على مدار العقدين الماضيين، رسَّخت دول مجلس التعاون الخليجي مكانتها كوسيط ذي ثقل وفاعلية في مساعي تسوية الأزمات الإقليمية. وقد تعزز هذا الدور مؤخراً عبر الوساطة القطرية البارزة لإنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والجهود السعودية والإماراتية لقيادة صفقة تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، على سبيل المثال لا الحصر. هذا الصعود لدول الخليج في مجال الوساطة أزاح الاتحاد الأوروبي عن دائرة الضوء في هذا الميدان، لغياب دوره الملموس في الأزمات التي تفجرت مؤخراً. ومع أن بروكسل لا تزال تملك سلة من الأدوات السياسية والدبلوماسية والمدنية، إلا أنها لم تستثمر هذه الأدوات بالكامل، لا سيما في شراكتها مع الأطراف الخليجية الفاعلة. ومع ذلك، إذا أراد التكتل الأوروبي الإسهام في تهدئة التوترات التي تمس الأمن الأوروبي بصورة مباشرة - بدءاً من أزمة غزة والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الأوسع، وصولاً إلى ملف البرنامج النووي الإيراني والأزمات المستجدة في مناطق كجنوب آسيا ومضيق تايوان- فينبغي له السعي بجدية أكبر لدمج قدرته على حشد التأييد ومصداقيته المعيارية ونفوذه المالي، مع قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على النفاذ إلى القضايا الإقليمية وقنوات الوساطة التي تحتفظ بها. وإجمالاً، تتعدد المسارات العملية التي يمكن للاتحاد الأوروبي من خلالها دعم جهود الوساطة الخليجية مستفيداً من الآليات القائمة ضمن إطار الشراكة الخليجية-الأوروبية.
لماذا تعد الشراكة الأوروبية-الخليجية موضع أهمية؟
تلتقي العديد من المصالح الاستراتيجية لمجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي عبر طيف واسع من القضايا تشمل: استقرار منطقتي الشرق الأوسط والخليج، وضمان أمن الطاقة والممرات التجارية، والحد من موجات النزوح الجماعي. يضاف إلى ذلك، سعي الاتحاد الأوروبي للحيلولة دون امتداد تداعيات الصراعات إلى داخله.
في هذا الإطار، توفر اتفاقية التعاون الموقعة بين الطرفين عام 1989م، وبرنامج العمل المشترك الذي استُهل مؤخراً (2022-2027م)، إطاراً دبلوماسياً لتنسيق الحوار السياسي والاستجابات المشتركة على الصعيدين الأمني والإنساني. ويمكن لهذه المنصات أن تُستغل بفاعلية أكبر لدعم جهود الوساطة واحتواء النزاعات.
في الوقت ذاته، تحظى بعض الدول الخليجية برصيد فريد يؤهلها للعب دور الوسيط؛ فدولة قطر، على سبيل المثال، تمتلك سجلاً حافلاً في التوسط بقضايا الرهائن والتمرد والعلاقات الدبلوماسية بين الدول. بينما تحتفظ سلطنة عمان بقنوات اتصال مع طهران، ويُعرف عن الكويت دورها المعهود كوسيط في حل النزاعات العربية-العربية. وبناءً عليه، يمثل الجمع بين هذه المزايا نموذجاً متكاملاً يمزج بين قوة النفاذ الخليجية ومجموعة الأدوات الأوروبية.
يمكن أن نسلط الضوء على نقاط التلاقي الاستراتيجية بالنسبة للعديد من ساحات الصراع. فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وملف إعادة إعمار قطاع غزة، يعد الاتحاد الأوروبي مانحًا رئيسيًا للسلطة الفلسطينية ولديه بعثات مدنية ذات دور نشط مثل (بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية في رفح، وبعثة الشرطة الأوروبية في مدينة القدس) فضلًا عن التزاماته الإنسانية. من هذا المنطلق، يمكن للاتحاد توظيف أدواته المالية والتقنية والمكانة الشرعية التي يتمتع بها لدعم إجراءات بناء الثقة التي تقودها دول مجلس التعاون الخليجي. على سبيل المثال، يمكنه توفير أُطر منسقة للمانحين بخصوص إعادة إعمار غزة، مع التشديد على الرقابة المدنية وضمانات نزع السلاح وترتيبات السيادة التدريجية المرتبطة بمسارات سياسية محددة. كما أن خبرته في أدوات بناء الدولة ترفع من قيمته كشريك أساسي لضمان أن تخدم المساعدات الحل السياسي، بدلًا من أن تكون داعمة للمفسدين. وقد تجسد ذلك في التصريحات الأوروبية الأخيرة التي أظهرت استعداد الاتحاد لدعم الاستقرار في قطاع غزة والعمل مع المؤسسات الفلسطينية.
