array(1) { [0]=> object(stdClass)#13142 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 198

الصين يتنازعها تياران الأول يتبنى مفاهيم إنسانية للصعود والثاني يدعو لملء فراغ التراجع الأمريكي

الأربعاء، 29 أيار 2024

رغم ضخامة مساحة الإمبراطورية البريطانية التي امتدت على مساحة 35.5مليون كيلو متر مربع إلا إنها لم تتمكن-في ذروة مجدها-من الهيمنة على القرار الدولي بشكل منفرد؛ لوجود عدد من الإمبراطوريات التي كانت كثيرًا ما تزاحمها في بعض مناطق النفوذ مثل الإمبراطوريات الفرنسة أو الألمانية أو العثمانية أو الروسية، وغيرها من الإمبراطوريات التي ظهرت بشكل سابق أو موازي للإمبراطورية البريطانية.

 وفي العام 1945م، الذي شهد نهاية الحرب العالمية الثانية كان العالم على موعد مع تغيرات دراماتيكية في الخريطة الإمبراطورية اختفى فيه مسمى الإمبراطورية ذاته، وتقاسم فيه النفوذ دولتان عظميان هما أمريكا والاتحاد السوفييتي، ضمن قواعد جديدة لم تعد احتلال أراضي الدول الأضعف هي القاعدة المهيمنة، فيكفي أن تكون الدول الضعيفة تابعة سياسيًا أو أيدولوجيًا أو خاضعة اقتصاديًا لواحدة من القوتين لتدور في فلكها، ويكون قرارها مرهونًا لها.

ورغم أن الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية كان ندًا حقيقيًا للولايات المتحدة التي تقود الكتلة الرأسمالية على المستويين العسكري و الأيدولوجي؛ إلا أن القصور الاقتصادي والتكنولوجي و الصناعي والعلمي والتكلس السياسي الكامن في النظام الشيوعي جعل قدرته على  الاستمرار   كمنافس للهيمنة الأمريكية أمرًا مشكوكًا فيه، وهو ما حدث بالفعل وتفكك هذا الاتحاد  الذي ضم  15 دولة  في 26 ديسمبر 1991م، عقب إصدار  المجلس الأعلى للاتحاد السوفييتي الإعلان رقم (H-142) والذي  اعترف فيه باستقلال الجمهوريات السوفييتية ، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفييتي. 

وبتفكك الاتحاد السوفييتي هيمنت ولأول مرة في التاريخ دولة واحدة هي أمريكا على القرار العالمي.

الهيمنة الاقتصادية الغاية الرئيسية للاستعمار القديم والجديد:

ورغم أن الهيمنة العسكرية  كانت-عبر التاريخ الطريق الرئيس الذي يُمكّن دولة ما من   الاستيلاء على ما تشاء من المقدرات الاقتصادية لدولة أو عدة دول أضعف منها؛ إلا أن هذا الطريق أصبح في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية طريقًا أكثر كلفة؛  لأن كل الدول التي تحررت من الإمبراطوريات الغربية السابقة على الحرب أصبحت أعضاءً مستقلين ذوي سيادة في الأمم المتحدة، ولم تعد استباحة هذه السيادة أمرًا مقبولاً من قبل القانون ولا الرأي العام الدوليين؛ هذا ما جعل الاحتلال العسكري المباشر أمراً لا يتم اللجوء إليه إلا في حالات استثنائية.     

      ثمة عامل آخر جعل الاحتلال العسكري المباشر للهيمنة لا مبرر له، ألا وهو امتلاك القوى الغربية بقيادة أمريكا للبنية العلمية والتكنولوجية للثورة الصناعية الثالثة، ثم الرابعة التي بدأت إبان الثمانينات من القرن المنصرم وهي التي حملت تغييرات تكنولوجية واسعة في الاتصالات والمواصلات والصناعات التي تقودها شركات عابرة للقارات؛ بالصورة التي جعلت العالم كأنه قرية واحدة.  وبالطبع أصبح من يملك هذه الآليات قادرًا على الهيمنة الاقتصادية، مهما كان بعدها المكاني؛ وهو البعد الذي كان فيما مضى مدعاة للتواجد العسكري المباشر لتحقيق الهيمنة.       

