"دول الخليج العربي حذرتنا من الخطر الإيراني ولكننا استغرقنا وقتاً طويلاً لفهم الحقيقة" كلمات جاءت على لسان أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية خلال كلمتها الافتتاحية لحوار المنامة الأمني السنوي الثامن عشر الذي ينظمه فرع المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بمملكة البحرين، ذلك المؤتمر الذي ضم وفوداً رفيعة المستوى بلغ عددها 400 شخصية من وزراء ومسؤولين أمنيين وقادة عسكريين وأكاديميين من 500 جهة على المستويين الإقليمي والعالمي، ولم تكن التهديدات الإيرانية سوى إحدى القضايا التي التقت عندها وجهات النظر أحياناً وتباينت أحايين أخرى ما بين مسؤولي وباحثي منطقة الخليج العربي ونظرائهم على المستويين الإقليمي والعالمي خلال سبع جلسات وجلسة افتتاحية على مدى ثلاثة أيام في الفترة من 18-20 نوفمبر 2022م ،فما هي مخرجات ذلك الحوار ودلالاته بالنسبة لأمن الخليج العربي والأمن الإقليمي عموماً؟
أولاً: تغير الرؤية الأوروبية لتهديدات أمن الخليج العربي
على مدى سنوات خلت أجمع الباحثون المعنيون بالسياسات الخارجية الأوروبية على أنها لا تبتعد كثيراً عن نظيرتها الأمريكية، فأحياناً توصف بأنها تفسير لتلك السياسات وأحياناً أخرى تكون تبريراً، وينطلق ذلك من واقع مفاده أن هناك أطر مؤسسية تضم الطرفين ومنها وجود 22 دولة تجمع بين عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ، بل أن أزمات الأمن الإقليمي في منطقة الخليج العربي سواء خلال حرب الناقلات إبان الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات، أو حرب تحرير دولة الكويت عام 1991م، وصولاً إلى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، قادت أمريكا خلالها تحالفات انضم إليها بعض الدول الأوروبية، بما قد ترك انطباعاً مؤداه أنه لا مجال لسياسات خارجية أوروبية متمايزة عن السياسة الأمريكية، بيد أن حديث أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية في حوار المنامة للعام 2022م كان قاطعاً وجاء مغاير الرؤية التقليدية إذ تضمن أربع نقاط ، الأولى: أنه بالرغم من أن جل حديث المسؤولة الأوروبية خلال تلك الجلسة كان حول تداعيات الأزمة الروسية على أوروبا، خاصة أمن الطاقة في ظل قطع روسيا حوالي 80% من إمدادات الغاز لأوروبا التي استطاعت توفير البدائل خلال فصل شتاء الحالي مع استمرار القلق بشأن إمكانية توفير تلك الإمدادات خلال الشتاء القادم، فإن التهديدات الإيرانية كانت حاضرة وبقوة عندما قالت وبصراحة غير مسبوقة إن "أوروبا تأخرت في فهم طبيعة التهديدات الإيرانية على الرغم من تعرض المدنيين في أبوظبي في يناير 2022م، لهجوم من خلال طائرات بدون طيار تم إطلاقها من اليمن، بالإضافة إلى مهاجمة ناقلة النفط قبالة سواحل عمان قبل انعقاد حوار المنامة بأيام قليلة من خلال طائرة مسيرة، فضلاً عن إمداد إيران لروسيا بتلك المسيرات استخدمتها في حربها في أوكرانيا"، والثانية: تأكيد المسؤولة الأوروبية على أنه مع منع إيران من تطوير أسلحة نووية يجب أيضاً منع خطر المسيرات الإيرانية والصواريخ الباليستية" باعتبار أن ذلك انتهاكاً للقانون الدولي، والثالثة: أن هناك رغبة أوروبية للمزيد من الانخراط في منطقة الخليج العربي على المستويات الاقتصادية والأمنية وخاصة الأمن البحري من أجل ضمان الشحن الآمن ضمن تحقيق الأمن الجماعي لمنطقة الخليج العربي وأوروبا، والرابعة: انطلاقاً من أهمية أمن الخليج العربي لأوروبا فإنه هناك توجه لتعيين ممثل خاص لمنطقة الخليج العربي.