على صعيد الملف الإيراني، يتعامل الاتحاد الأوروبي بصفته وصيًا مؤسسيًا لهيكل "خطة العمل الشاملة المشتركة" -الاتفاق النووي الإيراني- ولديه خبرة وفيرة في استضافة محادثات الاتحاد الأوروبي ومجموعة "الترويكا" الأوروبية (المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا) مع طهران. من جانبها، تُبقي كافة دول مجلس التعاون الخليجي على خطوط اتصال مع طهران، وينخرط الجانبان في عملية من إعادة التقارب والمشاركة. بما يتيح المجال لفتح مسارات للمساعي الدبلوماسية الخلفية؛ بما في ذلك اتخاذ المزيد من الخطوات اللازمة لخفض التصعيد لتمهيد الطريق أمام إجراء اتفاق نووي جديد. كذلك، بإمكان الاتحاد الأوروبي تقديم خبراته في مجالات التحقق التقني، وتأطير إجراءات تخفيف العقوبات بشكل متسلسل، وإدارة المنتديات متعددة الأطراف، مما يمكّن الوسطاء الخليجيين والمحاورين الإيرانيين من اختبار تدابير بناء الثقة قبل استئناف المفاوضات الرسمية. بناءً على ذلك، فإن تنسيق الرسائل الصادرة - التي تجمع بين القدرة الخليجية على النفاذ الإقليمي والقوة المعيارية/القانونية للاتحاد الأوروبي - سيُسهم في تقليل مخاطر سوء التقدير أو سوء التواصل.
يشير التوتر المتفاقم بين الهند والباكستان إلى مسار محتمل آخر للحد من التداعيات العالمية للأزمات المتتابعة في جنوب آسيا. وفي حين أن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه أن يحل محل الأطراف الإقليمية المعنية، إلا أنه قادر على المساهمة في لجم التصعيد من خلال دعم الدبلوماسية الهادئة التي تُسهلها دول مجلس التعاون الخليجي، التي تستضيف جاليات آسيوية واسعة وتحافظ على علاقات جيدة مع كلا البلدين. ويشمل ذلك تمويل حوارات المسار الثاني، وتقديم الدعم الفني المحايد للخطوط الساخنة المخصصة للأزمات وآليات التحقيق في الحوادث. كما يمكن للمراكز البحثية والمؤسسات الأوروبية أن توفر منصة لاستضافة وضمان استدامة جهود بناء الثقة ضمن المسار الثاني، لتكون بذلك مكملاً للدبلوماسية المكوكية التي تضطلع بها دول مجلس التعاون الخليجي.
في سياق الأزمة القائمة بين الصين وتايوان وصراع القوى العظمى، أكد الاتحاد الأوروبي صراحةً أن مصالحه تستوجب استدامة الوضع الراهن في مضيق تايوان، معربًا عن رفضه القاطع لأي استخدام أحادي الجانب للقوة. وفي هذا الإطار، يمكن للاتحاد دعم مبادرات بناء الثقة الرامية إلى خفض التوتر، كفتح قنوات الاتصال العسكرية وتبني مقترحات مشتركة لتعزيز الشفافية أمام المحافل والمنتديات الدولية متعددة الأطراف. ويُضاف إلى ذلك إمكانية استثمار الاتحاد لمكانته العالمية وعلاقاته الدبلوماسية مع الشركاء الآسيويين، مما يُضاعف من الأثر الإيجابي لأي محادثات تستضيفها دول الخليج، والتي، بالرغم من عدم اضطلاعها بدور مباشر في المنظومة الأمنية لشرق آسيا، يمكنها الاضطلاع بدور راعٍ محايد للاجتماعات والحوارات.
وخلال السنوات الأخيرة، برز الدور المركزي للوسطاء الخليجيين في العديد من البؤر الساخنة الأخرى مثل: أزمات منطقة القرن الإفريقي، وليبيا، ولبنان، والسودان. ومع ذلك، فمن غير المنصف أن تُترك هذه الجهود منفردة دون مساندة، حيث يمكن الاستفادة من مجموعة أدوات الاتحاد الأوروبي في دعم مساعي بناء السلام، عبر آليات كبرامج إنفاذ القانون، وتقييم فاعلية العقوبات، وتمويل مشروعات إعادة الإعمار لمرحلة ما بعد النزاع، بهدف ترسيخ اتفاقيات وقف إطلاق النار وتحويلها إلى تسويات أكثر استدامة. وعلاوة على ذلك، تشكل شبكة الاتحاد الأوروبي الإنسانية والإنمائية الواسعة، والتزاماته الراسخة في هذه الميادين، دعائم أساسية لترسيخ الاستقرار في مرحلة ما بعد الصراع.