من ناحية أخرى، أفرزت الثورات الصناعية الثالثة والرابعة مع الخريطة العالمية التي شكلتها الحرب العالمية الثانية آليات جديدة لتحكم القوى الغربية بقيادة أمريكا في الاقتصاد الدولي تمثلت في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والشركات العابرة للقارات، وسهل ذلك اختراق اقتصاديات الدول التي تحررت حديثًا من الهيمنة العسكرية الغربية، عبر الاستثمارات المباشرة فيها، أو عبر إغراقها في الديون، أو عبر ارتهان قراراتها السياسية بالمساعدات.  أو بالتحكم في اختيار النخبة السياسية الحاكمة التي تدير المقدرات الاقتصادية في هذه الدول.

 بدايات دخول أمريكا الملعب الدولي والهيمنة عليه:

   في عام 1916م، وفي قلب الحرب العالمية الأولى تسنم الاقتصاد الأمريكي ذروة الاقتصاد العالمي متجاوزًا نظيره البريطاني، وبعد انتهاء الحرب، استخدمت واشنطن ورقة الديون التي منحتها لحلفائها في هذه الحرب في إعادة تشكيل توازن القوى العالمية، وقامت باستدعاء القادة الأوروبيين إلى البيت الأبيض بدلاً من الاجتماع معهم في عواصمهم، وحصلت منهم على تنازلات كبيرة مقابل تحسين شروط السداد.

  وبحلول موعد مؤتمر واشنطن البحري الذي عقد في نوفمبر 1921م، وجدت حكومات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا نفسها مدينة لأمريكا بحوالي 9.8 مليار دولار وكان نصيب لندن وحدها 4,6 مليار دولار، وهو رقم ضخم جدًا حينها. 

وفي ذلك الوقت، أصبح نصف العالم-تقريبًا-مدينًا لأمريكا، ما أهلها لأن تصبح نقطة ارتكاز للنظام المالي العالمي الذي نجحت في الهيمنة عليه خلال السنوات التالية. وبالطبع لم يكن بوسع الأوروبيين لاسيما بريطانيا سوى القبول بحقيقة أن أمريكا أصبحت المتحكم الرئيسي بكل الشواغل الأمنية والمالية الخاصة بالدول الكبرى الأخرى في العالم. 

 وحتى تستطيع معظم هذه الدول سداد ديونها فقد كان عليها أن تستمع لنصيحة واشنطن بخفض إنفاقها الأمني والعسكري. وهكذا ظهر نظام أوروبي جديد يعيش تحت مظلة الحماية الأمريكية. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية أصبح الاقتصاد الأمريكي يمثل خمسي الاقتصاد العالمي، وهو ما جعل أمريكا حينها أغنى دولة في التاريخ.

التنين الصيني والنمو الاقتصادي غير المسبوق.

  لا شيء يدوم إلى الأبد. فالأساس الذي يقوم عليه النظام العالمي الحالي هو الهيمنة الاقتصادية الأمريكية المستمرة منذ أكثر من قرن؛ أصبح مهددًا الآن من دولة ما زالت تصنف نفسها رسميا ضمن الدول النامية، وهي "الصين" التي أضحت تخطو بخطى ثابتة نحو إنجاز هدف لم يحققه غيرها منذ قرن ألا وهو التكافؤ الاقتصادي مع أمريكا، وبالطبع لم تحقق الصين هذا التكافؤ بعد، ولكنها باتت قريبة منه. وحين يحدث، سيتغير شكل العالم حتمًا.

 وبنظرة سريعة للوراء نجد الصين في عام 1800م، كان الاقتصاد الأكبر في العالم. وكان حينها منفتحاً على اقتصاد السوق أكثر من أوروبا. إلا أنه تعثر خلال السنوات الـ 175 التالية، لرفض الحكام الولوج إلى موجة التصنيع التي عمت العالم. وبقي الاقتصاد الصيني بدائياً وزراعياً وحرفياً، وبقيت الأوضاع المعيشية سيئة.

