array(1) { [0]=> object(stdClass)#13142 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 198

تعزيز العلاقات الخليجية مع الصين خيار استراتيجي لإدراك أن الصين قوة عظمى صاعدة

الأربعاء، 29 أيار 2024

بينما يمر العالم بتحولات جيوسياسية كبرى تعيد رسم خريطة القوى الدولية، تتصارع الولايات المتحدة مع تحديات صعبة تتمثل في صعود الصين المتسارع ومواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا.  وفي هذا السياق، يضطلع قادة دول مجلس التعاون الخليجي بجهود استراتيجية مستقلة، مع إيلاء أهمية بالغة للدبلوماسية والتهدئة السياسية وتنويع الشراكات. وترجع أغلب عمليات إعادة الاصطفاف داخل منطقة الشرق الأوسط والخليج إلى سعي دول المنطقة إلى تنويع سياساتها الخارجية. ويمكن أن نعزو هذه الرغبة الملحة إلى الصعود الذي حققته الاقتصادات الآسيوية قبل عقدين من الزمان، والأهم من ذلك، التحول الأمريكي صوب آسيا خلال عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.  فقد أدى الاعتقاد المتزايد بأن الولايات المتحدة تنأى بنفسها أو مترددة في التزامها كشريك أمني رئيسي للمنطقة إلى اندفاع دول المنطقة نحو البحث عن أطر سياسية جديدة لتعزيز أمنها. وفي ظل النمو الاقتصادي سريع الخطى الذي تشهده المنطقة الخليجية، تتباعد السياسات الوطنية الخليجية عن مسار المصالح الأمريكية حتى مع احتفاظ كلتا المنطقتين بتحالفات محسوبة ومدروسة بعناية في الشؤون الأمنية.

وفي خضم التحولات الجيوسياسية الكبيرة، تعمل الصين على قدم وساق على توطيد روابطها الاقتصادية مع البلدان الخليجية. حيث شهدت الطموحات الصينية داخل منطقة الشرق الأوسط تطورًا كبيرًا على مدى العقود القليلة الماضية. في حين تسعى دول الخليج وغيرها من دول المنطقة إلى الحفاظ على روابطها القوية مع الولايات المتحدة والعمل في الوقت ذاته على بناء علاقات أكثر قوة مع الجانب الصيني الذي يبعث باستمرار رسائل تُؤكد ليس فقط إمكانية القيام بذلك، بل وكونه أمرًا مرغوباً فيه، فمن شأن العلاقات القوية والمتنامية بين الصين ودول الشرق الأوسط أن تسحب المنطقة بعيدًا عن البُساط الأمريكي وأن تساعد في تدعيم هدف بكين الاستراتيجي بشأن معايشة عالم أكثر حيادية.

الصين والولايات المتحدة: شهدت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين طفرة كبيرة خلال العقدين التاليين لانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001م. واليوم، أضحت الصين واحدة من أكبر الأسواق التصديرية للسلع الأمريكية والخدمات، كما تعد الولايات المتحدة من بين أكبر الأسواق التصديرية للمنتجات الصينية. وعلى الرغم من الاستفادة التي حققها القطاع الاستهلاكي والشركات داخل الصين والولايات المتحدة على حد سواء، بيد أن المسؤولين داخل واشنطن يشعرون بقلق متزايد حيال المخاطر المحيطة بالمسيرة التنموية التي تقودها الدولة في بكين. فمن جانبه، أبقى الرئيس الأمريكي جون بايدن على التعريفات الجمركية المفروضة على السلع الصينية وطرح قيودًا تجارية جديدة في محاولة لإعادة تشكيل العلاقات الثنائية. وعلى الرغم من استفادة القطاع الاستهلاكي الأمريكي من طوفان السلع زهيدة التكلفة القادمة من الصين، إلا أن الملايين من المواطنين الأمريكيين فقدوا وظائفهم جراء المنافسة في مجال الواردات. في الوقت ذاته، أثارت استثمارات الشركات الصينية مخاوف تتعلق بالأمن القومي الأمريكي.