ثمة العديد من الآليات الملموسة الجديرة بالنظر ضمن إطار الشراكة الخليجية-الأوروبية:
في مقدمتها، تفعيل برنامج العمل الخليجي-الأوروبي المشترك ليشمل دعم جهود الوساطة وتسليط الضوء عليها. وبالرغم من أن البرنامج الحالي (2022-2027) يحدد مساراً للحوار السياسي والتعاون في إدارة الأزمات، فإنه يمكن إدراج بند متخصص في "دعم الوساطة". ويقتضي ذلك تخصيص بند مالي وتأسيس وحدة تنسيق تسهم في تمويل مبادرات الوساطة الخليجية، وتأمين الخبرات الأوروبية اللازمة لها، فضلاً عن دمج وحدات دعم الوساطة التابعة للاتحاد الأوروبي مع الفرق الخليجية في أثناء الجولات الدبلوماسية المكثفة. وقد جدد الاجتماع الوزاري المشترك للمجلس الخليجي-الأوروبي، الذي انعقد في سبتمبر 2025م، التأكيد على الأهمية والجدوى السياسية لهذه الشراكة، مما يجعل توثيق دعم الوساطة ضمن إطارها يمثل منطلقاً عملياً لها.
ثانيًا، يمكن لمجلس التعاون الخليجي الاستفادة بصورة أكبر من آلية دعم قدرات الوساطة التابعة لهيئة العمل الخارجي الأوروبي وغيرها من أدوات السياسة الأوروبية الأمنية والدفاعية المشتركة. وإلى جانب ذلك، تُبقي الهيئة الأوروبية على بعثات مدنية تقدم الدعم في مجال التحقق، والمتابعة، وترسيخ سيادة القانون مثل بعثة الاتحاد للمساعدة الحدودية، أو بعثته الشرطية أو خبرائه من المدنيين. فإن نشر هذه البعثات بالإضافة إلى ما يقوم به الوسطاء في دول مجلس التعاون الخليجي يضفي مزيدًا من المصداقية على جهود الوساطة ويمنحها آفاقًا للتنفيذ. فيما يوفر سجل الاتحاد الأوروبي الحافل في دعم الوساطة أساسًا مرجعيًا لصياغة إطار عمل متسلسل قابل للتنفيذ - بشأن مجريات ما بعد وقف إطلاق النار، وكيفية إعادة بناء المؤسسات، وكيفية ترسيخ الضمانات في القانون الدولي.
وهناك مجال ثالث يتمثل في المشاركة في تمويل ووضع شروط لحوافز إعادة الإعمار والتنمية. فإن وجود الاتحاد الأوروبي ضمن المعادلة يمنحها ثقلًا ماليًا وآليات فاعلة لمكافحة الفساد وتطبيقاً نافذاً للشفافية. بما يضمن ارتباط التمويلات الخاصة بإعادة الإعمار بمعايير وأسس مرجعية واضحة وخاضعة للمراقبة الدولية، مثل حماية البنية التحتية المدنية، وإعادة النازحين وسط ضمانات موضوعة. وعندما تقترن هذه الآلية بحرص مجلس التعاون الخليجي الدؤوب على تدعيم الاستقرار وضماناته الدبلوماسية، تغدو بمثابة مكافأة للامتثال وتتيح حوافز ملموسة لترتيبات السلام الوسيطة، بما يقطع الطريق أمام انتهازية الأطراف المفسدة المنتهجة للعنف. ولعل المقترحات الأخيرة المطروحة من قبل الاتحاد الأوروبي بشأن المشاركة في إعمار قطاع غزة تسلط الضوء على هذا الأمر.
