تعتبر المسألة الليبية من بين القضايا المهمة على الساحة الإقليمية والدولية؛ فقد عمق انهيار النظام السابق سنة 2011م، التحديات الأمنية في المنطقة، وزادها انتشارًا، في ليبيا ودول الجوار الجغرافي التي تأثرت بشكل سلبي أو إيجابي"". وانتشرت التنظيمات الإرهابية المسلحة على مستقبل بناء البلاد وعدم قدرة الفرقاء الليبيين على الوصول لحل سياسي يتيح بناء أرضية اتفاق ينهي الجدل القائم حول من يحكم وكيف يحكم؛ وهذا رغم مرور سنوات من جولات الحوار الداخلية والإقليمية والدولية لتبقى العودة للتاريخ الليبي محطة مهمة لفهم حيثيات الحاضر؛ أي بعد انهيار نظام العقيد القذافي ودخول ليبيا في مرحلة انتقالية طويلة لم يتمكن الليبيون خلالها من تحقيق الاتفاق حول إدارتها ""؛نتيجة أن القبلية كانت ولا تزال أساس التفاعلات السياسية، ما يصعب من الخروج من منطق القبلية ومنه يكون التنبؤ بمستقبل بناء الدولة بمفهومها المعاصر المرتكز على المقاربة المؤسساتية كمقاربة مهمة في عملية البناء مرتبطًا بالعودة إلى هذا المعطى التاريخي بل الحجر الأساس في المجتمع الليبي""، ومن ثمَّ تصبح العلاقة ما بين متغير القبيلة ومتغير بناء الدولة علاقة عكسية. إن الاختلاف وحالة التشرذم السياسي والفوضى الأمنية التي تميز البيئة الليبية مند الانتفاضة يجهض محاولات بناء الدولة بمفهوم المؤسسة التي من شأنها العمل على استتباب الأمن كخطوة أساسية في مسار إعادة إعمار البلاد، وهو وضع ينتج العديد من التحديات الأمنية التي ستزيد الأمور السياسية والميدانية تعقيدًا؛ فغياب مؤسسة الجيش الوطني تدهور الأوضاع بما لا يعيد ليبيا للأمن والاستقرار، ويجعل من حكم الميليشيات هو السائد والمتحكم في مجريات الأوضاع ليكون ظهور وتمدد ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في ليبيا تحديًا أمنيًا آخر واجه البيئة الداخلية والإقليمية لليبيا، ومنه يكون حكم الميليشيات وتمدد التنظيمات الإرهابية متغيرات جديدة تضاف إلى متغيرات القبلية التي تعرقل عملية بناء الدولة. هذا دون إغفال التأثير السلبي للعامل الخارجي ـالتدخلات الخارجية المتعددة والمتكررة ـ "". والتصدي للتحديات وآليات تحقيق الاستقرار في ليبيا، وبحث وجود استراتيجية لحل الميليشيات، ومعضلة مكافحة الإرهاب، كذلك تحليل الأسباب التي تعترض وجود حل لهذه الميليشيات أثر على استقرار الدولة الليبية، وعلى هدي ما تقدم فإننا سنقسم هذه الورقة البحثية؛ المعضلة والأسباب على النحو الآتي:
أولاً: المعضلة: المعضلة هي: موقف صعب أو مشكلة مستعصية يواجه فيها الفرد صعوبة في اختيار الحل المناسب، وتُعرف أيضاً بأنها: مسألة تطرح احتمالين أو أكثر، ولا يُمكن اختيار أي منها بشكل قاطع. في المنطق تُعرف المعضلة: أنها حجة منطقية فيها مقولة رئيسة، ومقولة ثانوية، ونتيجة، بحيث تكون النتيجة صحيحة بغض النظر عن صحة أو خطأ القول الرئيس"". وتتضح المعضلة في العديد من التحديات لتحقيق الاستقرار في ليبيا: وبالتحليل المعمق للتحديات التي تواجه الاستقرار في البلاد وكيفية مواجهة الخلافات الداخلية والخارجية يتضح أنها متعددة ومستعصية وأهمها:
1- التحديات السياسية: نذكر من التحديات السياسية عملية إعادة البناء السياسي والمؤسساتي للدولة الليبية
ما يلي:
أ- إرهاصات النظام السابق نموذج للدولة الفاشلة وهو ما يجعلنا نتعامل مع شروط ومقتضيات بناء الدولة في شقها السياسي المؤسساتي وليس مجرد بناء للديمقراطية "". وبالعودة في ذلك إلى جدول مؤشرات هشاشة الدولة، حيثُ نجد هنا أربع فئات أساسية محددة لفشل الدولة: أمنية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية؛ ويتم فحص كل فئة باستخدام متغيرين أساسيين هما: الفاعلية والشرعية ونبرر ذلك بأن الدولة التسلطية في ليبيا مثلث حالة من فشل الدولة غير معترف بها، وبذلك فإن رحيل النظام أدى بهذه الحالة إلى المزيد من التفاقم وفي هذا السياق وَضع "وليام زارتمان" أطروحة مفادها أن عدم فعالية المؤسسات الديمقراطية في الدول الإفريقية ليست بالضرورة هي سبب انهيارها ما دامت المؤسسات لا تعمل في الأصل بفعالية أفضل في الدول التي ينظر إليها على أنها غير منهارة ...إلخ "".