ومع أهمية حديث المسؤولة الأوروبية، فإنها لم تعلن استراتيجية محددة حول طبيعة الدور الأوروبي المحتمل لمواجهة تهديدات الأمن الإقليمي في منطقة الخليج وعما إذا كان ذلك الدور سيكون من خلال المنظومة الأوروبية ككل أم من خلال الدول فرادى؟
ثانياً: قضية الطاقة: بين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية
كانت قضية الطاقة باكورة المناقشات في حوار المنامة من خلال جلسة ضمت مسؤولين على المستويين الإقليمي والعالمي، عكست الرؤية الخليجية عدة مضامين، أولها: إن القرارات التي تتخذها أوبك وأوبك بلس تؤسس على أسس اقتصادية بحتة بشأن سقف الإنتاج وتستهدف تحقيق استقرار سوق الطاقة العالمي، وثانيها: الأحداث التي يشهدها العالم حاليًا أدت لنتيجة مضمونها تغير الجغرافيا السياسية للطاقة ما يتطلب حتمية الحوار وليس الصراع لتحقيق أمن المنتجين والمستهلكين معًا، وثالثها: الصلة الوثيقة بين تحقيق أمن الطاقة مع مواجهة تأثيرات التغير المناخي في ظل وجود تحديات أخرى منها الأمن الغذائي إذ قدمت جائحة كورونا نموذجاً في التعاون الدولي لمواجهة تحد مشترك، ورابعها: أمن الطاقة لا يعني التغاضي عن تحقيق الازدهار الاقتصادي وما يتطلبه من إيلاء الاهتمام بالاستثمار في الطاقة الأحفورية لتلبية الطلب العالمي المتزايد، وخامسها: دول الخليج العربي لديها فرص سانحة لتطوير الطاقة الشمسية والرياح والطاقة النووية.
والجلسة رسخت لمسار مناقشات متوازن خلال الجلسات التالية في حوار المنامة كونها حددت وبوضوح أمرين، الأول: دول الخليج العربي تنتهج سياسات خارجية متوازنة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والنأي بذاتها عن الاصطفاف في هذا الاتجاه أو ذاك خلال الصراعات الدولية أو الإقليمية، والثاني: دول الخليج لم ولن تسعى لتوظيف ورقة الطاقة ضمن شراكاتها الاستراتيجية وعلاقاتها الدولية بل تؤسس على اعتبارات اقتصادية محضة، وقد لوحظ أن التهديدات الإيرانية كانت حاضرة ضمن مناقشات قضية أمن الطاقة وخاصة تطوير صواريخ باليستية وطائرات مسيرة لم تستهدف منشآت النفط في السعودية فحسب، بل طالت المنشآت المدنية في دولة الإمارات.