القفز إلى موقع الصدارة:

   في عام 1976م، وبعد وفاة الزعيم "ماوتسي تونج" بدأ الزعيم الصيني الجديد "دنغ شياوبينغ" في إجراء إصلاحات غيرت وجهة الاقتصاد الصيني. فقد فتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية، وأعاد العلاقات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة في عام 1979م، وتدفقت الأموال على الصين من قبل المستثمرين الذين كانوا يتوقون للاستفادة من العمالة الرخيصة والإيجارات المنخفضة في هذا البلد مترامي الأطراف.  

 وبالفعل نما الاقتصاد الصيني خلال العقود الخمسة الماضية بشكل غير مسبوق، ويكفي أن نتذكر أن إجمالي الناتج المحلي للصين كان في عام 1952م، (67.9) مليار يوان فقط. ومنذ تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، نما الاقتصاد بسرعة حتى إنه تجاوز في عام 1986م، تريليون يوان.  ثم تجاوز في عام 2000 م، عشرة تريليونات يوان، وبحلول عام 2010م، تضاعف أربعة مرات ليصبح 41 تريليون يوان، ليحتل بذلك   المرتبة الثانية في العالم بدلاً من اليابان. وبانتهاء عام 2023م، كان قد تضاعف ثلاث مرات ونيف وقفز إلى 126.06 تريليون يوان (حوالي 17.71 تريليون دولار)  

 توقعات باحتلال الاقتصاد الصيني صدارة العالم في 2028 م. 

     رغم أن الناتج المحلي الأمريكي ما زال هو الأول عالميًا؛ إلا أنّ بيانات صندوق النقد الدولي (أبريل 2023) تشير إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي المحسوب وفقًا لتعادل القوة الشرائية وهو الناتج الحقيق بلغ في أمريكا 25,465 تريليون دولار في العام 2022م، بما يعادل   18,4% من الناتج العالمي المحسوب بهذه الطريقة، والبالغ 139 تريليون دولار في العام ذاته، بينما بلغ الناتج الصيني المناظر له نحو 30,217 ترليون دولار بما يوازي 21,7% من الناتج العالمي المحسوب بهذه الطريقة. أي أنّ الناتج الصيني تفوّق على نظيره الأمريكي بنحو 4,752 ترليون دولار عام 2022م.

وفيما يتعلق بصادرات السلع احتلت الصين المرتبة الأولى عالميًا منذ عام 2005 م، وحتى الآن. وتشير إحصاءات منظمة التجارة العالمية (World Trade Statistical Review 2023) إلى أنّ قيمة الصادرات السلعية الأمريكية بلغت نحو 2,065 ترليون دولار عام 2022م، مقارنةً بنحو 3,594 تريليون دولار صادرات صينية، أي أنّ الصادرات الصينية تزيد بنحو 1,529 تريليون دولار على نظيرتها الأمريكية. وبلغ العجز التجاري الذي بدأ الاقتصاد الأمريكي يعاني منه منذ سبعينيات القرن الماضي عام 2022م، نحو -1,311 ترليون دولار، مقارنةً بفائض صيني بلغ 878 مليار دولار في العام نفسه.    

من أجل ذلك، تشير التقديرات الصادرة عن مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال البريطاني، إلى أن الاقتصاد الصيني سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2028م.

تطور العلاقات التجارية بين القطبين: 

شهد حجم تبادل السلع التجارية بين الولايات المتحدة والصين نموًا سريعًا منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في الصين أواخر سبعينيات القرن العشرين. وتسارع نمو التجارة بينهما بعد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001م، وقد كان السائد في العلاقة التجارية بينهما هو استيراد الولايات المتحدة من الصين بضائع أكثر مما تصدره إليها، حتى وصل العجز التجاري للولايات المتحدة في السلع مع الصين إلى 375.6 مليار دولار في عام 2017م.