ب ـ اعتبرت ليبيا فيما بعد سقوط النظام بلدًا غير مستقر تسوده التنافسات السياسية والإيديولوجية القاسية، وأفرز الوضع الليبي ظواهر عديدة؛ أبرزها التدهور السياسي، وفقدان الأمن، وانتشار الميليشيات، والسلاح خارج إطار الشرعية، وغياب الخدمات، وانتشار الفساد، وتصاعد الأزمات السياسية، وضعف المؤسسات وخصوصًا الأمنية والعسكرية، ورافقت ذلك تحولات بنيوية في طبيعة الحكم قادت إلى تبلور طبقات سياسية منفصلة عن بنية المجتمع نفسه، وظهرت مخاوف من أن تضرب المصالحة الوطنية بسبب قانون العزل السياسي الذي تم إقراره تحت تهديد السلاح ومحاصرة واقتحام وزارتي العدل والخارجية من قبل الميليشيات المسلحة إضافة إلى أن اعتماد هذا المنهج أسهم في تهميش جزء كبير من الشعب الليبي مهددًا وحدته، وتجدر الإشارة إلى أن تداعيات هذا القانون ظهرت واضحة في عدد من الأزمات الأخيرة"".
ج ـ غياب الإرادة السياسية للمؤسسات السياسية للدولة الليبية في المرحلة الانتقالية ابتداء من المجلس الوطني الانتقالي، مرورًا بالمؤتمر الوطني، وانتهاءً بالبرلمان...إلخ، وكذا مسودة الدستور المقترحة، التي يشكل بقاؤها عالقة بين الرفض والترحيب عائقا أمام نجاح تأسيس دستور توافقي. وقد صوت أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، بالموافقة على مسودة هذا الدستور بأغلبية تمثلت في 43 صوتًا من أصل 44 عضوًا حضروا جلسة الاقتراع؛ وبالرغـم من صحة وقانونية التصويت لـم تلق توافقًا وإجماعًا، واعتبر عضو المجلس هشام حمادي في تصريح لموقع "ليبيا الخبر ": أن مشروع الدستور لـم يصدر بطريقة قانونية، ولم يكتب بالتوافق مع كل المكونات الثقافية التي من بينها التبو والطوارق بحسب ما جاء في الإعلان الدستوري"".
دـ استمرار الانقسام في ليبيا فيما بين الشرق والغرب والجنوب، وهو الذي أفقد الدولة سيطرتها على نطاقها الجغرافي، لتتحول أراضيها إلى مناطق فراغ للإرهاب وفوضى السلاح، بعد ذلك يبدأ النظام الدولي والإقليمي بالتفكك "".
هـ ضعف دور القوى السياسية والمجتمع المدني، خاصة وأن قادة المجتمع في 17 فبراير تمثلت في أيديولوجية وسياسة ارتكزت على توظيف الدين مصدرًا للقيم في المجتمع، وكان ذلك واضحًا من خلال قيام كل من الأحزاب والسياسيين بإعلان التزامهم بالشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع، واستخدام الدين وسيلة للتحشيد ومواجهة الخصوم السياسيين، وامتنعوا عن اتخاذ مواقف فاعلة وصريحة ضدَّ ممارسات استهجنها الشارع ومنظمات المجتمع المدني، لا لشيء غير أن من قام بها جماعات إسلامية متشددة.
