الحفاظ على روابطها الاقتصادية والتجارية مع الصين. ولكن في ظل التصعيد الأمريكي حيال الصين، قد تتخذ بعض دول الخليج موقفًا مغايرًا وفق سياساتها وموقفها من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على الاستقرار والموقف الأمني داخل المنطقة.

من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن النزاع التجاري قد يضر بمصالح الدول الخليجية، لكنه يجلب معه فرصًا جديدة. أولا، أنه أحدث تغييرًا كبيرًا في المشهد الصناعي العالمي، بحيث أصبحت الاقتصادات الناشئة حديثًا في دول جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا تنعم بفرصة من أجل توطيد علاقاتها الاقتصادية مع دول مجلس التعاون الخليجي. وفي الوقت الذي ستؤول الحرب التجارية إلى مزيد من التوترات في التجارة بين واشنطن وبكين، ستحظى دول المجلس أيضًا بفرصة البحث عن شركاء جدد في التجارة وتنويع قنواتها التجارية. وسيكون بوسعها تعزيز التعاون التجاري مع مناطق أخرى مثل أوروبا، وآسيا، وإفريقيا، وبالتالي تقليص اعتمادها على التجارة الصينية -الأمريكية.

وعلى مستوى القطاع الاستثماري، شهد رأس المال الصيني نزوحًا من البلاد خلال الأعوام الأخيرة تحت ضغط وابل العقوبات الاقتصادية الأمريكية الموجهة ضد الصين. وربما تصبح الدول الخليجية موقعًا مستهدفًا للشركات الصينية بهدف تجنب التعريفات الأمريكية والقيود التجارية. فدول مثل الإمارات وقطر قادرة على اجتذاب المزيد من الشركات الصينية من أجل ضخ استثماراتها وتطوير أعمالها هناك ومنح دفعة للاقتصاد المحلي من خلال توفير مناخ أعمال أكثر مرونة، وسياسات ملائمة، وحوافز ضريبية. في الوقت ذاته، تنعم الصين بنفوذ قوي وخبرات غنية في مجال التكنولوجيا الفائقة بما يفتح المجال أمام دول الخليج لدعم الابتكار التكنولوجي والتحديث الصناعي من خلال تعزيز تعاونها مع الصين. من شأن ذلك أن يساعد في تعزيز القدرة التنافسية والسعة الابتكارية للاقتصادات المحلية.

على صعيد التعاون الإقليمي، يبُشر الوضع بفرص جديدة أمام دول المنطقة الخليجية. وفي ظل الاهتمام الأمريكي والصيني المتزايد بأسواق الدول الخليجية والسياسات الخاصة بها، يزداد النفوذ الخليجي نموًا على الساحة الدولية السياسية والاقتصادية. وفي سبيل مواجهة حالة عدم اليقين والمخاطر المترتبة على الحرب التجارية بين الاقتصادين الأكبر عالميًا، تنعم دول الخليج بفرصة لتعزيز تعاون متعدد الأطراف مع البلدان والمناطق الأخرى حول العالم من أجل تكاتفها معًا لمعالجة التحديات المُحدقة بالتجارة والاقتصاد العالميين. وفي إمكانها أيضًا التشجيع على التجارة البينية بين بلدان المنطقة، وتحرير الاستثمار، وتحقيق التنمية والازدهار المشترك عبر تدعيم منظمات التعاون الإقليمية والتشجيع على اتفاقيات التجارة الحرة.

لم يقتصر تأثير الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على اقتصاد الدولتين فحسب، بل جلبت تحديات مهولة وأضفت مزيدًا من الضبابية على المشهد العالمي. وفي ضوء ذلك، تقتضي تسوية الحرب التجارية عمل كافة الأطراف على تعزيز الحوار، والتعاون، والبحث عن حلول مشتركة لإعلاء الاستقرار والتنمية المستدامة للاقتصاد العالمي.

مقالات لنفس الكاتب