  وعلى الرغم من فرض إدارتي "جورج دبليو بوش" و " باراك أوباما" رسومًا وتعريفات جمركية على بعض السلع الصينية، والسعي لمكافحة الإغراق في سلع أخرى.  فقد استمرت التجارة بين البلدين في النمو خلال هاتين الإدارتين.  وقبيل نهاية إدارة "أوباما" في 2016م، وخلال الحملة الانتخابية وعد المرشح الرئاسي" ترامب" بخفض العجز التجاري الأمريكي مع الصين، والذي عزاه إلى الممارسات التجارية غير العادلة، كسرقة الملكية الفكرية وعدم وصول الشركات الأمريكية إلى السوق الصينية. 

 ترامب والتلويح بالحرب التجارية:

     بعد شهور من دخوله البيت الأبيض في أغسطس 2017م، أمر ترامب مكتب الممثل التجاري الأمريكي بالتحقيق في الممارسات الاقتصادية الصينية.   وفي مارس 2018م. ذكر ترامب أن «الحروب التجارية جيدة وسهلة الفوز»، وصدر في نفس الشهر تقرير التحقيق الذي طلبه ترامب، والذي حمل هجومًا على جوانب عديدة من السياسة الاقتصادية الصينية. وفي أعقاب إصدار هذا التقرير، أوعز ترامب بفرض رسوم جمركية على المنتجات الصينية، وبرفع دعوى ضد الصين لدى منظمة التجارة العالمية، وفرض قيودًا على الاستثمار الصيني في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة في أمريكا.

     وفي أبريل من عام 2018 م، غرد ترامب على تويتر قائلاً: لقد خسرنا الحرب منذ سنوات عديدة بسبب السفهاء والناس غير الكفوئين الذين يمثلون الولايات المتحدة ... لدينا عجز تجاري يبلغ 500 مليار دولار في السنة مع عجز آخر يبلغ 300 مليار دولار بسبب سرقة الملكية الفكرية، لا يمكننا السماح لهذا بالاستمرار.  وأضاف في احدى خطاباته اللاحقة " لن نسمح للصين باغتصاب بلادنا.. إنها أكبر سرقة في تاريخ العالم" 

بداية الحرب التجارية بين القطبين:

     في صبيحة 16 يونيو 2018 م، أطلقت الرصاصة الأولى في الحرب التجارية عندما أعلن مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة عن قائمة تعريفات جمركية بقيمة 50 مليار دولار تغطي أكثر من ألف سلعة صينية، وعلى الفور ردت الصين برد مماثل وأقرت تعريفات جمركية على 659 سلعة أمريكية بقيمة 50 مليار دولار.

  وشهدت الحرب التجارية في عهد الإدارة الأمريكية الحالية تصعيدًا واضحًا. فإذا كان عهد ترامب قد شهد عقوبات على اثنين من كبريات شركات الاتصالات وهما  ZTE وHuawei ، فقد تم في عهد بايدن إضافة مجموعة من الشركات الصينية في الحوسبة ، وتكنولوجيا المراقبة، والفضاء الجوي، والطائرات بدون طيار، والقطاعات الأخرى إلى قائمة العقوبات باعتبارها شركات معنية بالصناعات العسكرية. وكان الهدف هو تفادي منح التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة لشركات صينية لا يستبعد أن تكون ذات صلة بالإمدادات العسكرية للصين. 

    وفي أكتوبر 2022م، اتسع نظام العقوبات الأمريكية ليشمل إعلان الحظر على صادراتها من التكنولوجيا المتقدمة مثل أشباه الموصلات إلى الصين ويرجع ذلك جزئياً إلى سياسة الصين المعلنة المتمثلة في "الاندماج المدني العسكري". وقد ألمح صناع السياسات الأمريكية إلى إمكانية فرض ضوابط على الصناعات الاستراتيجية الأخرى مثل التكنولوجيا الحيوية / التصنيع الحيوي، غير أنه يتوقع أن يكون أثر العقوبات على أشباه الموصلات هو الأكبر على الاقتصاد الصيني.