ثانيًا: الأسباب: في إطار هذا السياق تحاول هذه الورقة الإجابة على عدة أسباب من قبيل ما هي أهم تلك الأسباب؟ وما مدى كفايتها لتفسير دور تلك الكيانات في ضوء ما حمله الواقع من تغيرات؟ وكيف تؤثر تلك الأسباب في ليبيا، وفي تخصيص القيم، وبخاصة في ضوء، عدم التماثل فيما بينهاAsymmetries ؟ بمعنى آخر من المستفيد، ومن الخاسر؟ وكيف يتم ذلك؟ وكيف يؤثر في البلاد؟ ما طبيعة العلاقة بينها؟ غير أنه قبل الإجابة على تلك الأسباب يصبح من الضروري تحليل تلك الأسباب؟
-1 الأسباب الأمنية والعسكرية: يعدُّ الملف الأمني من أبرز التحديات أمام عملية البناء السياسي والمؤسساتي في ليبيا، ويظهر الواقع الليبي أنه لا توجد سلطة واحدة تحتكر العنف كما أنه ليس هناك إجماع حول من هو مخول بتشكيل سلطة عسكرية وكل هذه الاعتبارات أسهمت في إخفاق هيكلة الجيش الليبي من جديد، غير أن الشروع في عملية تحقيق الاستقرار الأمني الذي تستند عليه عملية بناء النظام السياسي تعترضه جملة من التحديات الأمنية:
أ- انتشار السلاح والمجموعات المسلحة: أحد أهم الأخطار التي أدت لتعثر عملية الانتقال السياسي هو التوفر الهائل للأسلحة من كل الأنواع الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وتوظيف الكتائب والمجموعات المسلحة لهذه الترسانة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية كما تم استخدامها للتناحر بين الكتائب؛ مما جعلها تقف حجر عثرة أمام بناء الدولة، وما يزيد الأمر تعقيدًا هو تركز هذا السلاح بكميات كبيرة في أيدي مجموعات ذات نزعة قبلية أو دينية لا تخضع للسلطات المركزية وترتبط بعلاقات وثيقة بأنظمة داخلية وخارجية، علاوة على انتشار الجماعات ذات التوجه الديني والتي تم تصنيفها على أنها من أكثر المجموعات تطرفًا، كل ذلك يجعل من الصعب الحديث عن الانتقال السياسي وسيادة القانون وتحقيق العدالة الانتقالية في ظل هذه الظروف إلا إذا تم السيطرة عليها ونزع السلاح واستبدالها بجيش نظامي موحد ، ولاءهُ للوطن بما يضمن سير العمل الديمقراطي وتضمن السبيل أمام تحقيق العدالة والاستقرار للدولة"".
ب- مظاهر الانفلات الأمني في ليبيا: وتمحور التحدي الأكبر الذي واجه الحكومة وبخاصة انتشار السلاح، ووجود ما يقارب 1700 مجموعة مسلحة ظهرت مُنذ اندلاع الحرب الأهلية؛ فاستمرار الفوضى دفع منظمة الأمم المتحدة إلى إصدار تقرير تعرب فيه عن قلقها البالغ إزاء تنامي حدة العنف في البلاد. وأشارت الوثيقة إلى استمرار الاغتيالات ومواصلة أنشطة المجموعات المسلحة، فضلًا عن الهجمات المنفذة ضد أعضاء السلك الدبلوماسي في جميع أنحاء ليبيا""، وأدى هذا الانفلات إلى تفكك الدولة سواء بدفع من الداخل أو من خلال التمرد والخلافات المتواصلة حول شرعية حكومة الوحدة الوطنية، أو المفروضة خارجيًا من قوى إقليمية أو دولية في تلك الفترة"".