على مدار ثلاثين عامًا منذ تأسيس الجمهورية الشعبية في الصين عام 1949م، لم يكن هناك فعليًا تجارة بين بكين وواشنطن في ظل توتر العلاقات بين الإدارة الأمريكية والحكومة الشيوعية في بكين. وخلال عام 1979م، تم تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، مما ساهم في انتعاش التجارة الثنائية على مدار العقود الأربعة المتتالية لتقفز قيمتها من بضعة مليارات قليلة إلى مئات المليارات من الدولارات سنويًا.  تزامن ذلك مع بدء الصين عملية إصلاح اقتصادي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي تمتد لعقود طويلة. وقد ساهمت مسيرة الإصلاح الاقتصادي في البلاد في التخفيف من هيمنة الدولة على الاقتصاد والسماح للصناعات الخاصة بالتطور. في أثناء ذلك، حققت الواردات الأمريكية من السلع الصينية قفزة من 100 مليار دولار خلال عام 2001م، إلى أكثر من 500 مليار دولار خلال عام 2022م. وبحلول عام 2023م، أصبحت الصين رابع أكبر شريك تجاري للسلع الأمريكية، ورابع أكبر سوق للصادرات الأمريكية، وثاني أكبر مَصدر للواردات الأمريكية. وتُعزى بعض أسباب هذه الطفرة في حجم الواردات إلى الدور الصيني الحاسم داخل سلاسل الإمداد العالمية. حيث تقوم المصانع الصينية بتجميع المنتجات كي يتم تصديرها إلى الولايات المتحدة باستخدام مكونات من كافة أنحاء العالم. في الوقت ذاته، تساهم الصادرات الأمريكية الموجهة إلى الصين في دعم أكثر من مليون وظيفة داخل الولايات المتحدة وتجني الشركات الأمريكية مئات المليارات من الدولارات سنويًا من المبيعات داخل الصين.

وعلى الرغم من أن العلاقات التجارية بين البلدين جلبت منافع مؤكدة، إلا أنها وضعت الولايات المتحدة ودول أخرى أمام مجموعة من المشكلات. حيث يشعر صانعو السياسة الأمريكيون بقلق متزايد حيال الجهود الصينية للحصول على تكنولوجيا حساسة من أجل تحقيق أهداف السياسة الصناعية لبكين وتدعيم قدرات الجيش الصيني. وبدافع الخوف من أعمال التجسس، أعربت واشنطن عن قلقها حيال استخدام الشركات الأمريكية للتكنولوجيا الصينية بما قد يُعرض الأمن القومي الأمريكي إلى الخطر. علاوة على ذلك، تجادل الولايات المتحدة بأن الشركات المملوكة للدولة الصينية تعتبر أذرع للحكومة، وعلى النقيض من الشركات المنافسة لها داخل القطاع الخاص، لا تتخذ الشركات الحكومية قراراتها استنادًا على قوى السوق. وفي قلب هذا النزاع التجاري، تقف الأنظمة الاقتصادية المُتنافسة لكلا البلدين. فعلى الصعيد الصيني، تقوم الدولة، الواقعة تحت هيمنة الحزب الشيوعي الصيني، بالإشراف على المنظومة الاقتصادية من خلال الإدارة المركزية للمؤسسات المملوكة للدولة، والسيطرة على المؤسسات المالية، إلى جانب لجنة التخطيط الاقتصادي التي تنعم بنفوذ كبير.