وفي منتصف مايو 2024 م، قرر بايدن رفع التعريفة الجمركية على واردات صينية، من بينها السيارات الكهربائية والخلايا الشمسية وأشباه الموصلات والبطاريات المتقدمة، فيما وصفه بمحاولة لحماية الصناعات الأمريكية الأساسية من موجة من المنافسين الذين يتم دعمهم بشكل غير عادل من بكين. وأعلن أنه سيدعم رسميًا الإبقاء على التعريفات التي فرضها سلفه ترامب على بضائع صينية قيمتها أكثر من 300 مليار دولار، وذلك بعد أن انتقد بايدن التعريفة من قبل خلال حملته الانتخابية لعام 2020 م، ووصفها بأنها ضرائب على المستهلكين الأمريكيين.

الصين ترى أن الهدف خنق نموها:

     ترى الحكومة الصينية أن الهدف الحقيقي للحكومة الأمريكية من هذه الحرب التجارية هو خنق نمو الصين، وأن لهذه الحرب آثاراً سلبية على العالم. وتلقي الحكومة الصينية باللوم على الحكومة الأمريكية للبدء في هذا الصراع وجعل المفاوضات معقدة. وقد فرضت الصين أيضاً عدداً من القيود شملت الشركات الاستشارية الأمريكية وضوابط على تصدير المعادن الحيوية المستخدمة في تصنيع رقائق الكمبيوتر. وفي فبراير 2023م، وسعت الصين من قائمة حظر الشركات الأمريكية لديها لتشمل Raytheon and Lockheed Martin وهما من أكبر الشركات على مستوى العالم في مجال الفضاء والدفاع.

الوجه الآخر للحرب التجارية:

 استخف كثيرون بما كتبه آلان بيرفيت "Alain Payrefitte" في سنة 1973م، في مؤلفه (عندما تستيقظ الصين سيرتجف العالم). فالفقر يومها كان يعم الصين، والتحديات التي تواجهها كانت كثيرة ومعقدة، وكانت حينها تحتل وبجدارة موقعًا بين بلدان العالم الثالث.  

        وها هي نبوءة "بيرفيت" تتحقق فقد أصابت الرجفة القوة المهيمنة على العالم ألا وهي أمريكا من قدرات الصين الاقتصادية والعسكرية التي باتت تنمو بثبات يهدد بشكل واضح تربعها على عرش العالم، فها نحن نجد وزير خارجية أمريكا " بلينكن" يقول في أول لقاء له مع نظيره الصيني: «إن ما تقوم به الصين ضد الإيجور، وفي هونغ كونغ، وإزاء تايوان، والهجمات السيبرانية ضد أمريكا، والقيود الاقتصادية التي تفرضها على حلفائها، من شأنه أن يهدد النظام والاستقرار العالميين». وجاء الرد من نظيره الصيني يانغ جيشي، بقوله: "إن أمريكا لا تمثل الرأي العام الدولي، كما أن الغرب لا يمثل العالم، أما الهجمات السيبرانية فإن واشنطن هي الرائدة فيها"

الصين تطالب بطي صفحة الأحادية القطبية:

بدأت الصين التي تتكئ على تقدمها المبهر الذي حققته في العقود الأربعة المنصرمة تطالب بطي صفحة الأحادية القطبية والدخول إلى عالم متعدد الأقطاب. وحتى يضمن الطرف الأمريكي الحفاظ على هيمنته فإنه يسعى لاستمرار تفوقه العسكري، وهو ما تعكسه الموازنة الدفاعية الأمريكية للعام 2023م، التي بلغت 858 مليار دولار مقابل 225 مليار للصين.  إلا أن الصين لا تغفل أهمية الجانب العسكري في تحقيق المكانة الدولية التي تصبو إليها وتسعى لتطوير قدراتها العسكرية على نحو حثيث، ولعل ذلك يبرز بشكل واضح في جهودها الضخمة لتطوير قواتها البحرية وبناء أكبر عدد من حاملات الطائرات لتتمكن من تشكيل قوة بحرية -جوية تنافس نظيرتها الأمريكية. حتى أصبح بالفعل ثمة فجوة متزايدة بين البحريتين تصب في صالح الصين التي تمتلك الآن 350 سفينة حربية مقابل 293 لأمريكا. ويكفي أن قدرات البحرية الصينية تتوسع كل سنوات أربع بما يعادل حجم البحرية الفرنسية بأكملها.