ج- ضعف الأجهزة الأمنية "نظرًا لعدم وجود تشريع يحمي رجال الأمن في أثناء تأدية واجباتهم؛ مما أضعف أداءهم وجعلهم عاجزين أمام الخروقات القانونية"". كذلك تضخم الجهاز الأمني؛ مما أرهق ميزانية الدولة وأثر على الأداء الوظيفي للإدارة الرسمية""، مما أدى إلى عجز الحكومة في ضبط الوضع الأمني وإعادة الهيبة للأجهزة الأمنية السيادية؛ فقد أصبحت الساحة الليبية منتهكة بالكامل لجواسيس من مختلف أنحاء العالم. وأن انتشار السلاح والمتاجرة به على نطاق واسع، حيث يشكل ذلك عقبة كبرى أمام الجهاز القضائي لإنجاز إجراءات العدالة ونشر الأمن، كما أنه أنقص من هيبة الدولة في الداخل والخارج""، فجعلها مركز أطماع أمام عدة شركات أجنبية تسعى لتحقيق مشاريع الإعمار وتوفير البنى التحتية الأساسية وغيرها من مشاريع التنمية.
2- الأسباب الاقتصادية: يبرز التحدي المتعلق بإعادة تدوير الاقتصاد وتفعيل مؤسسات الإنتاج والخدمات العامة والخاصة كأهم الأسباب التي تعرقل عودة الحياة الطبيعية إلى البلاد""؛ وذلك بسبب العملية السياسية المتوقفة وانعدام الأمن حيث إنه عائق كبير يقف في وجه التقدم الاقتصادي مما يدل على حجم التحديات التي يواجهها الاقتصاد الليبي والتي من أهمها:
- الدور التوزيعي للدولة الذي ترسخ خلال النظام السابق، وضعف القطاع الخاص وعجزه عن تأدية دور اقتصادي بنَّاء، وازدياد معدل الفقر بعد 2011م، واستمرار وجود ظاهرة الفساد ونهب المال العام التي زادت ترسخًا وانتشاراً، واستيلاء الميليشيات على المنشآت النفطية ابتداء من 2013م.
ب- إشكالية البطالة وعدم وجود بدائل للشباب العاطل عن العمل قد أسهمت كل تلك المعوقات والتحديات في تعثر عملية الانتقال السياسي لمرحلة ما بعد الصراع وأدى إلى تضاؤل فرص نجاحه من خلال عملية سياسية تسْهم في بناء المؤسسات وسيادة القانون وتحقيق أسس العدالة الانتقالية التي تؤدي إلى كشف الحقيقة والمساءلة والمحاسبة وتعويض الإضرار وإصلاح المؤسسات بما يُسْهم في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني ودفع عملية المصالحة الوطنية"".
ثالناً: السيناريوهات الممكنة لبناء خارطة طريق، لإعادة البناء المؤسساتي للدولة الليبية: لإعادة البناء وتحقيق آليات الاستقرار لا يتم إلا عن طريق السيناريوهات الآتية:
1- السيناريو الأول: جمع الفرقاء على ميثاق وطني والاتفاق على الإطار الدستوري: يحتاج من مختلف الليبيين إلى تبني موقف توافقي بغية معالجة أسباب الانسداد السياسي ووضع خارطة طريق تتمثل في اعتماد مسودة مشروع ميثاق وطني يقوم على المبادئ الأساسية التي تحوز على إجماع الليبيين، وذلك عبر خطة عمل منظمة الأمم المتحدة ودول الجوار، وكذلك رعاية دولية بعيداً عن لعبة المصالح.
2- السيناريو الثاني: إعداد الانتخابات (إدارة العملية الانتخابية): إن الانتخابات في دول ما بعد النزاع تُعَدُّ أداة لبناء السلام، وذلك بالرغم من افتقار هذه الدول إلى القدرات المؤسساتية لإجراء الانتخابات؛ إذ أن هذه الأخيرة تمنح المواطنين فرصة المشاركة في شؤون بلادهم؛ وهو أمر بالغ الأهمية كونه يمنح شرعية للمؤسسات المنتخبة التي يحتاج إليها في الحكم في ظل الظروف الصعبة التي تعقب نهاية النزاع"". أما عن أهداف العملية الانتخابية في دول ما بعد النزاع فهي تتمثل في "":
1- نقل السلطة إلى حكومة تتسم بالديمقراطية وتتمتع بالشرعية الوطنية، وتكون قادرة على بدء إعادة بناء الدولة.