رابعًا، يتوجب، على الطرفين ترسيخ الطابع المؤسسي لشبكات المسار 1.5 والمسار الثاني. ويستلزم ذلك تعزيز التعاون بين المراكز البحثية الأوروبية ونظيراتها الخليجية لمواصلة الحوارات المستمرة ضمن المسار الثاني حول طيف من القضايا، تشمل: التحقق النووي، وإجراءات بناء الثقة البحرية، والمعايير السيبرانية. إن تفعيل مثل هذه القنوات غير الرسمية من شأنه أن يوسع نطاق التفاوض ويضمن استمرارية قنوات الاتصال في أزمنة الأزمات. ويمكن لبرامج التمويل المشترك أن تتضمن تنظيم تدريبات محاكاة إقليمية وتكوين فرق بحثية سريعة الاستجابة مهمتها إعداد مخططات تنفيذية للوسطاء الفاعلين في الميدان.
خامسًا، يمكن العمل على إنشاء خلايا دبلوماسية مشتركة للاستجابة السريعة مثل خلية وساطة صغيرة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي يتم تفعيلها في أوقات التصعيد الحاد. فإن توافر مثل هذه الخلية- التي سيعمل بها وسطاء تابعين لهيئة العمل الخارجي الأوروبي، ومبعوثين خليجيين، وخبراء قانونيين، وخبراء التخطيط في المجال الإنساني -يضمن تنسيق الرسائل، ويتيح أدوات للاضطلاع بدور الوساطة، والتواصل مع المنظمات الأممية والإقليمية الأخرى مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. ومن بين المزايا الأخرى، تقليص الوقت المستغرق للاستجابة وتلاشي المواقف العامة غير المتناسقة التي قد تزيد الأمر سوءًا.
سادسًا، يمكن أن يخصص الجانبان حزم مشتركة للعقوبات/ وتخفيفها، ذات أسس مرجعية واضحة، بما يمنح الوسطاء خيارات أوسع وأكثر تنوعاً من الأدوات الصلبة والناعمة. كذلك من الممكن دمج أطر السياسة التابعة للاتحاد الأوروبي حول بناء السلام الشامل ضمن جهود الوساطة الخليجية؛ بما في ذلك الحصص بين الجنسين في فرق التفاوض المُشكلة، والبنود الخاصة بمشاركة المجتمع المدني، وآليات حماية الأقلية. حيث أن الوساطات التي تهمش من دور الفاعلين المحليين أو المرأة تكون أقل قدرة على الاستمرارية. وفي ضوء هذا، يمكن للمساعدة الفنية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي ان تضمن سير العمليات بما يتوافق مع المعايير الدولية.
مع ذلك، قد لا تخلو الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي من المخاطر. حيث يمكن أن يؤدي تباين الأولويات السياسية، على سبيل المثال، المقاربات المختلفة بشأن إيران، أو القضية الفلسطينية، إلى رسائل متضاربة. وفي سبيل الحد من هذه المخاطر، لابد أن يتبع الاتحاد الأوروبي بروتوكولات للتواصل تتسم بالشفافية ومتفق عليها سلفًا بما في ذلك البيانات المشتركة، التي قد تتطلب تنسيقًا خاصًا وموسعًا. وينبغي للاتحاد الأوروبي تفادي " التوسع غير المنضبط في الأهداف". بما يعني اقتران تمويل إعادة الإعمار بالمراقبة القابلة للتطبيق والمشاركة المحلية لضمان ألا ينتهي المطاف بالأموال إلى ترسيخ شبكات المحسوبية القائمة.
خلاصة القول هو أن الاتحاد الأوروبي لا يزال ينعم بالثقل من حيث القيمة المعيارية، والأدوات المالية، والآليات المؤسسية القادرة على تحويل نجاحات الوساطة الخليجية إلى تسويات مستدامة وقائمة على القواعد. وفي المقابل، تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بقدرة إقليمية فريدة على النفاذ، وشرعية ثقافية، ودبلوماسية مكوكية براغماتية تفتقر إليها أوروبا. من هنا، يمثل دمج أدوات الوساطة الأوروبية، كبعثات السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة ونفوذ التكتل بوصفه أكبر الجهات المانحة، مع قنوات الوساطة الخليجية، سبيلاً فعالاً لتعظيم جهود الوساطة الخليجية في إرساء السلام. ويتجلى الأثر الأعمق لهذا الدمج إذا ما تم إدراجه ضمن برنامج العمل المشترك القائم وهيكل الوساطة التابع لدائرة العمل الخارجي الأوروبية، مما يحد من المخاطر التي قد تطال أوروبا ويعزز دعائم السلام.
وفي الختام، فإن هذا التعاون العملي والممول بشكل مشترك بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي يرسي إطارًا لاستقرار طويل الأمد باتت غالبية أرجاء المعمورة في أمس الحاجة إليه.