ثالثاً: تأثير النزاعات خارج المنطقة على أمن الشرق الأوسط
من خلال تحليل مضامين المداخلات في تلك الجلسة يمكن تحديد عدة نقاط الأولى: على الرغم من أن الصراع والتنافس بين القوى الأجنبية قد أدى إلى تشكيل الشرق الأوسط الحديث فإن الخلافات بين دول المنطقة قد تكون حافزاً لتلك القوى للتدخل المباشر في شؤون المنطقة من خلال دعم هذا الطرف أو ذاك مما يطيل أمد الصراعات الإقليمية، والثانية: عدم حسم الصراعات على المستوى الدولي سيكون له ارتدادات إقليمية بالغة الخطورة خاصة زيادة حدة التهديدات الأمنية مثل الإرهاب والتطرف وليس من مصلحة أي طرف سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي زيادة حالة عدم الاستقرار الإقليمي، والثالثة: أهمية قناعة الدول الكبرى الانخراط بالتراضي مع دول المنطقة لإيجاد حلول للمعضلات الأساسية التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، والرابعة: منطقة الخليج بحاجة إلى ترتيبات أمنية جديدة والاستفادة من الهيكليات الإقليمية في هذا الشأن مثل نموذج بحر البلطيق، وأيضاً تعزيز الحوار على غرار نموذج هلسنكي الذي تأسس على حل الخلافات بالطرق السلمية، وخامسها: مع أهمية وجود علاقات ممتدة بين أوروبا ودول الخليج العربي فإن الأزمة الأوكرانية قد أسفرت عن وجود حوار مكثف بين دول منطقة الشرق الأوسط وأوروبا حول الأمن الإقليمي وقضايا الطاقة وهو الحوار الذي تأخر كثيراً، وسادسها: أمن الخليج العربي لا ينفصل عن أمن مناطق الجوار الإقليمي فالنزاعات في شرق إفريقيا على سبيل المثال تنعكس بشكل مباشر على أمن المنطقة وهو ما يتطلب جهود وساطة سواء من خلال الدول الأوروبية أو مساهمات أمنية ملموسة من جانب بعض القوى الإقليمية ومن ذلك الجهود التي تضطلع بها مملكة البحرين لتحقيق أمن الملاحة البحرية في الخليج العربي بما ينعكس على أمن المحيط الهندي عموماً .
ومع أهمية تلك النقاط فإن ثمة تساؤلات مهمة قد أثيرت ومنها: هل تنامي الاهتمام الأوروبي بمنطقة الخليج سوف ينتهي إذا ما انتهت الأزمة الأوكرانية؟، وما هو تأثير دخول قوى أخرى على خط التفاعلات في منطقة الخليج العربي مثل الصين على الشراكات الخليجية-الغربية؟ وما هي المبادرات التي يمكن لدول الخليج العربي والشرق الأوسط الاضطلاع بها لإنهاء الأزمة الأوكرانية؟ وجميعها تساؤلات مهمة ولا يمكن تحديد إجابات قاطعة لها لسبب مؤداه أن الصراعات الكبرى والتي تتخذ بعداً عنيفاً تحمل في طياتها كافة الاحتمالات، ولكن لا يعني ذلك أنه لا توجد مبادرات أو أطر للعمل الجماعي بل كان الأمن الغذائي أحد مجالات ذلك التعاون سواء على الصعيد العالمي أو ضمن مجموعات عمل إقليمية لهذا الغرض.
رابعاً: تحديث أساليب الدفاع والتكنولوجيات الجديدة
