لطالما كان السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ركيزتين أساسيتين للأمن العالمي. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، لعب مجلس التعاون الخليجي، بصفته المنظمة شبه الإقليمية الأكثر نفوذاً في المنطقة، دوراً محورياً في عمليات الوساطة داخل العالم العربي، إقليمياً ودولياً، مستفيداً من روابطه الجغرافية ومدعوماً بإجراءات عملية. وقد وفرت خبراته وإنجازاته المتراكمة دعماً حاسماً لحل الصعوبات الإقليمية، وأسساً عملية للصين لتعميق التعاون الإقليمي وتعزيز التنمية السلمية.
أولاً: الممارسات متعددة المستويات والجهود البارزة لوساطة مجلس التعاون
منذ تأسيسه عام ١٩٨١م، دأب مجلس التعاون الخليجي على إعطاء الأولوية للحفاظ على الاستقرار الإقليمي كمهمة أساسية له. وقد امتدت جهود الوساطة التي بذلها المجلس عبر فترات تاريخية مختلفة، وتناولت قضايا متعددة، مُشكلةً نموذجاً عملياً مُحدد الأهداف وشاملاً.
على المستويين العربي والإقليمي، تُركز جهود الوساطة في مجلس التعاون الخليجي على حل النزاعات الداخلية والتوترات الطائفية. خلال الاضطرابات الكبرى التي شهدها الشرق الأوسط عام ٢٠١١م، سارع المجلس إلى تفعيل آلية الاستجابة الجماعية، فأرسل قوة "درع الجزيرة" المشتركة لمساعدة مملكة البحرين على استقرار الوضع. ومن خلال ثلاث مراجعات لخطة الوساطة، سهّلت توقيع اتفاق انتقال السلطة بين حكومة علي عبد الله صالح والمعارضة في اليمن، ممهدةً الطريق لتهدئة الصراع. وفي مجال التوازن الطائفي، خفف مجلس التعاون الخليجي من حدة التوترات السنية ـ الشيعية من خلال التنسيق الدبلوماسي. وبعد استعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، عزز التعاون العملي بين دول الخليج وإيران في المجالين السياسي والاقتصادي، مما عزز اتجاه المصالحة الإقليمية. علاوة على ذلك، دأب مجلس التعاون الخليجي على وضع القضية الفلسطينية في صميم أجندة الوساطة، داعمًا بنشاط "حل الدولتين"، ومؤديًا دورًا محوريًا في بناء التوافق في العالم العربي.
على الصعيد الدولي، استغل مجلس التعاون الخليجي طاقاته ومزاياه الجغرافية لبناء جسور الحوار. في مواجهة الجمود الذي أحدثته القضية النووية الإيرانية، شارك المجلس في إدارة الأزمات عبر وضع خطة أمنية لمضيق هرمز وتنسيق أسعار النفط العالمية، لتصبح قوة إقليمية مؤثرة في مسار هذه القضية. وفي قضايا مثل ليبيا وسوريا، تعاون مجلس التعاون الخليجي مع جامعة الدول العربية لتعزيز الحلول السياسية، وتعاون مع منظمات دولية كالأمم المتحدة، لبناء شبكة وساطة متعددة الجوانب. لم تقتصر هذه الجهود على الحد من مخاطر امتداد النزاعات العديدة، بل رسخت أيضًا مكانة مجلس التعاون الخليجي كعامل استقرار للأمن الإقليمي، مما ساهم في ظهور اتجاه جديد نحو هيمنة القوة الإقليمية في الشرق الأوسط.
ثانيًا: الأزمات الجوهرية في الشرق الأوسط وإمكانية حلها بالوساطة
تتميز العديد من النزاعات الحالية في الشرق الأوسط بطبيعتها بتشابك معقد للمصالح، بدلًا من صراعات جوهرية لا يمكن التوفيق بينها. وهذا يوفر مجالًا واقعيًا للوساطة.