2- اعتبار الانتخابات خطوة أولية نحو تثبيت وتعزيز عملية التحول الديمقراطي وبناء المؤسسات الديمقراطية بعد الحرب، وتكريس المصالحة بين أطراف النزاع.
3- الاتفاق على نظام سياسي يعزز اللا مركزية، ووحدة ليبيا، وهيكلة المؤسسات وتوحيدها.
4- دمج حقيقي للميليشيات في جيش ليبي موحد بضمانات محلية وإقليمية ودولية.
رابعاً: أسباب وتاريخ ظهور الميليشيات المسلحة، وعددها، وتوظيفها، وتمويلها داخلياً وخارجياً:
نظرًا لأن الظاهرة الإرهابية عابرة للحدود فإن القضاء على الإرهاب يفترض تعاونًا دؤوبا وواعيا بين الدول، ومن عجائب القدر أن يكون أحد مظاهر تدويل العلاقات الدولية الحديثة تدويل الأنشطة الإجرامية والإرهابية، وإذا كان من الثابت أن الإرهاب وأعمال العنف لن تقل في كثافتها مستقبلًا والحد من آثارها، فإن هذه الجهود لم تتوصل إلى بلورة تعريف دولي يحدد بدقة الأعمال الإرهابية وترجع تلك الصعوبة إلى مجموعة من أسباب تشعب الإرهاب، وتعود أشكاله وأهدافه والطبيعة التي يتصف بها العمل الإرهابي واختلاط الأعمال الإرهابية وتشابكها مع صور العنف السياسي"". ولعل تحليل استراتيجية معرفة أسباب ونشأة وتاريخ ظهور الميليشيات وكيفية تمويلها، يمكن تتبعه من خلال:
- انتشار الجماعات أو التنظيمات الإرهابية في ليبيا: شهدت ليبيا في السنوات الأولى من سقوط النظام السابق فوضى أمنية تمثلت في سقوط مدينة بنغازي، التي كانت مهد الثورة بقبضة الميليشيات وسط انتشار عمليات الاغتيال والتصفية، كما زاد من انحدارها نحو الهاوية انتقال مقر المجلس الانتقالي إلى طرابلس، وانتشرت التنظيمات الليبية المسلحة التي تتبنى الفكر الجهادي المنتشرة في شرق وجنوب غرب البلاد.
بارتباطها بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب والصحراء الكبرى، وبعد إعلان تنظيم أنصار الشريعة سيطرته بالكامل على منطقة بنغازي، وإعلانها إمارة إسلامية دخلت ليبيا نفقًا مظلمًا، وحربًا أهلية بين أنصار التنظيمات المتطرفة والمرتبطة فكريًا بتنظيم القاعدة من جانب، والدولة الليبية الجديدة وبخاصة الجيش والشرطة في الحرب ضد هذه التنظيمات المسلحة التي بدأها اللواء خليفة حفتر، الذي عينه البرلمان الليبي قائدًا للجيش الليبي. كما أدى التدخل الدولي إلى خلق تحالفات داخلية، وتقسيم السلطة مما أدى إلى ظهور تنظيم الدولة داعش الذي بايعته مجموعة أنصار الشريعة. وكان خطر هذه الجماعات والتنظيمات في رفضها الانخراط في العمل السياسي"". لقد صارت ليبيا مع مرور الوقت مركزًا للإرهابيين في شمال إفريقيا، والدًي ساعد على انتشار هذه الظاهرة هو أن بعض الدول أسهمت بطريقة أو بأخرى في دعم وانتشار الجماعات المتطرفة، وذلك من أجل تحقيق مصالحها في ليبيا، إلى جانب أن مساحة الأراضي الليبية التي تتعدى المليون ونصف المليون كم2 أهم عوامل انتشار التنظيمات الإرهابية خصوصًا أن 90 %من السكان في ليبيا يرتكزون في المدن الساحلية في الشمال، أما في الجنوب فالطبيعة الصحراوية يغلب عليها أن الحدود مفتوحة. ومن أهم التنظيمات الإرهابية في ليبيا:
1- جماعة أنصار الشريعة: هذه المجموعة تُعَدُّ امتدادًا لفكر تنظيم القاعدة، وتتمركز في شرق ليبيا بنغازي، ودخلت هًذه المجموعة في مواجهات دموية مع قوات الجيش في بنغازي إلى أن تمكن الجيش الليبي من القضاء على وجودها في بنغازي، وتاريخيًا تم تشكيل هذه الجماعة في مدينتَيْ درنة ومصراتة، وتبنى التنظيم نهج القاعدة، وأعلنوا مبايعتهم لأيمن الظواهري، وعلى الرغم من ارتباط نشاط التنظيم بالعمليات الإرهابية في مالي فإنها حاليا تنتشر في جنوب ليبيا وغربها مستغلة الحالة الأمنية الرخوة في المنطقة وتقوم بتوظيفها كقاعدة انطلاق في هجماتها على دول الجوار في إطار الترابط بين الجماعات المسلحة في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء في إفريقيا، وقد أشار بعضٌ أن الجماعة قد أعلنت عن حل نفسها"".