حظيت قضية تأثير التكنولوجيا على تطوير أساليب الدفاع باهتمام كبير ومناقشات مستفيضة و أسفرت عن عدة نقاط وهي أن أمريكا حريصة على توظيف التكنولوجيا لحماية أمن منطقة الخليج من خلال دوريات تقوم بها طائرات بدون طيار مزودة بأجهزة استشعار بإمكانها تتبع آلاف السفن في منطقة الخليج والشرق الأوسط، وأنه بحلول العام المقبل سوف ترسل واشنطن أكثر من 100 سفينة لحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي و ذلك سوف يكون من خلال التعاون بين أمريكا وشركائها الذين سيوفرون 80% من السفن غير المأهولة و يتم ذلك من خلال تطبيق برامج متقدمة للذكاء الاصطناعي لحماية الأمن البحري كما أن تلك الإجراءات سوف تكون تحت مظلة فرقة العمل البحرية 159 الموجودة في البحرين ضمن القيادة المركزية الأمريكية، ولن تتسامح أمريكا مع أي محاولات لتهديد الملاحة البحرية في الخليج ، ومن جانبها تستهدف فرنسا دعم شركائها على المستوى الإقليمي ويعد ذلك ركناً أساسياً ضمن قانون البرمجة العسكرية القادم لفرنسا، بالإضافة لوجود مؤسسات أخرى معنية بالقضية ذاتها ومنها وكالة الابتكار الدفاعية الفرنسية التي تأسست عام 2018م، كما أن لدى فرنسا نظام للدفاع الإلكتروني واعتمدت عقيدة للأمن السيبراني عام 2021م،من ناحية ثانية فإن الطائرات الشراعية وصواريخ كروز تعد مؤشرات جديدة للقوة العسكرية الفرنسية، ومن جانبها ترى بريطانيا أن انعدام الاستقرار الإقليمي، والأزمة الأوكرانية، وحادث الطائرة الماليزية، و استخدام القنابل العنقودية في سوريا تطورات تحتم تحديث أساليب الدفاع، الذي يتحقق من خلال بناء شراكات في مجال الدفاع بالنظر لترابط التهديدات سواء في المحيطين الهندي والهادي أو في منطقة الخليج، كما أن اقتراب وصول البعثة البحرية البريطانية للبحرين يعكس الالتزام البريطاني بأمن الملاحة البحرية، ولابد من تعلم الدرس من الأزمة الأوكرانية بـأن تكون القوات المسلحة الحديثة أكثر مرونة براً وجواً وبحراً، وأخيراً فإن تكنولوجيا الحرب تتطلب توافر خمسة عناصر أساسية وهي القدرات الهجومية والقدرات الدفاعية وتكنولوجيا النقل والاتصالات والتحكم والسيطرة، وتلعب التكنولوجيا دوراً أساسياً في الحرب الحديثة فالذكاء الاصطناعي بإمكانه قراءة البيانات في دقيقة واحدة ويقدم معلومات لا تقدر بثمن، فضلاً عن أن المسيرات الحديثة بإمكانها تحديد مواقعها تلقائياً بما يعنيه ذلك من إعلان وفاة الأسلحة التقليدية مثل الدبابات، وسيكون الاعتماد خلال المستقبل بشكل كبير على الأسلحة غير المأهولة ومن ثم ترتيب قدرات الدول العسكرية سيكون وفقاً لامتلاكها لتلك المعدات، ولكن لايزال استخدام تلك الأسلحة على المستوى التكتيكي بينما على المستوى الاستراتيجي لاتزال بحاجة إلى إعادة تقييم، وبالرغم من ذلك فإن التساؤلات حول الضوابط الأخلاقية والقانونية بشأن استخدام تلك الأسلحة لاتزال تطرح ذاتها وبقوة.
خامساً: مبادرات الشرق الأوسط لحل النزاعات الإقليمية
في ظل التداخل الشديد بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي على نحو ما أوضحته الأزمة الأوكرانية الراهن، فإن الحديث عن مبادرات لحل النزاعات اكتسب أهمية خلال المناقشات، سواء على المستوى الفردي، ومن ذلك التزام العراق بتنفيذ القرار الأممي رقم 2178 بشأن حث الدول على مكافحة الإرهاب وتمويله الصادر عام 2014م، أو دور العراق في تسهيل المفاوضات بين السعودية وإيران، كما أن الصراع بين واشنطن وإيران ينعكس على الأراضي العراقية، إلا أن المداخلة اللافتة كانت للدكتور نايف فلاح الحجرف الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية عندما أكد على أن التأخير في إتمام الشراكة الخليجية- الأوروبية وخاصة منذ توقيع اتفاقية التعاون بين الجانبين عام 1988م يعود إلى الدول الأوروبية ذاتها وليس لدول الخليج العربي وأشار قائلاً "رسالتي للاتحاد الأوروبي هي نحن جاهزون عندما تكونوا أنتم جاهزين"، وأكد على أن تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في 25 مايو عام 1981م، بين الدول الخليجية كان أهم المبادرات الإقليمية خلال العقود الأربعة الماضية حيث استطاع على مدى 42 عاماً الصمود ومواجهة التحديات الأمنية سواء الثورة الإيرانية، أو مخاطر الحرب العراقية-الإيرانية، والغزو العراقي للكويت وصولاً إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، ثم تحولات العالم العربي عام 2011م، كما اضطلع بدوره في تحقيق استقرار سوق الطاقة العالمي، وكذلك التزاماته بمكافحة الإرهاب والعمل الإنساني لتؤكد دول الخليج العربية على أنها شريك موثوق به، إلا أن العالم يشهد الآن حالة من عدم اليقين وانعدام الأمن تحتاج لمبادرات جديدة تتضمن احترام سلامة الأراضي ووحدتها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وجميعها مضامين ومبادئ القانون الدولي وخاصة في ظل المشهد الاقتصادي العالمي الذي يوشك على الانهيار ، فضلاً عن قائمة طويلة من الأزمات الإقليمية، وتوجد العديد من المبادرات الإقليمية المهمة منها مبادرة مجلس التعاون لحل الصراع في اليمن، ومبادرة السلام العربية لعام 2002م، مبادرة السعودية الخضراء، وكذلك أوبك بلس وحتى حوار المنامة الأمني جميعها مبادرات إقليمية تستهدف إيجاد حلول للتحديات والصراعات الإقليمية، وأضاف في معرض رده على الأسئلة بأن هناك قضيتان تمثلان تحدياً للأمن الإقليمي في الوقت الراهن الأولى :حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وفق قرار حل الدولتين وأن مبادرة السلام العربية لعام 2002م، التي لا تزال الآلية الأفضل للمضي قدماً نحو الأمام في ذلك الملف، والثانية: السلوك الإيراني بتهديد أمن الخليج العربي من خلال البرامج النووية الإيرانية وكذلك تطوير الصواريخ الباليستية ودعم الميلشيات في دول الجوار الإقليمي، مؤكداً على أن دول الخليج العربي تريد من إيران أن تكون شريكاً مسؤولاً ولا تمانع دول الخليج العربي بأي حوار مع إيران يستهدف تحقيق الاستقرار الإقليمي، من ناحية ثالثة تم استعراض تجربة النرويج كدولة صغيرة تعاني من خلل في توازن القوى مع الجيران مما فرض عليها انتهاج سياسات محددة تعلي من احترام القانون الدولي وممارسة دور الوساطة في بعض النزاعات حيث كانت مقراً لمفاوضات أوسلو، ولكن نجاح جهود الوساطة يتركز دائماً على تحلي أطراف الصراعات بإرادة جادة لإنهائه بما يعني إيجاد أرضية مشتركة بين أطراف تلك الصراعات ،وتعد مخاوف دولة صغيرة مثل النرويج مشروعة حيث تقع أكبر ترسانة نووية لروسيا على بعد 100 كم من الحدود النرويجية بما يجعل الاعتماد على حلف الناتو مسألة استراتيجية، وتستهدف النرويج استمرار تأدية دور الشريك البرامجاتي لمن يشاركها مبدأ السلام الدائم من دول منطقة الشرق الأوسط.