من جانبها، تحاول الولايات المتحدة معالجة مخاوفها التجارية مع الصين عبر مزيج من المفاوضات، والنزاعات أمام منظمة التجارة العالمية، وزيادة التدقيق في الاستثمارات، والتعريفات، والسياسات الصناعية الخاصة بها. وبشكل عام، اتخذت العلاقات التجارية بين البلدين مسارًا أكثر عدائية على مدى العقد الماضي، حيث عكف صانعو السياسة الأمريكيون على رسم مسار أكثر حسمًا بشكل تدريجي. كما اتسع نطاق المخاوف التجارية طويلة الأمد التي أثارها المسؤولون والمدراء التنفيذيون الأمريكيون، لتصبح محور تركيز الحكومة الأمريكية في غمار المنافسة الاستراتيجية التي تخوضها أمام الصين. ومن ثم، دأبت السلطة التنفيذية والكونجرس الأمريكي على العمل من أجل مجابهة الممارسات الصينية التي تشكل تحديًا للريادة الاقتصادية للولايات المتحدة، وتشويه الأسواق، وعرقلة المنافسة العادلة. وتحت حكم الرئيس جون بايدن، اتخذت واشنطن الخطوات الأكثر جدية حتى الآن من أجل إضعاف المناورات الصينية لانتزاع الهيمنة الاقتصادية. فقد قام الرئيس الأمريكي بفرض ضوابط غير مسبوقة على الصادرات التي من شأنها أن تقيد قدرة بكين على الحصول على التكنولوجيا المتقدمة وحظر بعض الاستثمارات الأمريكية في التكنولوجيا الحساسة التي يخشى المشرعون استخدامها في تدعيم القدرات العسكرية المتنامية للصين. وقد أثارت رغبة الرئيس بايدن في مواصلة التصعيد الاقتصادي حيال الصين التساؤلات بشأن مستقبل التجارة بين البلدين.

الصين والدول الخليجية: برزت الصين كشريك تجاري مهم لدول مجلس التعاون الخليجي خلال العقود الأخيرة. وذلك بعد أن استطاعت بكين بهدوء الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة داخل المنطقة. بالتالي، وبدعم من الشراكة القوية في مجالات تجارة الطاقة والتكنولوجيا والاستثمار، وصل حجم التبادل التجاري بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي إلى 233 مليار دولار أمريكي في عام 2021م، وهو ما يمثل نموًا ملحوظًا مقارنة بـ 134 مليار دولار قبل عقد من الزمن. وعلى النقيض، تشير التقديرات إلى أن حجم التجارة الأمريكية مع دول مجلس التعاون الخليجي قد انخفض إلى حوالي 60 مليار دولار أمريكي في عام 2019م، مقارنة بحوالي 100 مليار دولار في عام 2011م. وعلى الرغم من أن اهتمام بكين بالمنطقة ربما كان دافعه الأساسي في البداية هو احتياجات الطاقة، إلا أن العلاقات تشهد الآن تنوعاً ملحوظًا. فقد أصبحت الصين شريكًا مهمًا للبلدان الخليجية في مجالات عدة، مثل الاستثمار في البنية التحتية، وتجارة السلع والخدمات، والتكنولوجيا الرقمية، والصناعات الدفاعية. ويبدو أن الصين مقدر لها الاضطلاع بدور مهم في النمو المستمر للصناعات الخليجية غير النفطية. فثمة تعاون وتآزر كبير بين حكومة الصين وحكومات دول مجلس التعاون الخليجي في مجالات التنمية المستدامة والمتوقعة؛ مثل السياحة، والاتصالات، والطاقة المتجددة، والمدن الذكية، والذكاء الاصطناعي، والشركات الموجهة نحو التكنولوجيا. كذلك سيحظى سكان الدول الخليجية من فئة الشباب الأصغر سنًا بفرصة الاطلاع بشكل متواصل على الحضور المُتنامي للتكنولوجيا الصينية، بدءًا من تطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي إلى منصات الدفع الرقمية.

منذ أن أصبحت الصين معتمدة بشكل كامل على استيراد احتياجاتها النفطية قبل أكثر من 20 عامًا (1993م)، اتجهت البلاد إلى استيراد نصف وارداتها من المعدن الأسود من منطقة الشرق الأوسط. وبشكل عام، تلعب واردات النفط والغاز الطبيعي الخليجية دورًا رئيسيًا في تدعيم استدامة النمو الاقتصادي المبهر للصين. بالتالي، وجدت الصين نفسها معتمدة بصورة مستمرة على منطقة لا تزال تحت هيمنة النفوذ الأمريكي. من ثم، عملت الصين على توطيد علاقاتها مع حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء، وقامت ببناء علاقات تجارية قوية على طول الطريق.