2- تنظيم داعش (الدولة الإسلامية): تاريخ ظهور وتأسيس تنظيم داعش في مدينة سرت في وسط ليبيا يرجع إلى سنة 2014م، حيث أصبح يظهر ويعلن عن وجوده وينزع القناع الذي ارتداه طول المدة التي سبقت ذلك التاريخ، وبدأ التنظيم يمارس الكثير من الرعب ضد سكان المدينة من أجل زراعة الخوف في نفوسهم؛ وذلك لكي يتقبلوا وجود التنظيم في مدينتهم، ومن ثَمَّ يكون الرًعب دافعاً لالتحاق شباب المدينة بالتنظيم. وخلال تلك الفترة أصبحت كل الدوائر الحكومية في المدينة معطلة بشكل كامل بما فيها الدوائر الأمنية، وكل من يعمل بتلك الدوائر الأمنية أو ينتمي إليها عَدُّوه مرتداً واستباحوا دمه، وكذلك من يعمل بالمحاكم أو بسلك القضاء يسري عليه الحكم نفسه، ولهذا تم تفجير مقار المحاكم والنيابات أو حرقها أو الاستيلاء عليها...إلخ"". كما اعتمد التنظيم في تأسيس نفسه بليبيا على الفوز بالولاء من الجماعات المحلية، كما اعتمد على المجندين الليبيين الذين عادوا إلى بلادهم بعد القتال في سوريا والعراق. وفي مدينة درنة كانت داعش تدير معسكرات التدريب في الجبال خارج درنة، حيث ظهر هذا التنظيم في عام 2015م، وتمدد في منطقة برقة والمناطق القريبة منها على ساحل البحر الأبيض المتوسط في ليبيا"". ولقد تبنى تنظيم داعش بعض العمليات الإرهابية داخل الأراضي الليبية، كما نجح التنظيم في استقطاب العناصر الإرهابية من الجماعات الأخرى، كعناصر أنصار الشريعة الإسلامية وجماعة الشباب الصومالية، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي؛ لذا ينظر إلى التنظيم على أنه وارد من الخارج، أما على صعيد التمدد الاستراتيجي فقد اعتمد تنظيم داعش على عقد تحالفات مع غيره من الجماعات الإرهابية، حيث تحالف مع عناصر منشقة عن جماعة أنصار الشريعة"". وقد أدت حالة التفكك إلى الأزمات البنيوية والموجهات بين الجماعات والتنظيمات المسلحة و خلق بيئة مناسبة لتمدد تنظيم داعش داخل البلاد، ولقد استخدم تنظيم داعش شبكات التواصل الاجتماعي في ممارسة الحرب النفسية ضد السكان، وذلك بهدف إرهابهم وضمان خضوعهم له، وقام بنشر رسائل قوية عبر شبكات التواصل الاجتماعي لكي تعبر عن قوة وقسوة التنظيم"". إلى جانب ذلك حاول تنظيم داعش الاقتراب من مناطق النفط الليبي خلال عام 2015م، ومن ثَمَّ تأسست في ليبيا ولايات داعش؛ وعلى الرغم من نجاح قوات الجيش الليبي وقوات البنيان المرصوص في تفكيكها فإن عناصر داعش لا تزال نشطة في الداخل الليبي"". وذلك رغم انحسار السيطرة الميدانية من العام 2016م، وتركيز الجماعات التابعة لداعش يكون