سادساً: أمن نقاط الاختناق البحرية العالمية
في ظل الارتباط الوثيق بين أمن الممرات البحرية فقد شهد الحوار مناقشات مستفيضة من داخل منطقة الخليج وخارجها حول تلك القضية، فعلى صعيد تأثير الأزمة اليمنية على أمن الملاحة في مضيق باب المندب، أثيرت مسألة الممارسات الحوثية التي استهدفت تهديد الملاحة البحرية في ظل امتلاك اليمن لشريط ساحلي يبلغ 2400 كم، وقيام الحوثيين باستعراض بالطائرات المسيرة والصواريخ والرادارات ومنظومات التشويش وكذلك زرع الألغام والاعتماد على سفن التجسس التي أرسلتها إيران للبحر الأحمر في يوليو 2021م، وكذلك رفض كافة المبادرات الأممية لتفريغ حمولة نفط ناقلة صافر التي ترسو في البحر الأحمر منذ عام 2015م وتنذر بكارثة بيئية غير مسبوقة ويستخدمها الحوثيون كورقة للحصول على تنازلات من الحكومة اليمنية الشرعية، بالإضافة إلى استهداف الموانئ النفطية في اليمن، ويكمن الحل من وجهة النظر الرسمية اليمنية في ضرورة تصنيف دول المنطقة جماعة الحوثي كجماعة إرهابية، ومن اليمن إلى دولة الإمارات التي ترى أن أمن الملاحة البحرية أولوية لأمن الخليج في ظل الأهمية الاستراتيجية لمضيق هرمز وباب المندب كممرين لنقل النفط و التجارة العالمية، وتتمثل مصادر تهديد الملاحة البحرية في القرصنة، والاعتداء على ناقلات النفط في عامي 2019 و2021م، وتدرك دولة الإمارات أهمية استقرار دول الجوار الإقليمي ومن ثم فقد دعم بناء القدرات في الصومال ودول القرن الإفريقي، بالإضافة إلى التعاون مع الأمم المتحدة في جهودها لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وانضمت الإمارات إلى التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة البحرية بقيادة أمريكا عام 2019م بالإضافة إلى أنها مقر للبعثة الأوروبية لأمن الملاحة البحرية التي بدأت عملها في يناير 2020م،ومن الإمارات إلى سنغافورة، التي تعتبر أن التجارة البحرية أهم الشرايين الحيوية حيث تقع في تقاطع بحر الصين مع مضيق ملقا الذي يمر منه النفط الخام والغاز المسال بنسبة تقترب مما يمر في مضيق هرمز وبشكل ينافس قناة السويس، ومن ثم فإن سنغافورة التي تقع في منطقة تشهد صراعاً وتنافساً لا ينفصل عن دوائر أخرى للصراع في العالم ترى أنه يجب الالتزام بالقانون الدولي للبحار ، بالإضافة إلى تكامل جهود الدول في مجال الأمن البحري وتشارك سنغافورة في القوة المشتركة 151 في خليج عدن، فضلاً عن اتفاق ثلاث دول من مجموعة الآسيان بشأن التهديدات المشتركة، ولابد من التعرف على مضامين مدونات السلوك المطلوبة لحماية الملاحة الحرية في بحر الصين الجنوبي وهذا مهم بالنسبة للدول الصغرى حيث يمكنها من التعاون وتجنب سوء الفهم.
سابعاً: شراكات جديدة في الأمن بالشرق الأوسط
في ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من أزمات متشابكة فإن الحديث عن شراكات جديدة للأمن في المنطقة اكتسب أهمية من خلال ثلاثة تطورات، الأولى: وهي اتفاقات إبراهام للسلام والتي أوجدت واقعاً إقليمياً جديداً، والثانية: اتفاق ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان بالرغم من عدم وجود اعتراف متبادل بينهما ولكن الهدف تمثل في تطبيق قواعد القانون الدولي للبحار، والثالثة: اتفاق ترسيم الحدود بين مصر واليونان والذي استغرق التفاوض بشأنه 35 عاماً والذي لم يكن مجرد اتفاق بل أنه خط رابط بين إفريقيا وأوروبا يمكن استخدامه لأغراض اقتصادية منها إنشاء أنابيب لنقل الغاز ويعد مثالاً يحتذي لتطبيق القانون الدولي وحل المشكلات من خلال الحوار، وفي سياق متصل أثير الكثير من الجدل حول الالتزام الأمريكي بأمن منطقة الخليج والشرق الأوسط عموماً في ظل الواقع الدولي الراهن وتركيز واشنطن على مواجهة نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي، إلا أن أمريكا ترتكز على سياسات داخلية