 مستقبل الصراع:

    بات مستقبل الصراع الصيني – الأمريكي من أهم الملفات المطروحة على مسرح السياسة الدولية؛ وذلك في ضوء تنافس القطبين على الصعود لقمة هرم الاقتصاد العالمي، وهو ما انعكس جليًا على التنافس التكنولوجي بينهما إلى جانب محاولات الصين لكسر الاحتكار الأمريكي للأسلحة العسكرية المتطورة؛ وقد حملت جميع أوجه التنافس تلك سؤالاً طرحه العديد من السياسيين والمحللين في الوقت الحالي ألا وهو: هل العالم على شفير حرب باردة جديدة؟

    وإذا كانت إحدى تعريفات الحرب الباردة أنها "صراع دولي لا ينطوي على الجانب العسكري المباشر" أي أنها حرب يغلب عليها الجانبان الاقتصادي والسياسي، فإن سعي كل قطب منهما لكسب أكبر قدر من الهيمنة السياسية والاقتصادية ناهيك عن ذلك التنافس العسكري الذي يصعب إخفاؤه بينهما يعد مؤشرًا واضحًا على أن ما يجري بينهما قد يتحول من حرب تجارية معلنة إلى حرب باردة.  ورغم أن قادة الدولتين لم يترددا في الإعلان عن رفضهم لفكرة قيام حرب باردة بينهما، وأن العلاقة القائمة بينهما هي علاقة تنافس لا صراع، إلا أن العنصر الفيصل في العلاقات الدولية يظل هو الأفعال لا الأقوال، فكل التصريحات لا تطلعنا على النيات الخفية للسياسات الخارجية الفعلية للقطبين العالميين. 

أين نحن من صحوة التنين الصيني؟

      حتى يمكن فهم الكيفية التي ينبغي أن يتعامل بها  العقل السياسي العربي مع تداعيات الحرب التجارية القائمة بين الصين وأمريكا والتي تعد إرهاصات لارتجاف الغرب بقيادة أمريكا من صحوة التنين الصيني وسعيه لتهديد الهيمنة التاريخية للغرب على المقدرات الاقتصادية للدول الضعيفة التي تنتمي لها قارتي آسيا وإفريقيا؛ حتى يمكن فهم ذلك فلابد للعقل السياسي العربي أن يتخطى الوقوف عند الآثار الآنية لهذه الحرب، مثل انخفاض سعر  النفط أو المواد البتروكيميائية، أو الوقوف على طبيعة العلاقات العربية / الصينة الحالية القائمة على الصداقة والتعاون الاقتصادي وتحقيق المصالح المتبادلة،  فضلاً عن موقف الصين الذي يتماهى مع الموقف العربي في كثير من الأحيان نحو القضية الفلسطينية.  وانعكاس ذلك على الصورة الإيجابية التي ترسمها وسائل الإعلام العربية للصين-باستثناء الموقف من قضية أقلية الإيجور المسلمة بها -وانعكاسه أيضًا على الرأي العام العربي التي تشير إلى صورة ذهنية إيجابية للصين سواء على مستوى الجمهور العربي أم النخب العربية، مقارنة بصورة أمريكا القاتمة والتي ازدادت قتامة بعد دعمها المطلق لحرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة.