يُعد الصراع الإسرائيلي / الفلسطيني الأزمة الأكثر تمثيلًا التي يمكن التوفيق بينها. لكونه جوهر الصراع الإقليمي، فإن جذوره تكمن في قضايا تاريخية مثل تقسيم الأراضي وإعادة توطين اللاجئين، لا في المعارضة الحضارية المتجذرة. وقد توصل المجتمع الدولي إلى إجماع واسع النطاق حول "حل الدولتين". ويمكن لمجلس التعاون الخليجي الاستفادة من القوة الجماعية لجامعة الدول العربية، وبدعم من أطراف ثالثة محايدة مثل الصين، لدفع إسرائيل وفلسطين إلى طاولة المفاوضات، وحل الجمود تدريجيًا من خلال تدابير ملموسة مثل التنفيذ التدريجي لاتفاقية الحدود وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
كما تتيح الحرب الأهلية اليمنية إمكانات كبيرة للوساطة. ينطوي هذا الصراع على مناورات بين قوى متعددة، لكن جميع الأطراف تشترك حاليًا في حاجة حقيقية إلى وقف إطلاق النار. ويمكن لمجلس التعاون الخليجي، بتجربته الناجحة في تعزيز عملية انتقالية في اليمن، التعاون مع آلية المبعوث الخاص للأمم المتحدة، والاستفادة من المساعدات الاقتصادية لتنسيق مصالح دول المنطقة مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مع الجماعة الحوثية، وإعادة بناء إطار سياسي شامل، ومكافحة تسلل الجماعات المتطرفة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى عملية منظمة "لوقف إطلاق النار والمصالحة وإعادة الإعمار".
أما أمن الشحن في البحر الأحمر، فيمكن لمجلس التعاون الخليجي أن ينشئ، بالتعاون مع منظمات الشحن الدولية، آلية مشتركة لمرافقة السفن في البحر الأحمر لمكافحة هجمات الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الجماعة الحوثية لضمان سلاسة سلسلة التوريد العالمية وتعافي الاقتصاد العالمي.
علاوة على ذلك، لا يزال هناك مجالٌ لمزيد من تخفيف التوترات بين دول الخليج وإيران. فرغم استعادة السعودية وإيران علاقاتهما الدبلوماسية، لا تزال هناك خلافاتٌ في مجالاتٍ مثل استخدام الطاقة النووية والنفوذ الإقليمي. ويمكن لمجلس التعاون الخليجي الاستفادة من مزاياه في الوساطة عن قرب، مستفيدًا من تجربة الصين الناجحة للمصالحة بين السعودية وإيران، للدفع بإنشاء آلية حوار أمني إقليمي خليجي، واستبدال التفكير الصفري المحصلة بمفهوم "الأمن المشترك"، وتحويل الخلافات الثنائية إلى مواضيع تفاوضية مؤسسية.
ثالثًا: سبل دعم الصين لجهود الوساطة في مجلس التعاون الخليجي
تشترك الصين ودول مجلس التعاون الخليجي في أساسٍ من التعاون قائم على "عدم التدخل في الشؤون الداخلية والمنفعة المتبادلة والفوز المشترك ". ولدعم جهود الوساطة، يمكن إنشاء نظام تعاوني متعدد الأطراف والأبعاد.
- تعزيز الثقة الاستراتيجية المتبادلة وتعزيز الدعم السياسي
ينبغي للصين ومجلس التعاون الخليجي الاستفادة من آلياتٍ مثل قمة الصين ومجلس التعاون الخليجي، ودمج دعم وساطة المجلس في الأجندة الأساسية للتعاون الثنائي. من خلال الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى، ينبغي للصين أن تُعرب بوضوح عن دعمها للهيكل الأمني الإقليمي الذي يقوده مجلس التعاون الخليجي، وأن تُكرّر مبادراتها في الوساطة في المحافل متعددة الأطراف كالأمم المتحدة، وأن تُعبّر، على وجه الخصوص، عن موقف محايد باستمرار بشأن القضية الفلسطينية، مما يُعطي مصداقية لجهود مجلس التعاون الخليجي لبناء توافق دولي. علاوة على ذلك، يُمكن للصين أن تُشجّع على إنشاء "منتدى حوار الوساطة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي"، بدعوة الدبلوماسيين والباحثين من كلا الجانبين للمشاركة في تبادلات منتظمة والاستفادة من الخبرة العملية لمجلس التعاون الخليجي في مجالات مثل التنسيق الطائفي وانتقال الأنظمة.