ذات انعكاسات خارجية وتتمثل في إقرار ثلاثة تشريعات ذات صلة بالبنية التحتية والاستثمار في العلوم بحوالي 280 مليون دولار، بالإضافة تكنولوجيا الطاقة النظيفة، وانعكست أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في استراتيجية الأمن القومي التي صدرت منذ شهرين وتتضمن مبادي منها دعم الشراكات، ممارسة الردع، انتهاج الدبلوماسية وخفض التوترات وتكامل الجهود، تعزيز القيم واحترام حقوق الإنسان، وهناك أمثلة عديدة لتطبيق مضامين تلك الاستراتيجية فهناك شراكات متميزة مع مصر والغرب ودول الخليج، وردع إيران من خلال إجراءات عديدة من بينها تحذير السعودية من هجوم محتمل ضدها من جانب إيران بداية نوفمبر 2022م، بالإضافة إلى جهود واشنطن لرأب الصدع الخليجي، ودعم إتمام الاتفاق البحري بين إسرائيل ولبنان، وسعي أمريكا لبناء قوة دفاع بحرية وجوية في منطقة الخليج من خلال الشراكات مع دولها، وعلى صعيد القيم لاتزال أمريكا هي أكبر مانح للمساعدات الإنسانية، كما تعمل على تعزيز الشراكات لمواجهة تحديات الأمن الغذائي والطاقة والتغير المناخي ومن ذلك الاتفاق بين أمريكا والإمارات للاستثمار في مجال الطاقة الخضراء بحوالي 100 مليون دولار، وعلى صعيد متصل تمثلت وجهة النظر البريطانية في التزام بريطانيا بأمن منطقة الخليج في ظل وصول حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى 44 مليار جنية استرليني، بالإضافة إلى استمرار المفاوضات مع دول الخليج بشأن إبرام اتفاقية تجارة حرة، واستعداد لندن للعمل مع دول الخليج العربية للانتقال إلى الطاقة الخضراء، وحماية الأمن البحري من خلال قيام فرقاطات البحرية الملكية العاملة في المياه الدولية جنوب إيران بتوقيف زوارق سريعة كانت تحمل صواريخ أرض- جو .
ثامناً: مبادرات الشرق الأوسط في سياق علمي
اختتم الحوار بمناقشات ضمت عدداً من باحثي المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بفروعه المختلفة لتقديم رؤى تقييمية لما تم طرحه من رؤى رسمية خلال الجلسات المختلفة، وقد أثاروا خمسة قضايا الأولى: هي أنه تمت مناقشة التهديدات الإيرانية بشكل مستفيض والتي تجاوزت حدود إقليم منطقة الخليج لتطال الأزمة الأوكرانية ولكن لا توجد سبل محددة لمواجهة الخطر الإيراني بل أن المراهنة على سقوط النظام الإيراني- الذي اختلفت الرؤى الأكاديمية بشأنه- من خلال المظاهرات الحالية تبدو حلا غير ناجع، والثانية: على الرغم من أن التهديدات الإقليمية والعالمية الراهنة تمثل تحدياً لكل من أمريكا وأوروبا على السواء فإن مقاربة الجانبين تبدو مختلفة حيث وجدت أوروبا ذاتها في مواجهة الأزمة الأوكرانية، وعلى الجانب الآخر سادت توجهات لدى الرأي العام الأوروبي مفادها أن قرار أوبك بلس على سبيل المثال تم اتخاذه من جانب أطرافه بسبب الضعف الأوروبي الحالي، والثالثة: التطورات العالمية الراهنة أتاحت لدول الخليج العربي ثلاث فرص وهي المشاركة في صنع القرار العالمي، وتوظيف المال الخليجي وخاصة أموال الصناديق السيادية الخليجية، دور دول الخليج المتنامي ضمن زيادة دور القوى المتوسطة في العالم عموماً خلال الأزمات، والرابعة: أن دول الخليج العربي استثمرت الكثير من الأموال في مجال بناء قدراتها الدفاعية وبالتالي من الدروس المهمة التي تعكسها الأزمة الأوكرانية أن انتهاج سياسة الحياد لم يعد أمراً ممكناً ولكن من خلال سياسات متعددة الأطراف ومن ذلك شراكاتها مع الناتو وغيرها من الشراكات الأخرى، والخامسة :أنه بالرغم من آلية العقوبات التي انتجهتها الدول الغربية للتعامل مع روسيا فإنها لا تقتصر على روسيا وإنما تطال مناطق أخرى من العالم وفي الوقت ذاته فإن تلك الآلية ليست فاعلة فروسيا بإمكانها استخدام أعلام الملائمة للتحايل في البحار، بالإضافة لعلاقات روسيا مع بعض دول الناتو مثل تركيا على سبيل المثال.