إغراء أن تُيمم الأمة العربية وجهها شرقا:

إن الوقوع تحت ضغط مجريات الأحداث والعلاقات الحالية مع القوتين العظميين، قد يغري العقل السياسي العربي بدعوة قادة دوله لأن تيمم وجها شرقا نحو الصين للإفلات من الهيمنة الامريكية التي جرّت على كثير من الدول العربية ويلات عسكرية واقتصادية، وأزمات سياسية؛ لكون الصين تتبنى موقفا عادلا من القضايا العربية، ولا تحمل العلاقة معها أي صدام عسكري أو إرثًا استعماريًا.

 ورغم أن هذه الدعوة قد تبدو مبررة في ضوء المجريات الحالية، إلا أنه لا ينبغي للعقل السياسي العربي أن يقرر المواقف التي ينبغي أن يتبعها قادة أمته نحو النتائج بعيدة الأثر الناجمة عن تبدل موازين القوة في العالم، على ضوء هذه المجريات، لأن هذه المجريات والعلاقات تفتقر إلى الديمومة، مما يجعل رسم قرارات الغد على هداها ضرب من سوء الفطن.

فقراءة تاريخ العلاقات الدولية - يقول لنا إن تيمم وجه الأمة شرقا، ستكون - على المدى البعيد - كمن استجار من الرمضاء بالنار ،  فصراع  الكبار على الهيمنة الاقتصادية على مقدرات الدول الضعيفة- عبر التاريخ-  يخبرنا أن الاحتماء بمظلة قوة جديدة  للإفلات من هيمنة قوة قائمة أخرى ظنا أن القوة الجديدة -وكما تدعي حينها- أنها  ستكون ناصرة للمظلومين، حامية للضعفاء، هو قرار مبني على  ظن كاذب؛  ذلك لأن  تلك القوة الجديدة ما تلبث- بعد أن تستدرج الضعفاء للاحتماء بمظلتها  الإنسانية والعادلة- أن يعلو صوت مصلحتها صوت العدالة  والإنسانية التي كانت تتشدق بها لإغراء الضعفاء للاحتماء بمظلتها تلك . وبالطبع لن تسمح لأحد وقع في مصيدة هيمنتها التحرر منها بسهولة، وإن استطاع فسيكون ثمن تحرره باهظا.

الهيمنة الاقتصادية تستدعي قدرات عسكرية تحميها: 

    والمتأمل في وضع التنين الصيني يجد أنه يدرك جيدا أن هيمنته الاقتصادية تحتاج إلى قوة عسكرية تحميها.  نعم قد لا يظهر هذا النزوع الي هذه الهيمنة العسكرية من قِبل التنين الصيني في الأمد القريب، لكن حدوثه في حالة التمكن من احتلال قمة الاقتصاد العالمي وإزاحة الغريم الأمريكي عنها أمر لا محيص منه. بل ثمة ارهاصات تشير لذلك بالفعل؛ فرغم أن الصين تعلن الآن تبنيها لمفاهيم إنسانية عالمية مثل "المصير المشترك" "دبلوماسية التعاطف" و"دبلوماسية التنمية" وهي المفاهيم التي تتخذها سلما للصعود داخل النسق الدولي كقطب عالمي جديد. وتروج لها في علاقتها بالدول العربية، إلا أن ثمة تيارا سائدا فيها يتزعمه أحد أبرز مفكريها وهو "وانغ جيسي"  يدعو الصين لملء الفراغ الناتج عن التراجع الأمريكي في المنطقة العربية، والتمدد دبلوماسياً واقتصادياً في المنطقة. بينما يرى مفكر صيني آخر هو" كو تشينغ"   رئيس معهد العلاقات الدولية الصيني، ضرورة الدفع بالولايات المتحدة للغرق في مشكلات الشرق الأوسط لكي تنصرف عن التضييق على المصالح الصينية في حوض الهادئ.  ولعل ذلك ما يفسر نزوع خبراء المشروع الصيني إلى توقع أن تشهد العشر سنوات القادمة تحولاً في استراتيجية "مبادرة الحزام والطريق" يتمثل في حقنها بجرعات أمنية وسياسية. وبالطبع مثل هذا الحقن سيتبعه جرعات عسكرية، ولو بعد حين.