- تعميق التعاون العملي وترسيخ أسس الوساطة
يُعدّ التعاون الاقتصادي والمعيشي ضمانًا رئيسيًا لنجاح الوساطة. ينبغي للصين ومجلس التعاون الخليجي تسريع إتمام مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بينهما، وتعزيز قدرة مجلس التعاون الخليجي على التمكين الاقتصادي من خلال توسيع التعاون في مجالات مثل الطاقة والاقتصاد الرقمي والتنمية الخضراء. في مناطق الصراع مثل اليمن وغزة، يمكن للصين العمل مع دول مجلس التعاون الخليجي لتنفيذ مشاريع دعم سبل العيش، وتعزيز التآزر في إعادة بناء البنية التحتية وتقديم المساعدات الغذائية، مما يعزز فعالية الوساطة من خلال التنمية. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال الاستفادة من مبادرة "الحزام والطريق"، يمكن للصين تعزيز مشاريع الترابط مثل الموانئ والسكك الحديدية في الخليج، والحد من التشرذم الاقتصادي الإقليمي، والتخفيف من الأسباب الجذرية للصراع.
3- بناء منصة تعاونية وتحسين شبكة الوساطة
يمكن للصين تشجيع إنشاء آلية وساطة ثلاثية الأطراف تتكون من مجلس التعاون الخليجي والصين والأطراف المعنية، مما يتيح تعاونًا محددًا بشأن أزمات محددة. وفيما يتعلق بالقضية النووية الإيرانية، يمكن للصين العمل مع مجلس التعاون الخليجي لتنسيق مواقف إيران والغرب وتعزيز استئناف المفاوضات بشأن الاتفاق النووي الإيراني. وفيما يتعلق بالقضية الإسرائيلية ــ الفلسطينية، يمكن للصين تسهيل التنسيق بين مجلس التعاون الخليجي ودول بريكس، مما يخلق صوتًا دوليًا أكثر تأثيرًا لصنع السلام. علاوة على ذلك، ينبغي على الصين دعم التبادل الأكاديمي للخبرات والتعاون مع مراكز الفكر في دول مجلس التعاون الخليجي لإنشاء "مكاتب دراسات للوساطة في الشرق الأوسط"، تُلخص وتُعزز خبراتها المحلية في مجالات مثل الوساطة القبلية والحوار الديني، مما يُوفر "حل الشرق الأوسط" لحل الأزمات العالمية.
4- تعزيز الحلول الإقليمية المستقلة
يمكن للصين أن تدعم الوساطة العربية، على سبيل المثال، في قضية غزة، يُشجع مجلس التعاون الخليجي على العمل مع مصر والأردن ودول عربية أخرى لاقتراح خطة لوقف إطلاق النار، وتجنب الحلول الشاملة المفروضة من الخارج. كما يمكن للصين أن تعزز التعاون الأمني غير التقليدي، مثل العمل مع مجلس التعاون الخليجي لمواجهة التحديات العابرة للحدود الوطنية، من بينها تغير المناخ وندرة المياه، من خلال تقديم الدعم الفني لمبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي اقترحتها المملكة العربية السعودية.
الخلاصة
تُظهر ممارسات الوساطة في مجلس التعاون الخليجي أن الحوار والتشاور بقيادة المنظمات الإقليمية يُمثلان مسارًا فعالًا لحل الفوضى في الشرق الأوسط. وفي ظل "موجة المصالحة في الشرق الأوسط" وإصلاحات الحوكمة العالمية، لا يُمكن للتعاون بين الصين ومجلس التعاون الخليجي أن يضخ زخمًا جديدًا للسلام الإقليمي فحسب، بل يُرسي أيضًا نموذجًا جديدًا للوساطة في إطار التعاون بين بلدان الجنوب العالمي. ومن خلال جولات متعددة من الثقة السياسية المتبادلة، والتمكين الاقتصادي، وابتكار الآليات، سيدفع الجانبان الشرق الأوسط بالتأكيد إلى الخروج من "دوامة الصراع" ويُقدمان مساهمات مهمة في السلام والتنمية العالميين. لذلك، سيكون دعم الصين يركز على تمكين دول المنطقة من ممارسة الحكم الذاتي، ومن خلال التعاون الإنمائي والحوار متعدد الأطراف، تعزيز انتقال الشرق الأوسط من "إدارة الصراعات" إلى "بناء السلام". وفي المستقبل، قد يوفر دمج تجربة مجلس التعاون الخليجي مع المبادرات الأمنية العالمية التي اقترحتها الصين نموذجاً جديداً لحل "المعضلة الأمنية" وتحقيق الانتقال من "استقرار الخليج" إلى "السلام في الشرق الأوسط".