في يوليو 2004م، أعلنت الصين ومجلس التعاون الخليجي عن تدشين مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة. من شأن هذه الاتفاقية أن تمكن الجانبين من الانخراط التجاري وفقًا لمعاملة تجارية تفضيلية، مما يُعد دفعة كبيرة للعلاقات الاقتصادية بينهما. وقد أثمرت العديد من جولات المفاوضات عن اتفاقيات بشأن معظم القضايا المتعلقة بالتجارة. ورغم أن محور تركيزها انصب على المنتجات المرتبطة بالطاقة، إلا أنها لم تقتصر على ذلك، فبخلاف المنتجات البترولية، تم النظر أيضًا في المنتجات الخاصة بالزراعة، والفواكه، والبهارات، ومواد البناء، إلى جانب تجارة الخدمات. وتعتبر دول مجلس التعاون الخليجي والصين من بين أكبر الاقتصادات العالمية. حيث يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون 2.4 تريليون دولار، في حين أن نظيره الصيني يتعدى حاجز 17.7 تريليون دولار. ويشهد التبادل التجاري بين الجانبين تطورًا ملحوظًا، حيث تعتبر بكين أكبر شريكًا تجاريًا لدول الخليج. فيما تستحوذ منتجات الطاقة ومشتقاتها، والآلات، والأجهزة الكهربائية، والمعدات على الحصة الأكبر من التبادل التجاري الثنائي.

من ناحية أخرى، تعتبر الطموحات الخليجية من أجل تطوير فرص لإنتاج الطاقة النظيفة، عامل دعم أيضًا لمزيد من التقارب مع الجانب الصيني. حيث تعد بكين لاعبًا مهيمنًا عالميًا على صعيد سلاسل التوريد الخاصة بالطاقة النظيفة، فضلًا عن أنها تتحكم في حصص كبيرة من إنتاج البطاريات، وطاقة الرياح، والليثيوم. وقد سجلت صادرات الصين من البطاريات الليثيوم إلى دول مجلس التعاون الخليجي نموًا بنسبة 26 % خلال الفترة ما بين عام 2021 إلى عام 2002م، كما حققت زيادة قدرها 99% خلال الثلاثة أرباع الأولى من عام 2023م، كذلك يمثل التعاون الصيني-الخليجي في مجال الطاقة المتجددة نقطة إيجابية لصالح قطاع الأعمال والبيئة. وترتكز فرص السوق في مجال الطاقة المتجددة على الرؤى الوطنية وسعي دول مجلس التعاون الخليجي إلى التنويع الاقتصادي.

تشهد المنطقة، بدرجة ملحوظة، حماسًا كبيرًا لتطوير علاقات أوثق مع الصين. ويعود هذا الحماس جزئيًا إلى الإدراك العام بأن الصين باتت قوة عظمى صاعدة على الساحة العالمية، وأن تعزيز العلاقات معها يعد خيارًا استراتيجيًا حكيمًا. إلا أن الدافع الأبرز لهذا الحماس يكمن في القناعة المشتركة بأن الطاقة تشكل جسرًا للتعاون بين المنطقتين. ففي مطلع القرن الحادي والعشرين، برزت الصين كمستهلك رئيسي للطاقة عالميًا، يغذيها القطاع الصناعي المتنامي المتعطش إلى كميات هائلة من النفط. وكانت دول الخليج، باعتبارها المصدرة الوحيدة القادرة على تلبية هذا الطلب المتزايد، الشريك المثالي للصين. وشهدت أسواق الطاقة العالمية تغيرات عدة تمثلت في وصول الطلب على الطاقة إلى ذروته ثم استقراره في الولايات المتحدة، بينما انخفض في أوروبا. وبالمقابل، حافظ الطلب الصيني على وتيرة نموه المتسارعة، ليصبح المحرك الرئيسي لنمو الطلب العالمي على الطاقة. وبالتالي، بات من الضروري للدول المنتجة للطاقة تطوير علاقاتها مع المارد الصيني.