في مناطق تمركز المدنيين وقوات الأمن الليبية والمرافق النفطية"". وما لحق بالدول من أضرار نتيجة تنظيم داعش ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى شن غارات جوية بواسطة طائرات بدون طيار في 2016م، على معسكر للتنظيم في وسط ليبيا على بعد نحو 240 كم جنوب شرق مدينة سرت؛ وذلك بهدف منع تمركزه وتمدده في مناطق ليبية جديدة. ولقد شهد نشاط تنظيم داعش تراجعًا، ولكن استفاد من اتساع مساحة الدولة الليبية وعدم خضوعها للمراقبة؛ ما مكَّن من إنشاء معسكرات تدريب وتعزيز بنيته التحتية، وتشكيل خلايا تابعة له، وقد عانى التنظيم من نقص حاد في مصادر التمويل ما دفعه للبحث عن مصادر جديدة، وبدأ في المشاركة في أعمال التهريب؛ كتهريب المشتقات النفطية والسلع والبضائع والمخدرات"". وعلى الرغم من نجاح قوات ـ كما أسلفناـ الجيش الليبي وقوات البنيان المرصوص في تفكيكها فإن عناصر داعش لا تزال نشطة في الداخل الليبي ـكما أسلفناـ "". وحسب المعلومات غير المؤكدة فإن انحسار السيطرة الميدانية له من العام 2016 م. أما تمويل التنظيم فقد صدر تقرير عن مؤسسة "Hate Speech International(HIS)"في سبتمبر2016م عن مصادر تمويله، بعنوان: من يمول داعش في ليبيا؟ Who pays for Isis in Libya" قد تتبع مصادر تمويل التنظيم بأنه كان يعتمد على الأموال القادمة من داعش في العراق وسوريا. كذلك أشار التقرير إلى مسألة سرقة شاحنة تابعة للبنك المركزي الليبي في مدينة سرت في نوفمبر 2013م، وبأن الشحنة تحتوي على 55مليون دولار أمريكي، كذلك اعتماده على الضرائب والثروات من المناطق التي كان مسيطرًا عليها، وكانت هذه المصادر محدودة في ليبيا مما حجم من قوة التنظيم. وقد فشلت داعش ليبيا في أنشطة زيادة عائداتها من خلال الاتجار بالمخدرات والآثار وتهريب البشر، بالرغم من نقيضه التقارير الإعلامية"".
3- مجلس شورى بنغازي: كانت أول مجموعة تعلن ولاءها لتنظيم داعش في درنة، وقامت بجمع مقاتلين متطرفين من سوريا ومالي والجزائر، بالإضافة إلى عدد من الليبيين، وأعلن عن تأسيسها في 2014م، وقام بالسيطرة على عدة مدن ليبية مثل سرت ومدينة صرمان وصبراتة، وحاول هذا التنظيم بسط هيمنة على حقول النفط الليبية، وكانت درنة هي أول إمارة للتنظيم وبعد إطلاق عملية الكرامة في الشرق الليبي في عام 2014م، بهدف محاربة الجماعات الإرهابية، وتمكن من السيطرة على بنغازي ومدن الشرق وصولًا حتى الساحل الأوسط بما في ذلك سيطرته على منطقة الهلال النفطي الممتدة ما بين بنغازي وسرت وهي الأغنى بالاحتياطات النفطية"".