 العقل السياسي العربي وضرورة إدراك مستقبل المشروع الصيني.

 على العقل السياسي العربي أن يضع في حسبانه أن المشروع الصيني ينطوي-ومن الآن- على استراتيجية توظيف قواها الناعمة للسيطرة على  اقتصاديات جنوب شرق آسيا، وشرق إفريقيا  والشرق الأوسط وصولا للاقتصادات الأوروبية لاسيما  الضعيفة منها ،  ولا يغتر  بالصورة المثالية التي تسوق بها الصين نفسها حاليا كرافعة لتحقيق الازهار  الاقتصادي في هذه البلدان،  فقد كان للولايات المتحدة الامريكية  صورة إيجابية  في العالم قبل انغماسها في الحروب الدولية، ولعل مبادئ ويلسون  الأربعة عشر  التي أعلنها في بداية 1918م،خير مثال على هذه البدايات المثالية،  غير أن هذه المثالية تلاشت مع سعي أمريكا لتحقيق مصالحها ولو استدعى ذلك سحق أي قوة -تقف في وجه هذه المصالح -من الوجود..  وها هي تمتلك إرثا من البغي جعلها تقف الآن على رأس الدول الأكثر كراهية في العالم، ومثل هذا الأمر قد يتكرر مع الصين في مراحل لاحقة حين تنغمس في صراعات سافرة مع أية قوة تقف في سبيل هيمنتها، مهما كانت عدالة موقف هذه القوة.

 وهكذا فمن السطحية ألا ينظر العقل السياسي العربي إلى أن هدف الحرب التجارية بين الصين وأمريكا-والتي ستتحول حتما لصراع على النفوذ والهيمنة-هو أن يزيح الطرف الأقوى من طريقة أية قوة تمنعه من الهيمنة على مقدرات الضعفاء، إنها صراع الأفيال التي قد يحتمل أن تتحقق خسارة واضحة لأحدها، لكن اليقين فيها أن العشب الذي يمثل ميدان المعركة سوف يكون الضحية الحتمية لهما.

إلى متى تحتل أمتنا موقع المفعول به؟!

   لا يعقل أن تقف للأبد الأمة العربية التي تمتد خيرات بلدانها على مساحة 13,5 مليون كيلو متر مربع -وهي مساحة تزيد كثيرا على مساحة أي من الدولتين الأعظم في عالم اليوم (أمريكا 9,8 والصين9,6) -في موقف التابع المنهك الذي يرتمي في حضن قوة ما هربا من بغى قوة أخرى، آملا أن تعاملها القوة البديلة بشيء من العدالة. وهو أمل بعيد المنال في ظل سيادة قانون بيّن يهيمن على تاريخ العلاقات بين الأمم يقول: إن القوة تصم صوت صاحبها عن العدالة، ولا تُسمعه إلا صوت المصلحة.

    لذا فعلى النخب التي تمثل العقل السياسي العربي أن تخط لقادة دولها -عبر جهود علمية مؤسسية-الأسس الناجعة التي تُمكّن من توحيد بلدان الأمة العربية تحت كيان واحد صلب، وتُمكّنها من تحقق نهوضها العلمي والتكنولوجي المفضي إلى النهوض الاقتصادي، الذي يجعلها تمتلك القدرة الذاتية على صناعة مقومات بقائها وارتقائها، وصناعة الأليات العسكرية المتقدمة التي تُمكّنها من دفع بغي أي قوة على أرضها أو على خيراتها ..  وتُمكّنها من فرض علاقات متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح العادلة مع القوى الدولية المحيطة بها.

    دون وحدة إمتنا، ودون امتلاكها تلكم المقومات؛ ستظل تحتل موقع المفعول به "المجرور" وليس الفاعل المرفوع في جملة العالم...  وبصورة ستهدد -حتما-بقائها ذاته كأمة.


 

مقالات لنفس الكاتب