يُعد النمو الاقتصادي الصيني موضع إعجاب كبير وتقدير لحقيقة نجاح البلاد في تحقيق هذا النمو القوي دون أن تُقدم تنازلات للحركة الليبرالية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي عادة ما تصر الدول الغربية على أنها ضرورة حتمية من أجل تحقيق الازدهار والاستقرار. وتعتبر مبادرة الحزام والطريق ضربة بارعة للترويج للمشروع الصيني بعد النجاح في إقناع دولة تلو الأخرى داخل المنطقة بأنها قادرة على الاضطلاع بدور رئيسي في الحسابات الجيوستراتيجية لأكبر قوة صاعدة في العالم. على الجانب الآخر، كانت منطقة الشرق الأوسط تشعر باستياء متزايد تجاه الولايات المتحدة وخيبة أمل متنامية على مدار عقود طويلة بسبب سياسات واشنطن حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ومع بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر الماضي، أصبحت حالة الاستياء والغضب داخل المنطقة أكثر حدة.  ذلك إلى جانب القضايا الإقليمية الأخرى التي تعد محل خلاف بين واشنطن ودول مجلس التعاون الخليجي من بينها العراق، إيران، سوريا، واليمن. في ضوء هذا السياق، شهدت العلاقات التجارية بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي نموًا كبيرًا على مدار العقدين الماضيين.

الآفاق المستقبلية: تختلف المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين اختلافًا جذريًا عن تلك التي كانت قائمة بين واشنطن والاتحاد السوفيتي في الماضي. فلا توجد "حرب باردة" بين واشنطن وبكين. بالفعل، تعتبر الصين شريكًا تجاريًا رئيسيًا للولايات المتحدة وتعتمد الدولتان بشكل مفرط على احداهما الأخرى اقتصاديًا وماليًا. علاوة على ذلك، هناك عشرات الآلاف من الطلاب الصينيين يدرسون بالجامعات الأمريكية بخلاف الوضع مع الاتحاد السوفيتي سابقًا. حيث لم يكن هناك تفاعلًا يذكر بين واشنطن وموسكو (1917-1990م) سواء على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي. وعلى الرغم من المنافسة الاستراتيجية المحتدمة بين واشنطن وبكين، فلا تعارض الولايات المتحدة وجود علاقات اقتصادية، وتجارية، ومالية، وثيقة ومتنامية بين الصين ومجلس التعاون الخليجي.

على مدار العقدين الماضيين، تعاونت دول مجلس التعاون الخليجي والصين على بناء علاقاتهم الاقتصادية، والسياسية، والأمنية. وفي عام 2020م، تفوقت الصين على الاتحاد الأوروبي كأكبر شريك تجاري لمجلس التعاون الخليجي مع بلوغ حجم التجارة الثنائية نحو 161.4 مليار دولار.  كذلك يوفر مشروع البنية التحتية الضخم في المنطقة فُرصًا مربحة للشركات الصينية. وبينما تعمل دول مجلس التعاون الخليجي والصين على تعميق مشاركتهما، سيَتعين عليها التعامل مع مجموعة معقدة من العوامل الإقليمية والدولية التي ربما تُقيد توثيق علاقاتهما.

في السابق، لم يكن تحقيق التوازن في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين يشكل أولوية استراتيجية لدول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن تصاعد حدة التنافس الأمريكي-الصيني، واتساع نطاق البصمة الصينية عالميًا جعلها أكثر اضطرارًا لفعل ذلك الآن. فإن النجاح في الإبحار عبر هذا التغيير يمثل أهمية خاصة لدول مجلس التعاون الخليجي نظرًا لعلاقاتها الأمنية الوثيقة مع الولايات المتحدة. ومؤخرًا، أدى التصور السائد بشأن الانسحاب الأمريكي من المنطقة إلى سعي دول مجلس التعاون إلى تنويع شراكاتها الأمنية ومصادر تسليحها.