4- فجر ليبيا: هي جماعة إسلامية تسيطر على أجزاء واسعة من طرابلس، وهدًه الجماعة المتطرفة تمتلك
أسلحة ثقيلة بما فيها طائرات، وإلى جانب فجر ليبيا يوجد درع ليبيا وهي عبارة عن تجمع لمجموعات مسلحة متحالفة تحت هذا الاسم، وتعمل في عدة مناطق في ليبيا، كما أن شبكة المصالح والعلاقات الداخلية في ليبيا غير ثابتة أو نمطية، حيث يدل على هذا الصراع العنيف بين كتائب فجر ليبيا من جهة و"تنظيم الدولة الإسلامية" داعش من جهة أخرى؛ إذ دارت معارك عنيفة بين كتائب مصراتة وقوات داعش، ما يعكس هذا التصور الذي يحمله أبناء مصراتة بوصفهم الأكثر معاناة جراء الثورة، ومن ثم وقعت على عاتقهم المسؤولية الأكبر في حمايتها من قبل تنظيم داعش"".
الخاتمة: انطلقت الورقة البحثية في معالجتها لكيفية حل الميليشيات في ليبيا والمعضلة والأسباب التي تحول دون ذلك. وظن البعض بأن ذلك سيتم بسلاسة ويسر. كما تعمقت بالتأصيل لتاريخ ونشأة وتمويل الميليشيات. وعرفت المعضلة التي واجهت وتواجه الحل فعرفتها: بأنها موقف صعب أو مشكلة مستعصية يواجه فيها الفرد صعوبة في اختيار الحل المناسب. كما وضحت بأن التحديات تواجه تحقيق الاستقرار في ليبيا، كما وضحت كيفية مواجهة الخلافات الداخلية والخارجية، وأن من أهمها السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية. كما بينا بأن الأسباب: هي تمدد وانتشار التنظيمات المتطرفة، وصعود تنظيم داعش في سياق الفوضى الطاحنة في ليبيا، ونمو الجماعات المرتبطة بالإسلام السياسي؛ حيت أسهمت كلها بشكل أو بآخر في تعثر المسار الديمقراطي في ليبيا.
كما شكل الاتفاق السياسي الليبي منذ توقيعه بين أطراف الحوار الليبي معضلة حقيقية؛ والنتيجة عدم الالتزام بأي اتفاقات أو تفاهمات مع استمرار الخلافات الإقليمية والدولية.
كما رصدت أداء المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب الليبي من حيث الميزات والعيوب والسياق التاريخي لكل منهما، وذلك وفق منظور سياسي وأكاديمي، ليكون أول جسم تشريعي بعد الثورة، خلفاً للمجلس الوطني الانتقالي وأول تجربة ديمقراطية بعد الثورة.
كما وضحت النية في نقل البلاد إلى دستور دائم بإقرار قانون الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور.
كما طغت التجاذبات بين التيار الإسلامي (تحالف القوى الوطنية) على عمل المؤتمر؛ ما أدى إلى شلل تشريعي دائم وفشل في اتخاذ قرارات مصيرية، كالتمديد لنفسه وفقدان الشرعية الشعبية، فانتهت ولايته، من دون انتخابات جديدة، ما أثار غضباً شعبياً واسعاً، وخضوعه لتأثير الكتائب المسلحة، وبأن ذلك أدى إلى تعميق الانقسام السياسي والمؤسساتي. هذا الانقسام أدى إلى حكومتين ومؤسستين نقديتين وماليَّتين متصارعتين.
كما وضح إخفاق في إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وطول المدة من دون نتائج ملموسة واتهامات بالفساد المالي والإداري، كذلك تخصيص ميزانيات ضخمة للمجلس من دون رقابة، وورود تقارير حول فساد ومحاباة وتوظيف جهوي.
التوصيات: يتضح أنه لا يوجد توافر للإرادة الصادقة، والنيَّات الحسنة لا تكفي وحدها لإنقاذ ليبيا من أزمتها المعقدة؛ فتلك الإرادة لاقت مواجهات من إرادات متعددة محلية وإقليمية ودولية تخفي بُعدًا مصلحيًّا بالدرجة الأولى، لذا نوصي بالآتي:
1- ضرورة المصالحة الوطنية الليبية (تجربة رواندا).
2- الاتفاق على نظام سياسي يعزز اللا مركزية، ووحدة ليبيا، وهيكلة المؤسسات وتوحيدها.
3- دمج حقيقي للميليشيات في جيش ليبي موحد بضمانات محلية وإقليمية ودولية.
4- قضية السيادة والتصدي للتدخلات الخارجية في ليبيا.