الخلاصات الاستراتيجية لمناقشات حوار المنامة الثامن عشر
- على الرغم من انتهاء الحدود بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي منذ سنوات مضت فإن الأزمة الأوكرانية وتداعياتها قد أعادت قضية التشابك بين مستويي الأمن إلى طاولة البحث والنقاش مجدداً، وخاصة دور دول الخليج وغيرها من الدول التي توصف بالقوى المتوسطة ضمن الصراعات الدولية، بل وقدرة تلك الدول على تأسيس أطر عمل ضمن مجموعات مصغرة من الدول لمواجهة تحديات راهنة مثل الأمن الغذائي وتأثير التغيرات المناخية.
- مع اتفاق كافة آراء المشاركين على مخاطر التهديدات الإيرانية والتي تجاوزت النطاق الإقليمي لدول الخليج العربي من خلال الأزمة الأوكرانية، فإنه لم يكن هناك اتفاق حول كيفية مواجهة تلك التهديدات بما يضمن أمن الحلفاء والشركاء، حتى مع إقرار الدول الأوروبية بأن التهديدات الإيرانية لا تختزل في المسألة النووية فحسب بل في استخدام إيران الطائرات بدون طيار لتهديد المنشآت المدنية وناقلات النفط في منطقة الخليج العربي، فضلاً عن تطوير الصواريخ البالستية.
- اتفاق كافة المداخلات على تأثير التكنولوجيا على واقع تركيبة وعمل الجيوش في الوقت الراهن بما يتطلب من الدول كافة تطوير العقيدة العسكرية بما يتلاءم مع تلك التكنولوجيا، إلا أن الأمر الأهم والذي لم تجب عنه المناقشات هو الجانب القانوني والأخلاقي لاستخدام الأسلحة الحديثة مثل الطائرات المسيرة وتكييف الجرائم التي يرتبها استخدام تلك الطائرات.
- أكدت المناقشات على محورية الطاقة ضمن العلاقات الدولية، ولم تكن الأزمة الأوكرانية منشأة لذلك الاهتمام بل كاشفة لأبعاده حيث كانت-ولاتزال-الطاقة هي محور التفاعلات وإعادة تشكيل العالم من خلال الشراكات والتكتلات المختلفة، بل أن الأزمات تثير تأويلات مختلفة بشأن القرارات ذات الصلة بالطاقة وأسس اتخاذ تلك القرارات.
- وأخيراً اتفق كافة المشاركين في الحوار على أنه لابد من الحد من الصراعات والتوترات من خلال مبادرات حقيقية تؤسس على حسن نوايا للأطراف التي تريد الانخراط في مفاوضات حقيقية لإنهاء تلك الصراعات التي تعددت وتشابكت على نحو غير مسبوق ولم تعد تهديداتها ترتبط بحدودها الجغرافية وتكمن مخاطرها في أن أطرافها لم تعد دولاً مسؤولة يمكن محاسبتها ضمن الأطر الدولية المتعارف عليها ولكن جماعات دون الدول لديها مشروعات عابرة للحدود ولم تنج أي دولة من تهديداتها مهما كانت إمكاناتها وقدراتها.