على صعيد الأمن الإقليمي، تلعب الصين دورًا ثانويًا في معالجة التحديات القوية التي تواجه منطقة الشرق الأوسط. ومن المؤكد أيضًا أن الجهود الأمريكية لم تفلح في تقليل التوترات داخل العديد من الصراعات الإقليمية. ومع ذلك، تظل واشنطن الشريك الأمني الرئيسي لدول مجلس التعاون الخليجي وشركائها الآخرين داخل المنطقة. وفي حين يتم تصوير الصين على أنها شريك أمني محتمل، إلا أن مصالحها الأساسية في منطقة الشرق الأوسط الأوسع تكمن في تعزيز نفوذها التجاري وتأمين إمدادات الطاقة، مع تجنب التورط في أي تعهدات أمنية مباشرة. وعلى الرغم من ذلك، تحتفظ الصين بقاعدة عسكرية صغيرة في جيبوتي لتقديم الدعم اللوجستي لجهود مكافحة القرصنة في خليج عدن وللمبادرات الإنسانية في إفريقيا.

أخيرًا، تسعى كافة دول الخليج إلى تنويع اقتصاداتها وتقليص حجم اعتمادها المفرط على عائدات النفط. وفي هذا السياق، يُشكل الاستثمار في رأس المال البشري استراتيجيتها الرئيسية. ونظرًا لجاذبية النموذج التعليمي الغربي، فإن بناء اقتصادات قائمة على المعرفة في الخليج يعني إقامة علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة. ويُفضل غالبية الطلاب الوافدين من منطقة الخليج الجامعات الأمريكية والأوروبية عن نظيراتها الصينية.

تفتخر العديد من دول مجلس التعاون الخليجي بأداء اقتصادي أكثر قوة وقدرات عسكرية أكثر صلابة عما كانت عليه في الماضي. كما تعكف البلدان الخليجية على تنويع شراكاتها وفق معطياتها وشروطها الخاصة. وكلما زاد إدراك واشنطن لهذا التحرك صوب الاستقلالية الاستراتيجية، كلما كان ذلك أفضل بالنسبة لطموحات المنطقة وأولوياتها. وفي صميم هويتها، تسعى المنطقة الخليجية إلى أن تصبح عالمًا يسود فيه التعاون لا المواجهة. ويتردد صدى هذه الروح من خلال تفضيل قادة المنطقة للحوار، والدبلوماسية، والتحالفات المتنوعة على التدخلات العسكرية وسياسات الحروب بالوكالة.

في ظل تحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي باتجاه الشرق، يتعمق إدراك المستثمرين الدوليين لأهمية كل من الصين ومنطقة الخليج كمحركات رئيسية للنمو في قطاعات تحولية استراتيجية على غرار التكنولوجيا والبنية التحتية والتمويل الأخضر .. وفي حين أن التفاعلات بين الشعوب تدعم التعاون بين الدول، فإن قطاع السفر والسياحة يُشكل مفتاحاً لتعزيز التكامل بين المنطقتين. وبحسب البيانات الصادرة عن منصات السفر الصينية شهدت الرحلات الجوية بين الصين ومجلس التعاون الخليجي ارتفاعاً ملحوظاً تجاوز ضعف مستوياتها ما قبل جائحة كوفيد -19، بما يعكس مدى جاذبية الأسواق الخليجية للسائحين القادمين من الصين.

في إطار سعي دول مجلس التعاون الخليجي إلى تعميق علاقاتها الاستراتيجية مع الصين، يبرز مفهوم الاندماج التدريجي والمحكم كعامل رئيسي لتحقيق المصالح المشتركة. ومما لا شك فيه أن المنافسة الأمريكية-الصينية ستلقي بظلالها على مجريات القرن الحادي والعشرين، ومن المتوقع أن تتجاوز تداعياتها الساحة الآسيوية لتؤثر على منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

على مدار الأعوام القليلة الماضية، سعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى عقد توازن بين علاقاتها مع واشنطن وتلك مع بكين. حيث من المرجح أن تواصل الولايات المتحدة الاضطلاع بدورها كشريك أمني رئيسي للمنطقة الخليجية في المستقبل القريب. وفي الوقت ذاته، من المؤكد أن مكانة الصين كشريك تجاري ومالي واقتصادي رئيسي للمنطقة الخليجية ستزداد عمقًا. فعلى مدار أكثر من عقدين، نجحت دول مجلس التعاون الخليجي في الحفاظ على هذا التوازن الدقيق بين واشنطن وبكين ومن غير المرجح أن يتغير هذا الوضع في أي وقت قريب.


 

مقالات لنفس الكاتب